منوعات

دموع في عيون وقحة

دموع في عيون وقحة

راشد عيسى

يتصرف السوريون، في معظمهم على ما يبدو، بقدر كبير من المسامحة مع مختلف خصومهم السابقين، وقد يكون مردّ ذلك فرحتهم العارمة الاستثنائية، ورغبتهم المتعطشة للعيش، بعد عقد مُرّ من الفقر والفقد والبرد والجوع الشديد، كما القهر والإذلال وتقييد الحريات.
يتسامحون، لكن ليس مع من يقوم «باستهبالهم»، كما في ظاهرة واسعة من «المكوّعين» (الموالين الذين انقلبوا تماماً مع خبر هروب المخلوع بشار الأسد)، فوراً رفعوا الأعلام الخضراء، وباشروا سمفونية الندم والبكاء، وليت الأمر توقف عند هذا الحد، فالنغمة التي طغت هي نبش مواقف من الماضي يفهم منها على أنها بطولةٌ ما تجاه النظام.
بالطبع ليس المقصود عموم الناس المجبرين على الصمت، نتحدث هنا عن الموالين الأشداء للنظام الساقط، وباتوا اليوم من أشد الشاتمين له.

عندما سئلت سوزان نجم الدين إن كان بشار قد قتل شعبه، قالت: «الآن أقول نعم، بعد أن شاهدنا السجون»، وبكت

أبرز هؤلاء كانت الممثلة سوزان نجم الدين، التي ارتدت فستاناً وأقراطاً بلون العلم الأخضر، وعندما سئلت إن كان بشار قد قتل شعبه، قالت: «الآن أقول نعم، بعد أن شاهدنا السجون»، وبكت. ما عرّضها لموجة سخرية واسعة استعادت مواقف وفيديوهات صريحة لها في مديح النظام.
نجم الدين من عائلة عريقة في موالاة النظام، وقد تكون بالفعل لا تعرف تماماً ما يجري في سجن صيدنايا، فحتى الذين يعرفون ويتابعون ربما فوجئوا بحجم الجريمة هناك، لكن لا بد أنها تعرف ما يجري عموماً في فروع أمن النظام وسجونه، خصوصاً أنها شقيقة ضابط في المخابرات. إنها تعرف بالطبع ما يجري في السجون، النظام نفسه حرص على إعلان تخويف وترعيب السوريين، بطريقة أو بأخرى، وإلا كيف كان سيحكم من دون ذلك.
هكذا فإن بعض «المكوعين» لم يكتف بـ«النطق بالشهادتين» وحسب، بل راح ينسب لنفسه بطولات. بدا الأمر كوميدياً تماماً وهم يقتبسون من حياتهم السابقة أي شي، أي اعتراض أو انتقاد كإثبات انتماء قديم للمعارضة.
هذا أحد أبرز كتّاب النظام وممثليه يستعيد صفحات مطولة يحاول فيها إثبات مشاركته في حوارات سابقة لمؤتمرات شاركت فيها المعارضة. وكان محقاً بالفعل سؤال البعض كيف بإمكانه أن يكوّع من وَشَمَ على حاله صورة لأحد أفراد عصابة الأسد، لكن لربما كان محو الوشم أسهل من محو فيلم في مديح بطولات الأسد، أو رواية كتبت في تمجيد بطولات جيش النظام. يستطيع «الشبيح» أن يقص يده، وفي النهاية قد يكون الوشم في مكان بعيد خفي عن العيون، أو يسهل إخفاؤه، لكن الرواية والفيلم شاهدان صارا ملك الأرشيف والذاكرة.
كاتبٌ آخر مثابر، وصوره مع المخلوع بشار تملأ فضاء مواقع التواصل، وكان قد أنجز سيناريو فيلم أثناء الحرب والثورة لصالح المؤسسة العامة للسينما في مديح الأسد الأب. أراد أن يخدعنا، وهو الكاتب لصحيفة عربية، بأنه كان تحت سيف الرقابة، وسيتحفنا (الآن فقط) تباعاً بمقالاته التي كان يخشى من عرضها للعامة، كمقال «شجاع» عن رواية تتناول حياة السجون.
المخرج سيف سبيعي، كان له ثورته أيضاً، وتكويعته، ومن بين أعماله المحفورة تأديته لدور صحافي في فيلم بعنوان «رجل الثورة» من إخراج نجدت أنزور، الذي يجهد بوضوح في دحض الروايات الإعلامية المناهضة للنظام السوري، وخصوصاً تكذيب حقيقة «الخوذ البيضاء» (رجال الدفاع المدني السوري الذين يعملون في مناطق سيطرة المعارضة، وكانوا شهوداً على إجرام النظام وكذلك الإجرام الروسي). ولا شك أن سبيعي لم يكن مجبراً على أداء ذلك الدور.
ظهر سبيعي في فيديوهات تكويعية عديدة لا يؤخذ منها حق ولا باطل، إذ اكتفت فقط بالشتم المقذع لبشار الأسد، وكان منتظراً من أحد أبرز مخرجي الدراما التلفزيونية أن يقدم وقائع تكشف عن وجه من وجوه النظام. إن كان هناك بعد ما يمكن كشفه، بعد كل ما شاهدنا. غير أن سبيعي، في سياق ادعاءاته، وقع في موجة جدل واتهامات مؤسفة ومفترية لمعارضين.

كانت تكفي كلمة واحدة للاعتذار، والبحث عما يمكن إضافته لإدانة مجرمي النظام ما يقود إلى ملاحقتهم ومحاكمتهم

وقع سبيعي في تناقض فاضح في إحدى المقابلات، إذ يروي قصة تسلّمه إخراج مسلسل «الولادة من الخاصرة» (للكاتب المعارض سامر رضوان) بعد أن تركته المخرجة رشا شربتجي خوفاً. أكد سبيعي أنه قال لمنتج العمل، بعد قراءته للسيناريو، إنه مكتوب في أقبية المخابرات، ذلك لأنه، حتى لو كان يتضمن مشاهد مظاهرات ضد النظام، ويفضح فساده، فهو يضع الذنب برقبة ضابط أو اثنين، ما يعني تبرئة للنظام، وعلى ذلك سيقبل سبيعي إخراجه.
بعد إنجازه سيتصل به طرفٌ على صلة بماهر الأسد مبدياً مخاوفه من أن سيف قدَّمَ ما يُغضب ماهر الأسد، ومجدداً سيستخف سبيعي، ويبدو واثقاً من أنه لم يفعل ما يُغضب، فهو في النهاية أخرج عملاً مكتوباً، حسب زعمه، في أقبية المخابرات. التناقض هنا أن سبيعي يسوق الرواية في إطار نبش إحدى بطولاته ضد النظام، وتأكيده أنه لم يكن ساكتاً، كما يتهمه المعارضون، بل كان ينخر بصمت في أسنان النظام.
الأمر أبسط من كل ذلك، كانت تكفي كلمة واحدة للاعتذار، والبحث عما يمكن إضافته لإدانة مجرمي النظام ما يقود إلى ملاحقتهم ومحاكمتهم.
يتورط البعض في جدل ومماحكة تورطهم أكثر في سقوط جديد، تماماً كما الحال مع مقابلة للممثل بسام كوسا، الذي أراد، هو الآخر، إثبات معارضته، وأنه كان مجبراً على المقابلات المتلفزة إلى جانب فنانين آخرين مع بشار الأسد، وراح يبرر بعض تصريحاته بلفّ ودوران مكشوف.
يبدو أن «تكويعات» المثقفين والفنانين تحديداً ستشكل مسلسلاً لا يستنفد، ولربما لم يعد التكويع في حد ذاته مستغرباً، أو محلاً للمعاينة، بقدر ما باتت كيفية التكويع هي الأمر المثير.

*  كاتب من أسرة «القدس العربي»

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب