ما بعد الشغور الثالث: تداول السرديات في لبنان
ما بعد الشغور الثالث: تداول السرديات في لبنان
وسام سعادة
بانتخاب العماد جوزف عون رئيساً للجمهورية يكون لبنان قد تجاوز «قطوع» التجربة الثالثة من الفراغ الممتد زمنياً في المنصب الأول بالدولة اللبنانية بعد اتفاق الطائف.
يأتي هذا الانتخاب في وقت تفصلنا أيام قليلة عن انتهاء أجل الهدنة التي على أساسها عُلّقت – نسبياً – حرب التدمير الإسرائيلية، كما يسابق انتخاب عون موعد عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض والعناوين التي ستحملها إدارته الجديدة فيما يتعلق بإسرائيل ونزاعات المنطقة.
يأتي الانتخاب في وقت تحللت فيه إلى حد كبير الرابطة بين الشكل الدستوري وبين المضمون الاجتماعي والسياسي للدستور. فالبلد يخوض في المواد وأرقامها، وقد ضمر فيه العقد الاجتماعي.
لقد خرج لبنان لتوه من هيمنة سردية حزب الله عليه؛ وهذه السردية كانت تترجم داخليا، بأن الأمور ينبغي أن تكون ميثاقية وإجماعية حين يرتئي الحزب ذلك، وتكون أحادية، بقرار منه، في الموضوعات التي يعتبرها حكراً عليه، أي في العناوين السيادية. إلا أن البلد لم يخرج من هذه السردية استنادا الى ديناميات داخلية، وإنما بعد أن اختبر شهرين من الرعب الإسرائيلي الذي ترجم نفسه بشكل متفاوت بين المناطق والطوائف، إنما بالشكل الذي جعل حزب الله يطلب وقف إطلاق نار بغرض استرداد الأنفاس، في الوقت نفسه الذي يحظر فيه وقف إطلاق النار هذا تحديدا هذه المسألة: استرداد الأنفاس!
جاء خطاب قسم الرئيس جوزف عون حال انتخابه، ليشكل إلى حد بعيد تكيفاً معقولاً مع الوضع الراهن، ومع تحدي منع تجدد الحرب الإسرائيلية من جهة، والحؤول دون تدهور الوضع في الداخل من جهة ثانية. لكن الخطاب كان واضحا للغاية من جهة أن عصر سردية «جيش وشعب ومقاومة» قد طوي في تاريخ لبنان. البديل عن هذه السردية لا يمكن أن يكتفي في المقابل بتثبيت مبدأ حق الدولة وحدها في احتكار السلاح، دون تشبيك هذا المبدأ مع تصور أكثر شمولية لكيفية عيش التعدد في لبنان ولكيفية الاتفاق على قوانين اللعبة التنافسية داخله ولكيفية وحدود التكيف مع التحولات الإقليمية.
في الوقت نفسه، حصل الانتخاب بالتجاوز على صريح النص الدستوري الذي لا يجيز في مادته 49 انتخاب أي من موظفي الفئة الأولى «مدة قيامهم بوظيفتهم وخلال السنتين اللتين تليان تاريخ استقالتهم». والحال أن عدم وجود مناعة دستورية قادرة على تأمين سند نصي يعترض تكرار حالات الفراغ والتعطيل، وتهافت صيغة تقدم نفسها كديمقراطية برلمانية من دون شبكة ضوابط وتوازنات من شأنها مأسسة الفصل بين السلطات وتعاونها، وتمكن رئيس البرلمان من فرض مرجعيته التأويلية، لا بنص من الدستور، بل انطلاقا من مساحات الإبهام في النص، كلها عناوين لمشكلة ليس صحيحا أنها محصورة في سوء أو عدم تطبيق المواد، وإنما في متون النصوص وبياضاتها. هل يمكن تحكيم مرجعية الدولة في لبنان وإقفال باب الاجتهاد أمام كل هذه المسائل بحجة أنها فتحها سيدخلنا في متاهات؟ سؤال داهم ومبكر في آن. لتكن مع ذلك لحظة استرجاع هذه التجربة المريرة المتعلقة بكيفية التداول على كرسي رئاسة الجمهورية في لبنان بعد الحرب.
فعندما أوشكت ولاية أول رؤساء الجمهورية اللبنانية بعد اتفاق الطائف الياس الهراوي على الانتهاء عام 1995 انقسم النادي السياسي المحلي بين تيار يسعى للتمديد للهراوي، وبين تيار يسعى للإتيان بقائد الجيش آنذاك إميل لحود للرئاسة.
بانتخاب العماد جوزف عون رئيساً للجمهورية يكون لبنان قد تجاوز «قطوع» التجربة الثالثة من الفراغ الممتد زمنياً في المنصب الأول بالدولة اللبنانية بعد اتفاق الطائف
في تلك المرحلة، كانت الحيثيتان الشعبيتان المسيحيتان، واحدة مضطهدة وملاحقة، «القوات اللبنانية» بدءاً من قائدها سمير جعجع المسجون في أقبية وزارة الدفاع باليرزة، وثانية، يقودها العماد ميشال عون المنفي إلى باريس. أما القوى المنضوية تحت مظلة الوصاية السورية، فقد انقسمت بين من يعمل على إقناع نظام دمشق باقتضاء تعديل الدستور والتمديد للهراوي، أو تعديله والإتيان بقائد الجيش لحود للرئاسة. ثم آل الأمر للرئيس حافظ الأسد، فاقتضى مسايرة مساعي رئيس الحكومة اللبناني رفيق الحريري بالتمديد للياس الهراوي، في مقابل التمديد لإميل لحود طيلة الفترة نفسها على قيادة الجيش، وبالتالي تكريس منصب «ولي العهد العسكري» في النظام اللبناني التابع لدمشق. عاشت الوصاية والحال هذه مرحلة «ثنائية حزبية» داخلها. رفيق الحريري وعبد الحليم خدام أمنا الطريق للتمديد للياس الهراوي. وصول إميل لحود للرئاسة بعد ثلاث سنوات من الانتظار، في خريف 1998 سهلت الطريق في المقابل لتحكم بشار الأسد بالملف اللبناني، وبمعيته تأمين عملية وراثة والده في يونيو 2000.
وبما أن المادة 49 لم تكن تجيز تمديد الولاية للرئيس، فقد عدلت عام 1995. ثم عدلت عام 1998 لتجويز انتخاب قائد الجيش رئيساً. وعدّلت عام 2004 لتجويز التمديد له، في ظل انقسام حاد هذه المرة، وتدخل تهديدي فظ من جانب بشار الأسد اعتبر مناسبة لبلورة القرار 1559 الضاغط في اتجاه سحب القوات السورية من لبنان والذي شدد في الوقت نفسه على حل الميليشيات في هذا البلد. بعد ذلك لم تعد المادة 49 تعدل. غادر إميل لحود القصر في خريف 2007 بعد انتهاء فترة التمديد له فكان الشغور الأول في «دولة الطائف». دام لثمانية أشهر. بعدها، وبعد استخدام «حزب الله» سلاحه في الداخل اللبناني ومن ثم إبرام «صلح الدوحة» جرى إيصال قائد الجيش ميشال سليمان للرئاسة من دون تعديل المادة، باعتبار التعديل تحصيل حاصل بمجرد نيله ثلثي الأصوات، في واحدة من البدع الدستورية، التي تفوق على البدع الثلاث السابقات في تعديل المادة كل مرة «لمرة واحدة وأخيرة»!! بوصول سليمان للرئاسة تكرست أكثر النظرة لقائد الجيش على أنه «ولي العهد» في النظام اللبناني. في الوقت نفسه هو ولي عهد لا يخلف من سبقه إلا بعد فاصل من الدراما والهرج والمرج، من الفراغ.
لم يندرج «عهد» ميشال عون في هذا السياق. فهو وإن كان أتى من العسكر أيضا، وقاد حكومة عسكرية نهاية الثمانينيات، إلا أنه لم يصل إلى الرئاسة إلا بعد خمسة عشر عاما على مغادرته البزة. في الوقت نفسه، جهد عون لمحورة عهده حول ولي عهد غير عسكري، هو صهره جبران باسيل. في الوقت نفسه استطاع قائد الجيش الذي عينه هو، جوزف عون، أن يفرض نفسه، مبكرا نسبيا، كشخص بمزايا رئاسية، الأمر الذي لم يرق لا لباسيل، ولا لعون. عمليا، كرس ميشال عون في شخص جوزف عون صورة ولي العهد العسكري، ولو أنه هو كميشال عون، أراد بذل المستحيل من أجل تولية ولي العهد الآخر، صهره، باسيل.
خاض اللبنانيون استحقاقاً انتخابياً تشريعياً، حرّاً تنافسياً وبسند تمثيلي في مايو 2022. دخلوا من بعدها، مجدداً، في فراغ رئاسي وتعطّل حكومي. لم يكن مردّ ذلك في تلك المرّة «فيتو» حزب الله لوحده. ليس كالفراغ الرئاسي الحاصل بين 2014 و2016، يوم حبس ثنائي «حزب الله» وتيار ميشال عون الرئاسة عن البلد إلى أن مضى كل من رئيس «القوات» و«المستقبل» سمير جعجع وسعد الحريري لتوقيع تفاهمات مع عون والارتضاء به رئيساً بعد عامين ونصف من استفحال الشغور. الشغور الذي أفضى إلى ترئيس ميشال عون تزامن مع استعصاء إجراء الانتخابات النيابية في مواعيدها واستسهال تأجيلها والتمديد الذاتي للبرلمان لأكثر من مرة. أما الشغور الذي أعقب رئاسة عون فقد سبقته انتخابات نيابية «ناجحة نسبياً» بمعيار التنافس والإقبال والسعة التمثيلية، من ضمن المعايير المعوجة التي يقوم عليها نمط الديمقراطية القائم في لبنان. لم يتمتع «حزب الله» بعد مايو 2022 بالمعادلة المُطبقة نفسها التي فرضت إيصال ميشال عون من قبل. عندما تحالف الحزب مع تيار عون بدءا من تفاهم مار مخايل 2006 ووصولاً إلى إيصال عون إلى قصر بعبدا بعد ذلك بعشر سنوات، كان يمكن القول إنه يتحالف من موقع المهيمن – مع حركة أمل – على التمثيل السياسي للطائفة الشيعية مع القطب الراجح تمثيلياً بين المسيحيين. أما في أواخر عهد عون فما كان بمستطاع «حزب الله» أن يؤيد صهره جبران باسيل للرئاسة، بل فضل عليه الشمالي المقرب تقليدياً من آل الأسد سليمان فرنجية، أما التوتر بين الحالة العونية – الباسيلية وبين الجماعة التي يقودها الرئيس الدائم للبرلمان نبيه بري فقد تحولت إلى معطى ملتهب لئيم ومزمن. ما بين 2022 ومطلع هذا العام لم يُنتخب رئيس في لبنان ليس لأن حزب الله قادر فعلا على حبس الاستحقاق إلى أن تتأمن طريق إيصال مرشحه، بل لأنه دخل في مشكلة عويصة مع حليفيه، العوني – الباسيلي من جهة، وحركة أمل بقيادة بري من جهة ثانية، عبثا يستطيع إرضاء هذا الفريق وذاك في وقت واحد. بهذا المعنى، التهافت الداخلي لتحالفات الحزب سبقت محنته الحربية. وضع حد للشغور اليوم يذكرنا بالأمرين معاً الآن. في الوقت نفسه، السؤال يبقى عن النخبة الجديدة التي من شأنها تجسيد هذا العهد الجديد؟ ما طبيعتها؟ أمنية أولا؟ أمن وأنتلجنتسيا؟ أهل هناك مشكلة فعلية في تشكيل نخبة مواكبة لمضامين خطاب القسم؟ يفترض أن لا يكون ما سمعناه مقتصرا على تصورات من «فرد». لكن، هل بالفعل من نخبة قابلة للتأطر حول هذا الخطاب؟ وإن لم تكن الحال كذلك، فما البديل عنها؟
كاتب وصحافي لبناني