واشنطن تقارب المشهد السوري الجديد بتفاؤل حذر لكن عودة ترامب الوشيكة تلجم إدارة بايدن في أيامها الأخيرة

واشنطن تقارب المشهد السوري الجديد بتفاؤل حذر لكن عودة ترامب الوشيكة تلجم إدارة بايدن في أيامها الأخيرة
محمد العزير
استقبلت واشنطن أخبار انهيار النظام السوري وهروب الرئيس بشار الأسد إلى موسكو في الثامن من كانون الأول/ديسمبر الماضي، باهتمام بالغ وحماس واضح دفعا الرئيس جوزيف بايدن، بعد يوم واحد، إلى تخصيص خطاب متلفز من البيت الأبيض، وجهه إلى الشعب الأمريكي لمناقشة الموقف قال فيه إن الإنهيار المفاجئ لنظام دمشق هو «إنجاز أساسي للعدالة» فيما وصف استلام المعارضة للسلطة بـ«لحظة من المخاطرة وعدم اليقين» وحاول إبراز الدور الأمريكي غير المباشر في سقوط الأسد، ممتدحًا سياسة إدارته في أوكرانيا والشرق الأوسط والتي أدت إلى إضعاف الحاميين الرئيسين للنظام، روسيا وإيران. لكن الحماسة الرئاسية لم تترجم نفسها في مقاربة فعالة للتطورات، وأتضح في الأيام التالية أن الملف برمّته سيكون تحت إدارة وزارة الخارجية، على أن يقتصر دور مجلس الأمن القومي، المرتبط مباشرة بالمكتب البيضاوي، على بعض المشاركات الإعلامية وتزويد الرئيس بإيجازات عن المستجدات.
كثيرة هي ملفات الوضع السوري التي تهم أمريكا، لكن الإدارة تواجه معضلة مزدوجة، الشق الأول منها هو ما تبقى من أيام قليلة على مغادرة بايدن للبيت الأبيض في العشرين من كانون الثاني/يناير الجاري، ما لا يعطيه وقتًا كافيًا لوضع خطة متكاملة للتعاطي مع التطورات، وفي التاريخ نفسه يعود الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى واشنطن مع ما ينطوي عليه ذلك من عدم يقين حول إمكان التزام ترامب بأية سياسة تضعها الإدارة المغادرة خصوصًا وأنه سارع إلى الترويج لمواقفه «الإنعزالية» المعروفة حيث قال في مداخلة مقتضبة له على التواصل الاجتماعي من باريس حيث كان يشارك في افتتاح كاتدرائية نوتردام بعد إعادة بنائها وترميمها بعد الحريق الذي أتى على معظمها: «سوريا في حالة فوضى وهي ليست صديقتنا. ولا ينبغي للولايات المتحدة أن يكون لها علاقة بالأمر بتاتًا، هذه ليست معركتنا… يجب الّا نتدخل». وفي مداخلات وتصريحات لاحقة تحمل سمات العشوائية اتهم ترامب تركيا بالقيام بعملية استيلاء غير ودية على سوريا وحاول تجيير الموقف لصالحه معتبرًا قراره بالقصف الصاروخي لأهداف سوريا عام 2017، واغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الجنرال قاسم سليماني عام 2020 من أسباب سقوط الأسد!
لكن التجاذبات السياسية والإعلامية في واشنطن لا تلغي كم الهموم الأمريكية الناشئة عن الوضع السوري وفي طليعة ذلك داخليًا، الكشف عن مصير الصحافي الأمريكي أوستن تايس (44 عامًا) الذي اختفى في سوريا صيف العام 2012، وأتهم النظام بالمسؤولية عن ذلك، وكذلك تحديد مكان جثة الطبيب النفسي الأمريكي، سوري الأصل، مجد كم الماز الذي أوقفته ميليشيات النظام عام 2017 وأُعلن في ايار/مايو الماضي، عن وفاته تحت التعذيب في العام الذي اعتقل فيه. وقد رصدت الحكومة الأمريكية مؤخرًا مبلغ مليون دولار كمكافأة لمن يدلي بأية معلومات تؤدي إلى معرفة مصير تايس ومكانه. وأعلن أكثر من مسؤول أمريكي عن مواصلة العمل مع الإدارة الجديدة للبت في الأمر.
الملف الثاني يتعلق، كالعادة بأمن إسرائيل، حيث أطلقت الإدارة الأمريكية يد حكومة بنيامين نتنياهو لقصف أية مواقع أو مخازن أسلحة تشكل «تهديدًا» لدولة الاحتلال، والتوغل في الجولان القنيطرة وجوارهما، وفي موازاة ذلك أعادت الصحف والمنصات الإعلامية الأمريكية المتعاطفة مع إسرائيل إثارة قضية مخزون الأسلحة الكيميائية والإستراتيجة التي خلّفها النظام، وأصبحت هذه القضية في طليعة الأسئلة التي يوجهها المراسلون للمتحدثين باسم البيت الأبيض ووزارة الخارجية والذين يؤكدون حرص أمريكا على التخلص من تلك الأسلحة بالكامل مع كل ما يمكن أن يتم تحويله إلى قدرات تسليحية في سوريا.
القواعد الأمريكية في سوريا
ينقسم الملف الثالث إلى ثلاث قضايا مترابطة تتعلق بتنظيم الدولة الإسلامية «داعش» في سوريا أولاها تكثيف العمل للتأكد من عدم استغلال التنظيم للتطورات لمحاولة إعادة تنظيم صفوفه والسيطرة على مناطق إضافية في البادية السورية، وقد نفذ الطيران الأمريكي سلسلة غارات عنيفة على المواقع المعروفة للتنظيم بوتيرة تشبه مرحلة بداية التدخل الأمريكي عام 2014، وأعلنت القيادة المركزية الأمريكية انها قتلت في غارة على منطقة دير الزور في 19 كانون الأول/ديسمبر مسؤول «داعش» المعروف باسم أبو يوسف محمد. تتمثل القضية الثانية في وجود القوات الأمريكية في قواعد عدة في سوريا. قبل التطورات الأخيرة كان عديد الجيش الأمريكي في سوريا حوالي 900 ضابط وجندي، لكن الأسابيع الأربعة الماضية شهدت تعزيزًا غير مسبوق لتلك القواعد حيث دخلت حتى الآن عشرات القوافل العسكرية الآتية من العراق عبر معبر البوكمال قاصدة المواقع الأمريكية التي لم تعد تخشى هجمات الميليشيات الموالية لإيران كما في السنوات الأربع الأخيرة حيث تجاوز عدد الجنود عتبة الألفين.
أما القضية الثالثة والأشد تعقيدًا فهي وضع مخيم الهول في محافظة الحسكة الذي يصفه المراقبون ببرميل البارود المنسي. يعيش في المخيم حوالي 56 ألف من عائلات مقاتلي تنظيم «داعش» الذي قتلوا أو اعتقلوا أو فروا بعد هزيمة التنظيم عام 2019، وبين الموجودين في المخيم 27 ألف أجنبي. تكمن المعضلة الكبيرة في أن الدول التي لها رعايا في المخيم لا تريد استعادتهم، خصوصًا دول أوروبا وأمريكا وكندا وأستراليا التي تحاول تفادي إنهاء هذا الملف، على الرغم من أن الأطفال والنساء أو الذين بلغوا السن القانوني قيد الإحتجاز موقوفون بلا سند قانوني وبلا ذنب مباشر ارتكبوه لكن حكوماتهم لا ترحب بعودتهم خصوصًا في ظل المزاج العنصري السائد في الغرب. وعلى أمل أن تنتقل إدارة المعتقل من قوات سوريا الديمقراطية «قسد» إلى الإدارة الجديدة في دمشق، تبقى هذه المسألة ضاغطة بشكل كبير إنسانيًا وقانونيًا وأمنيا، حيث لا مخرج للشباب والفتيان في ظل الظروف القاسية في المخيم سوى سلوك درب آبائهم عندما تحين لهم الفرصة.
يتصل الملف الرابع بالعلاقات المتناقضة بين «قسد» التي تتولى الإشراف على مخيم الهول وبين أمريكا التي تمنحها دعمًا ماليًا ولوجستيًا وسياسيًا كاملًا، مقابل علاقتها العدائية مع الجارة القوية تركيا التي تتهم «قسد» بإيواء ومساعدة حزب العمال الكردستاني الذي يخوض صراعًا مريرًا مع حكومة أنقرة لسنوات طويلة. فور الإعلان عن انهيار النظام السوري اندلعت اشتباكات عنيفة بين قوات محلية سورية تدعمها تركيا وبين «قسد» في المنطقة المتاخمة للحدود، خصوصًا في كوباني (عين عرب) ومنبج، ونجحت القوات الموالية لتركيا المنضوية في صفوف «الجيش الوطني» في السيطرة على عدة بلدات بمساندة فعالة من المدفعية التركية. وفي حين لوحت أنقرة باحتمال الشروع في البحث عن مخرج سياسي للقضية الكردية وسمحت لنواب أكراد باللقاء مع زعيم حزب العمال عبد الله اوجلان المسجون في تركيا منذ العام 1999 وذلك للمرة الأولى منذ عشر سنوات، أصرت حكومة الرئيس رجب اردوغان على عزمها تفكيك القوة العسكرية لـ «قسد» مهما كلف الأمر. بموازاة ذلك تقدم عضوان بارزان في مجلس الشيوخ الأمريكي، هما السيناتور الجمهوري لينزي غرام والسيناتور الديمقراطي كريس فان هولن بمشروع قانون لفرض عقوبات على تركيا لمنعها من التمادي في تدخلها العسكري في سوريا، ويدعو المشروع الذي يحمل اسم «قانون مواجهة العدوان التركي» إلى فرض عقوبات اقتصادية ومالية على أنقرة. بطبيعة الحال سيكون على واشنطن الكثير مما يمكنها فعله لحل هذه القضية بالتعاون مع الإدارة السورية الجديدة، لكن دورها في هذا الشأن يبقى مرهونًا بما يريده ترامب ومدى استعداده للتدخل في هذا الموضوع الشائك.
العقوبات الأمريكية
أما الملف الأخير، والأهم بالنسبة للسوريين إدارة وشعبًا هو العقوبات الأمريكية المفروضة على الدولة السورية، والتي ألقت بثقلها على الاقتصاد السوري إلى درجة خانقة خصوصًا بعد الانتفاضة الشعبية التي واجهها الأسد بالبطش عام 2011. بدأت العقوبات الأمريكية تدريجًا منذ العام 1979 على خلفية التحالف الناشئ بين الأسد الأب وبين الجمهورية الإسلامية في إيران حيث تم تصنيف سوريا كدولة داعمة للإرهاب. ومع أن العلاقات الأمريكية-السورية شهدت تحسنًا ملحوظًا عندما انضمت سوريا إلى التحالف الدولي لتحرير الكويت صيف 1990، عادت العلاقات إلى التوتر الشديد بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، حيث اتهمت واشنطن دمشق بتسهيل دخول المقاتلين العرب والأجانب إلى العراق لمواجهة القوات الأمريكية، ثم على خلفية الوصاية السورية على لبنان مع «قانون محاسبة سوريا»، لتتدرج تباعًا وتصل الذروة بعد 2011، حين بدأ الكونغرس في إقرار تشريعات تراوحت بين حظر التعامل مع المصرف المركزي السوري وبين «قانون قيصر» 2021، مصحوبة بعقوبات على رأس النظام وكبار المسؤولين فيه ورجال الأعمال المرتبطين بالحكومة. ولم تقتصر العقوبات على النظام بل طالت بعض مجموعات المعارضة ومنها هيئة تحرير الشام التي تقود الإدارة الانتقالية الآن.
وإذا كان رفع بعض العقوبات عن قائد ومسؤولي الإدارة الجديدة سهلًا، وبدأ برفع اسم أحمد الشرع عن لائحة المطلوبين أمريكيًا في أول لقاء بينه وبين مساعدة وزير الخارجية بربارة ليف في دمشق، فإن الكثير من المطبات تعترض طريق الإزالة الشاملة للعقوبات، ويبدو أن واشنطن ستستخدم هذا الملف لإبقاء الضغط على دمشق لإلزام قيادتها الجديدة بسياسات مناسبة من وجهة النظر الأمريكية، لكن التوقعات تشير إلى أن البدايات ستكون عبر السماح بدخول الإمدادات الإنسانية والمؤسسات الغربية المعنية بتقديم الخدمات الإغاثية والطبية كخطوة أولى لتلبية الاحتياجات الملحّة، على أن تكون الخطوة الثانية عدم عرقلة المساعدات العربية، خصوصًا الخليجية منها، للبدء في تحسين الوضع المعيشي المريع الذي يؤثر على حياة أكثر من تسعين في المئة من الشعب السوري الذي يعيش منذ سنوات تحت خط الفقر.
يحتاج البدء في رفع العقوبات، الضروري جدًا لإعادة الإعمار وتنشيط الاقتصاد المتهالك، إلى ورشة عالمية فعّالة تبدأ من دمشق وتنتهي في واشنطن، مرورًا بالأمم المتحدة والمؤسسات الدولية، وفي هذا السياق سيكون لدور قوى الضغط السورية التي تشكلت في واشنطن وتحافظ على مسافة متفاوتة بين قوى المعارضة الإسلامية وبين قوى الائتلاف السوري الذي كان يتصدر المشهد السياسي في بدايات المواجهة المفتوحة بين نظام الأسد والمعارضة، حيز ملحوظ. ولعل أبرز مؤسسات الضغط هو التحالف الأمريكي من أجل سوريا (American Coalition for Syria ) الذي يضم عددًا من المنظمات الناشطة في واشنطن والمدن الرئيسية، والتي لعبت دورًا مهمًا في تمرير عدد من قوانين العقوبات، والتي تجد نفسها الآن أمام مهمة جديدة لرفع العقوبات التي ساهمت في صنعها.
حتى الآن اتخذ الموقف الأمريكي شكلين واضحين من التعاطي مع الوقائع الجديدة في سوريا، فإلى جانب الشكل الميداني الذي سبق ذكره، اقتصر الشكل الثاني على مساعٍ دبلوماسية علنية خجولة تمثلت في مشاركة وزير الخارجية انتوني بلينكن في مداولات مؤتمر العقبة الذي انعقد في الأردن في الرابع عشر من كانون الأول/ديسمبر الماضي بدعوة من لجنة الإتصال العربية بشأن سوريا والتي تضم السعودية والإمارات وقطر والبحرين والأردن ولبنان ومصر والعراق وجامعة الدول العربية، وشاركت فيه الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وتركيا والمبعوث الأممي الخاص إلى سوريا غير بيدرسون. وقد دعا البيان الختامي للمؤتمر ضمن بنود أخرى إلى تشكيل حكومة جامعة في سوريا واحترام إرادة الشعب السوري.
أما الخطوة الأبرز فكانت زيارة بربارة ليف إلى دمشق ولقاؤها مع الشرع، في أول زيارة رسمية لمسؤول أمريكي إلى دمشق منذ العام 2012، حين أقفلت السفارة الأمريكية هناك. ورافق ليف في زيارتها المبعوث الرئاسي لشؤون الرهائن روجر كارستينز، والمستشار المعين حديثاً دانيال روبنستين، الذي أعيد تكليفه بقيادة جهود الخارجية الأمريكية في سوريا، للتوكيد على الهدف الأهم من الزيارة وهو مسألة الرهائن، كما شددت هي نفسها في لقاء صحافي عن بعد، بعد عودتها إلى واشنطن. وأثار إلغاء المؤتمر الصحافي الذي كانت ليف تنوي عقده بعد لقاءاتها في دمشق، تساؤلات عن مدى نجاح الزيارة التي جرت في أجواء إيجابية. بالطبع لم تقتصر الحركة الدبلوماسية الأمريكية على هاتين الخطوتين، ويرى المطلعون على الملف أن الاتصالات الأكثر جدية وتأثيرًا تجري عبر قنوات سرية أو عبر أطراف ثالثة خصوصًا الدول العربية المعنية بالشأن السوري.
لم تعط التطورات المتسارعة في دمشق فرصة زمنية كافية لإدارة بايدن التي تستعد لمغادرة واشنطن، ما يعني عدم التمكن من تكوين سياسة واضحة تجاه قضية مهمة ومتشعبة، ولا يبدو أن إدارة ترامب ستكون مستعجلة لوضع خطة جديدة، مع مخاوف حقيقية من اعتماد الرئيس العائد سياسة إطلاق يد نتنياهو في الشأن السوري، وهو ما لا يبشر بالخير.