
الرقص مع الأشلاء
بقلم أحمد بشير العيلة – قصة قصيرة
هو النزوح السادس لعائلة صبيح، هرباً من القصف الوحشي المستمر من منطقةٍ كانت تُدعى آمنة إلى أخرى شبه آمنة، وبين الأمان وأشباهه تلاحق الأجسادُ أرواحَها..
المئات بل الآلاف من عمليات النزوح القسري تحت النار سُجلت في غزة خلال عشرة أشهرٍ أو يزيد، كان كل نزوحٍ ملحمةً بذاتها، وكانت الملحمة الواحدة من ملاحم الفرار من الإبادة؛ كفيلة بأن تدوَّن في التاريخ والأدب العظيم عبر الأجيال، أين منها ملاحم الإلياذة وهوميروس والشاهنامة وجلجامش؛ هذه الأخيرة كانت الأستاذة الجامعية الجميلة نزهة صبيح تدرسها في جامعة الأقصى لطلاب الدراسات العليا في منهج الأدب الكلاسيكي، كان الطلاب يُفتنون بطريقتها في إلقاء أبيات قصائد الملاحم وطريقة تفسيرها، بل وكيف تدفع بأحداثها باتجاه حب الحياة، وعادةً ما يصاحب كل نزوحٍ للأستاذة نزهة، موت أحد حاملي الهموم في السيل البشري الفلسطيني المنهَك، فيدفع الأسى نزهة وتتذكر لحظتها أسى جلجامش على موت إنكيدو في رحلته الطويلة المحفوفة بالمخاطر لاكتشاف سرّ الحياة الأبدية. لكن النازحين هنا لا يستكشفون الحياة ولا تستكشفهم الحياة، بل يكتشفهم الموت الذي يبحث عنهم بشراهة.
وصل سيلُ الأجساد المتهالكة من مواصي خان يونس إلى دير البلح مشياً على الأقدام، فمنهم من دلّع هذه الأقدام بحذاءٍ قديمٍ حافظ عليه كما يحافظ على قنينة الماء، ومنهم من امتهن الحفو حتى تكلست قدماه من بعد رحلة التسلخ والتدمي والتشقق، ومن حسن حظ نزهة أنها اقتربت في دير البلح من عمل زوجها سراج، الذي تزوجته قبيل الحرب بشهرين اثنين فقط، وسكنا شقة صغيرة في أحد أبراج حي الرمال الراقي، الذي اختفى الآن تماماً عن الخارطة بسبب النسف المستمر الوحشي لمربعاته السكنية من قبل الصهاينة..
– “لقد استشهد حي الرمال وصعد إلى السماء”
هكذا كانت ترد نزهة على من يسألها عن مكان سكنها الأصلي قبل الحرب.
…..
سراج النجار زوج نزهة؛ كان يعمل ضابطَ إسعافٍ في فرق الطوارئ في دير البلح، وكان أيضاً محباً للأدب حيث كان أحد طلابها في الماجستير الذي التحق بجوار عمله رغبةً في تطوير ذاته وتحسين وضعه، جلس أمامها طالباً على الرغم من أنه كان يكبرها بخمسة سنوات، نبتت قصة الحب بينهما بين قاعات الدرس، وكم كانا يتذكران عباراتهما الفارقة في العشق المزروعة بسطورٍ التوليب، والمرشوشة بندى صباح غزة، فكم كان يقول لها:
– أتمنى لو تكون قصتنا ملحمة شعرية كبيرة. لكن لا أحد فينا شاعراً.
حين علم سراج بوجود زوجته وأهله وأهلها إلى دير البلح، كان يقتطع جزءًا من وقت راحته ليجلس بينهم، وكان من الصعب أن يقول لزملائه أنه ذاهبٌ للراحة، فالراحة قُصِفت هي الأخرى ومُسحت من سجل الحياة الفلسطينية في غزة…
– سراج، إلى متى يا سراج نظل نموت كل يوم؟
ظل ردُّ سراج على هذا السؤال الدائم لنزهة مجردَ تحليلٍ سياسي مدهونٍ ببعض عبارات التصبير الروحية، ثم يمضي.
كانت زياراتُ سراج المتقطعة المتباعدة إضاءاتٍ قمرية في روح نزهة التي وصلت إلى الإظلام التام بفعل اليأس، تعبت من مواساة نفسها ومواساة الآخرين، وعندما تصل إلى مرحلة أن تيأس من المواساة، فأنت في بؤسٍ عظيم لا يعرفه إلا الفلسطيني، لكن نزهة، أستاذة الأدب الكلاسيكي، هي التي تعرف كيف تُولد الملاحمُ من هذه النقطة بالذات: نقطة الانهيار البشري، وكم سألت نفسها، وهي تنزح من أرضٍ سامية إلى أخرى أعرق منها، هل يا ترى سيصنع شاعرٌ فلسطيني ما هذه الملحمة؟ وتذكرت عبارة زوجها مرة أخرى:
– كم أتمنى لو تكون قصتنا ملحمة شعرية كبيرة…
……….
همست له ذات زيارة سريعة لخيمة العائلة:
– سراج، أحبك
نظر طويلاً في عينيها، ثم همس:
– هل تذكرين ونحن في بيتنا في الرمال، كيف كنا نرقص slow سوياً وماجدة الرومي تغني لنا فقط.”يسمعني حين يراقصني، كلماتٍ ليست كالكلمات”.
يدمع الاثنان، يشد على يدها ثم يغادر، وهي تدخل في نوبة بكاءٍ طويلة.
….
بعد يومين من هذا الفراق المموسق بالدموع، قصف العدو إحدى مدارس الأونروا التي لجأ إليها مئات النازحين، وهي المدرسة ذاتها التي حاولت عائلتي صبيح والنجار اللجوء فيها، إلا أن الازدحام حال دونهما فسكنا مساحة قابلة للحياة بين عدة نخلاتٍ على أطراف دير البلح. أسرعت فرقة سراج لإسعاف من هم على قيد الحياة، وانتشال من فارقها إلى الأبد من تحت الركام، كانت المشهد سوريالياً وعبثياً بامتياز، الناس تجري بعيداً عن المدرسة وهي في حالة ذعر والدماء الممزوجة بتراب المدرسة المنهارة تغطي وجوههم وأجسادهم، وكلما حاول سراج وزملائه أخذ هؤلاء المصابين لسيارات الإسعاف، كانوا يقولون كلهم نفس الكلام:
– نحن بخير، بخير، انقذوا الذين تحت الركام…!
بدأت الفرقة وعدد من المواطنين عمليات الانتشال، لكن حدثت الكارثة..
…….
وصل الناعون بسرعة إلى خيمات عائلتي النجار وصبيح:
– اليهود قصفوا المدرسة مرة ثانية، كل المسعفين استشهدوا..
من دون وعي؛ ركضت نزهة نحو المدرسة، وبعد أكثر من ثلث الساعة جرياً وصلت ووقفت لدقائق أمام مشهد الضربة الثانية والدموع تسح من عينيها دون أن تدري، مسحت دموعها وأزاحت بيديها المتجمهرين وهي تصرخ:
– أين سراج؟ أين سراج؟
– سراج استشهد يا أختي….
أغمى عليها للحظات، وكأن هذه الإغماءة طبطبة ربانية لتهدأ خوفاً من الانهيار التام، أو ربما الموت كمداً، ثم نادت..
– وين جثمانه؟ وين جثمانه؟
يردد بعضهم:
– أروها جثمان سراج.
كان الجثمان ممزقاً مهشم الرأس مبتورة إحدى الأرجل، حتى سترته البرتقالية ممزقة والدم ينزف منها كأنها جلده، أحست بلا وجودها… فقدت السيطرة على مشاعرها… هجمت على جثمان سراج، نشلته من بين الشهداء، وبلا وعيٍ احتضنته وشبكت يديها في يديه المدماتين، وتجرجرت رجله المتبقة على الأرض، رمت رأسه المهشم على كتفها وصارت ترقص slow ، وتهمس له بنغم داخلي يمزق روحها:
– يسمعني حين يراقصني، كلماتٍ ليست كالكلمات..
ثم تصرخ:
– أسْمِعني كلماتك يا سراج ، هيا أسمِعني
حاول الناس نزع الجثمان منها، وهم يرددون:
– وحدي الله .. وحدي الله..
ولما يئسوا من شدة تمسكها به، قال البعض:
– اتركوها تودعه.
ظلت نزهة تراقص سراج الشهيد صامتة وعيناها في تردد دامع بين الجحوظ فجعاً والإغماضة في موسيقى لم تعزف إلا لها حتى في الموت، هدأت قليلاً، استطاعوا في هدوئها هذا نزع جثمان سراج منها، لكنها ظلت في حالة رقصٍ أبدي تتهادى فاتحة يديها دون أن يُسْمِعها سراج كلماتٍ ليست كالكلمات. ودون أن تنبس هي بأي كلماتٍ بعده.
أحمد بشير العيلة
19 أغسطس 2024