مقالات

حيرة الشباب في مواجهة المرحلة

حيرة الشباب في مواجهة المرحلة

عوض عبد الفتّاح

للطلائع الجديدة ذات الثقافة التحرّريّة الشاملة، المولودة في رحم أزمة طاحنة غير مسبوقة، أهمّيّة بالغة، على المستوى الإستراتيجيّ. ولكنّها، أو غالبيّتها، تفتقر إلى الخيال التنظيميّ الأوسع، أو تتهيّب تخيّل حركة شعبيّة واسعة، وطنيّة، ديمقراطيّة، عابرة للقرى والمدن…

يحار الشباب الفلسطينيّ، وبصورة خاصّة الأكثر حساسيّة بالظلم ووعيًا بالشأن السياسيّ، بشأن أيّ منفذ يمكن الولوج منه إلى وضعيّة تتجدّد فيها الفاعليّة الفرديّة والجماعيّة.

اشتدّت هذه الحيرة، وتحوّلت إلى توتّر داخليّ شديد مع توغّل وتفاقم كارثة حرب الإبادة ضدّ شعب فلسطين، الكارثة الإنسانيّة والمادّيّة والسياسيّة، وما نجم عنها من وقع نفسيّ شديد وشعور بالعجز. وتصبح الحالة كابوسًا عندما يدركون أنّنا لسنا في نهاية الحرب، بل قد نكون، وهو الأرجح، في أتون مواجهة متواصلة وصراع ممتدّ عابر لفلسطين. هذا ما لمسته منذ بداية الحرب الهمجيّة الصهيونيّة، وفيما بعد خلال لقاءات عديدة منظّمة أو بالصدفة مع عيّنات من هذا الجيل. وقد لاحظت تزايد تنظيم الحلقات والورشات الّتي تدور حول علم النفس التحرّريّ، وهو مدخل جديد في حياة النشاط السياسيّ عند الشباب الفلسطينيّ. وبالمناسبة، لا يغيب موضوع الإجرام المنظّم وآثاره النفسيّة عن تلك الحلقات والمداولات، خاصّة في أوساط شباب مناطق الـ48.

يطرح الشباب، وخاصّة طلائعهم المثقّفة، والأقلّ ثقافة أيضًا، أسئلة لم نعتد عليها. أسئلة تمتزج فيها التأمّلات اليائسة والوجوديّة بالبحث عن طرق للتأثير وإثبات الذات والاحتفاظ بالتوازن النفسيّ. كما يعرف الجميع، فقد لاذ الكثيرون بالصمت كوسيلة للبقاء والحماية من التوحّش الإسرائيليّ، وعبّر آخرون عن آرائهم بحذر شديد، في حين واصل جزء آخر وهو قليل العدد، نشاطه الثقافيّ والأدبيّ، مع قليل من التحرّك الشعبيّ. مع ذلك، تعرّض عدد كبير من الشباب، وغالبيّتهم غير معروفين بنشاط سياسيّ فرديّ أو منظّم، لملاحقة واعتقال وإهانات وطرد من العمل، وتعليق دراستهم الجامعيّة. كلّ ذلك يتمّ وفق خطّة ومنظومة إرهاب وتخويف وإسكات صمّمت عن سبق إصرار، في إطار سعي نظام الأبرتهايد الإباديّ لاستعادة ثقة جمهوره بمشروعه الاستعماريّ، العنصريّ، العدميّ. وهذا لا يتحقّق، وفق منظور هذا النظام المتوحّش، إلّا من خلال تدمير “الأعداء”، مادّيًّا، أو معنويًّا، أو سياسيًّا، أو اجتماعيًّا، أو كلّ ذلك مجتمعين. والأمر المهمّ أنّ هذه الطلائع تدرك هذا السيناريو المحتمل، وقد تراكم لديها كمّ هائل من الحقد والغضب، الّذي سيتحوّل حتمًا، يومًا ما، إلى طاقة هدّارة تتحدّى الخطر، وتنخرط في عمليّة بناء مستقبل متحرّر وإنسانيّ ومساواتي، يختلف عمّا يسعى إليه المستعمر.

لا يزال العديد من المثقّفين والأكاديميّين الفلسطينيّين، خاصّة من هم في المهجر، يعتقدون أنّ فلسطينيّي الـ48 يحظون بموقع يؤهّلهم بلعب دور مميّز في النضال الفلسطينيّ، مع أنّ هذا الرأي يواجه بجدل دائم وبتقييمات متباينة، وإن كان بعض هؤلاء الأكاديميّين والمثقّفين تراجع حماسه وآماله بسبب العجز العامّ. على مستوى منطقة الـ48، فمن يحملون آراء راديكاليّة، يشكون في قدرة هذا الجزء من شعبنا على القيام بدور يتجاوز الحفاظ على بقائه، على الأقلّ في الفترة القريبة والمتوسّطة. وتيّار آخر يعتقد أنّه قادر على لعب دور مهمّ في التـأثير في السياسات الإسرائيليّة من خلال العمل البرلمانيّ، أو من خلال العمل المشترك مع منظّمات صهيونيّة ذات نزعات ليبراليّة ترفع شعار المساواة، رغم القيود الجديدة على كافّة أشكال النشاط السياسيّ. أمّا الجزء الآخر، فهو يبني رؤيته لدور فلسطينيّي 48 ليس استنادًا على وضعيّتهم الراهنة الّتي تتّسم حاليًّا بالضعف والانحسار، بل استنادًا إلى تجربتهم المتراكمة تاريخيًّا، وعلى طاقتهم الكامنة الّتي اختبرت بنجاح في أكثر من منعطف تاريخيّ، كان آخره هبة الوحدة والكرامة عام 2021. ولا يستثني أنصار هذا الفريق الحلفاء اليهود التقدّميّين الحقيقين من هذا الدور التحرّريّ. أمّا غياب الفاعليّة المجلجل خلال حرب الإبادة، فلا يجوز الحكم عليه وكأنّه إسدال الستار على الفاعليّة السياسيّة في المستقبل. إنّ وراء غياب هذه الفاعليّة وإمكانيّة تجدّدها أسباب وخلفيّات عميقة درسها خبراء ومختصّون في ظروف هذا الجزء من الشعب الفلسطينيّ، ويجدر لمن يجهل تعقيدات واقع هذا الجزء، أن يطّلع على تلك الدراسات الّتي صدرت قبل حرب الإبادة، وخاصّة ما بعدها.

يتّسم المشهد داخل الخطّ الأخضر بتسارع المخطّط الصهيونيّ الهمجيّ الهادف إلى تعميق التهويد وتجفيف قدرات الفلسطينيّين على الثبات، وعلى الإبداع أو اجتراح تصوّرات ومنافذ لحماية الذات. وفي الوقت ذاته، يواجه من لا يزالون يتبوّأون المسؤوليّة الرسميّة في لجنة المتابعة العليا، وهي الهيئة التمثيليّة العليا لفلسطينيّي الـ 48، والأحزاب، صعوبة في إحداث نقلة نوعيّة من حالة الصمت ونقص الفاعليّة، الناجمة ليس عن منظومة المراقبة والقمع فحسب، بل أيضًا بسبب ضعف القدرة على التخيّل والإبداع، إلى مرحلة من الفعل الشعبيّ المؤثّر. ليس هذا الغياب تعبيرًا عن فشل مطلق، إذ هناك قدر معيّن من الفعل، والتنظيم، والفاعليّة، وإن كان قاصرًا عن إحداث هذه النقلة النوعيّة المطلوبة.

ومع أنّ كارثة الإبادة بحقّ شعبنا في غزّة، ومخطّط الاستيطان والنهب، والقمع، وهجمات وحوش المستوطنين في الضفّة الغربيّة، لا تقارن بأيّ كارثة أو خسارات أخرى، فإنّ فلسطينيّي 48، يتعرّضون لنوع من فعل الإبادة البطيء، ويمكن وضعها في إطار الإبادة المجتمعيّة، ألا وهو الإجرام المنظّم المدعوم من الشرطة والدولة الصهيونيّة. إنّها إبادة تدريجيّة تستهدف تفكيك المجتمع وتذريره إلى أفراد، وتغيير سلوكهم بحيث تختزل حياتهم الإنسانيّة في نزعة البقاء، وهي نزعة حيوانيّة. إنّ مخطّط الإجرام المنظّم يقضّ مضاجع المجتمع الفلسطينيّ، أفرادًا وجماعة، بحيث بات كلّ فرد مهدّدًا لمجرّد أنّ قريبه مرتبط بالإجرام، أو متورّط بقروض من السوق السوداء.

لسنا عاقرين

إنّ الشعب الفلسطينيّ، وبما فيه فلسطينيّو 48، ليس عاقرًا. فكما في كلّ تجمّعات الشعب الفلسطينيّ، في الداخل والخارج، ولد المجتمع الفلسطينيّ داخل الخطّ الأخضر طلائع مثقّفة وأكاديميّة وناشطة سياسيًّا من الجيل الجديد، تحمل فكرًا وازنًا، وثقافة تحرّريّة عميقة، إنسانيّة وكونيّة. ومنهم أدباء شباب متحرّرون من أحزاب وفصائل تجمّد فكرها وأداءها وانكمشت قواعدها، ومن شلليّة اتّحادات الكتّاب وتقليديّتها وانعزالها عن المجتمع. ويبدو إقبال هذه الطلائع الجديدة يمثّل تعويضًا، عفويًّا أو موضوعيًّا، عن تآكل وجمود وفوات الكيانات السياسيّة التقليديّة عن هضم المتغيّرات العاصفة والمتسارعة. يمكن القول إنّ هذه الطلائع الجديدة ساهمت وتساهم في إنشاء وعي ثقافيّ وأدبيّ وسياسيّ جديد أو متجدّد على أنقاض الجمود، وفي مواجهة الترهيب، وعي مسنود برؤية ثقافيّة اجتماعيّة متقدّمة، تستند إلى، وتستدعي إرث مفكّرين ومناضلين مثقّفين فلسطينيّين وعرب وأجانب ديمقراطيّين وتقدّميّين من زمن التجربة الكفاحيّة ضدّ الاستعمار الكولونياليّ والإمبرياليّة، والّذين تراجعت وتوارت آثارهم منذ سقوط الاتّحاد السوفييتيّ وانتهاء الحرب الباردة، وانتصار النظام الرأسماليّ النيوليبرالي المتوحّش. وهو نظام يواجه الآن تحدّيات جدّيّة، سواء من كتل دوليّة جديدة، أو من الشعوب، ومعها كتل واسعة من الأكاديميّين والمثقّفين التقدّميّين.

للطلائع الجديدة ذات الثقافة التحرّريّة، الشاملة، المولودة في رحم أزمة طاحنة غير مسبوقة، أهمّيّة بالغة على المستوى الإستراتيجيّ. ولكنّها، أو غالبيّتها، تفتقر إلى الخيال التنظيميّ الأوسع، أو تتهيّب تخيّل حركة شعبيّة واسعة، وطنيّة، ديمقراطيّة، عابرة للقرى والمدن، تستطيع ربط كلّ هذه الطلائع، والأطر الشبابيّة، والأكاديميّة، والمدنيّة، والأهليّة، والنقابيّة، تحت سقف واحدة يقوم على التنوّع والوحدة، ورؤية تحرّريّة وطنيّة وإنسانيّة، أو على الأقلّ المبادرة لبناء أطر ثقافيّة مناطقيّة، لها بعد سياسيّ، بمعنى لديها تصوّر لمشروعنا الوطنيّ في الداخل، وعلاقته بالمشروع الوطنيّ الفلسطينيّ التحرّريّ، بدل التمركز في المحلويّة، أو التخصّصيّة. وهذا تحدّ هامّ لا بدّ من خوض غماره.

إنّ عقد لقاءات تثقيفيّة تجديديّة، وتنظيم نشاطات ثقافيّة سياسيّة، مكثّفة ودوريّة، تركّز على إستراتيجيّات التغيير المنظّم، قد تكون بداية صحيحة وذات فاعليّة، وتأثير في تحويل الحيرة والصراع النفسيّ الداخليّ إلى فعل واسع ومؤثّر في عمليّة الحفاظ على الجيل الشابّ، وعلى الذات الجمعيّة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب