مقالات

المشروع الوطني السوري هو العلاج الأمثل

المشروع الوطني السوري هو العلاج الأمثل

عبد الباسط سيدا

سألني مسؤول غربي صيف عام 2012 في زيارة من زياراتنا إلى الدول، ضمن وفد المجلس الوطني السوري، التي كنا نحاول من خلالها حشد التأييد الدبلوماسي لصالح الثورة السورية قائلاً: ما هي الإجراءات التي اتخذتموها، أو ستتخذونها، من أجل منع ارتكاب المجازر بحق العلويين في حال نجاحكم؟
وكان جوابي هو التالي: هذا سؤال افتراضي. ومع ذلك نقول منذ الآن، ولدينا قناعة تامة بذلك: إن العلويين هم جزء من نسيجنا المجتمعي الوطني السوري، وسنعمل بكل ما في وسعنا من أجل الحيلولة دون تعرضهم، أو تعرض غيرهم من المكونات المجتمعية الوطنية السورية لأي مكروه أو أذى.
ولكن ماذا تقول عن المذابح الفعلية التي ترتكب الآن من قبل سلطة بشار الأسد بحق العرب السنة؟
وكان جوابه هو الصمت المطبق.
وللقارئ الكريم أن يقّدر، أو يصف، أو يصنف، مدى القهر الذي كنا نحس به في ذلك الوقت، حينما كنا نرى السلطة المعنية تمارس كل أشكال القتل والتنكيل؛ وتعتقل وتغيّب وتدمّر وتهجّر، وتقصف البلدات والمدن السورية ببراميل البارود والحقد؛ وتضرب الأطفال والنساء بالكيميائي من دون أن تخشى من أي مسائلة أو محاسبة. وهي السلطة المعروفة بجبنها وتخاذلها، واستعدادها للتنازل عن الكرامة الشخصية والسيادة الوطنية من أجل البقاء كمتعهد مكلف بضبط الأمور في الداخل السوري وفق موجبات المعادلات الإقليمية والتوجهات الدولية. وقد تجلّى ذلك بكل وضوح مع هروب بشار الأسد، وتخلّيه عن أقرب المقربين، بعد أن أدرك أن دوره قد انتهى، فهرب مع أفراد أسرته وبما خف وزنه وغلا ثمنه.
وفي زيارة من زيارات وفد المجلس الوطني السوري إلى باريس صيف عام 2012 استقبلنا في قصر الأليزيه الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا اولاند. ناقشنا معه وبحضور أعضاء الوفدين تقاعس المجتمع الدولي عن القيام بواجباته في سياق إدانة جرائم سلطة بشار الأسد، وضرورة العمل من أجل منع تلك الجرائم ومحاسبة بشار. وكما هو معروف، كان الغربيون يسوغون عدم تمكنهم من تمرير أي قرار داعم للشعب السوري عبر مجلس الأمن، بالفيتو الروسي، أو بالفيتو الروسي الصيني المزدوج. إلا أنني بعد أن وجدت تفهماّ وتعاطفاّ لدى الرئيس الفرنسي لصالح قضيتنا، وجدت الفرصة مناسبة لتوجيه الانتقاد إلى سلبية المجتمع الدولي، وعدم فاعلية الأمم المتحدة بصورة عامة، ولمجموعة أصدقاء الشعب السوري على وجه التخصيص. وأتذكر هنا بأنني خاطبت الرئيس الفرنسي والوفد الكبير الذي كان معه في قاعة الاجتماعات، قائلا: كلما طالبنا بالتدخل لإنقاذ المدنيين السوريين من المجازر اليومية التي يتعرضون لها، يقولون لنا هناك شرعية دولية لا بد من مراعاتها. بالنسبة لنا هذه الشرعية هي ورقية لا يجوز التمسك بها للتنصل من واجب إنقاذ أرواح المدنيين السوريين الذين يتعرض للقتل كل يوم بمختلف أنواع الأسلحة. وما لاحظته في ذلك الحين هو أن الرئيس اولاند كان متعاطفا معنا، يتفهم مدى الاحباط الذي كنا نشعر به حينما كنا نرى لامبالاة المجتمع الدولي تجاه المحنة السورية.
واستمرت الأمور هكذا، حتى أصبح السوريون موضوعاً للبازارات والتوافقات الإقليمية والدولية التي كانت تتم بطبيعة الحال وفق مصالح وحسابات أصحابها؛ وكان السوريون مجرد واجهات، الغاية منها إعطاء انطباع كاذب بأنهم هم من يقررون ويفاوضون باسم ثورة شعبهم، وهو الأمر الذي لم يكن واقعا، أو موجوداً، في ذلك الحين بكل أسف.
كانت مفاوضات جنيف العبثية، واجتماعات أستانا التي أرادها الروس مساراً موازياً لمسار جنيف بغية التنصل من بيان جنيف2، وكانت النتيجة في المسارين مضيعة للوقت، وإثارة الخلافات ضمن أوساط المعارضة، هذا إلى جانب اعطاء الفرصة لجيش السلطة والميليشيات الداعمة لها، وتمكينها من التمدد والتضييق على الفصائل المعارضة.
ومع الوقت بدأ الانفتاح العربي على بشار الأسد تحت شعار: محاولة اقناعه للابتعاد عن النظام الإيراني وأذرعه، والقطع مع تجارة المخدرات، ولكن ذلك لم يحصل رغم التعامل السخي معه من جهة الاتصالات والمساعدات والزيارات وإعادة العلاقات الدبلوماسية أو الوعد بها. كما أن بعض الدول الأوروبية أعلنت عن نيتها إعادة العلاقات مع سلطة بشار بناء على حساباتها الداخلية، وخاصة على صعيد قضيتي اللاجئين والمخدرات.
وكل ذلك كان من نتائجه المزيد من الإحباط لدى أوساط السوريين المعارضين لحكم الاستبداد الفاسد المفسد، ولكنهم رغم كل ذلك لم يبلغوا حد اليأس، بل استمروا في رفضهم القاطع للعودة إلى مزرعة العبودية التي أرادت سلطة آل الأسد حشر السوريين فيها، أما من كان يرفض ذلك فكان نصيبه السجون وأقبية المخابرات أو النفي والتغييب.
ولكن مع حدوث تحول لافت في المعادلات الإقليمية والدولية ذات العلاقة بمنطقتنا، وجد «محور المقاومة والممانعة» نفسه محشورا في دائرة محدودة الخيارات، خاصة بعد الخسائر الجسيمة التي مني بها ذراعه الأقوى في لبنان، والضربات القوية التي تلقاها في سوريا، بل وحتى في الداخل الإيراني نفسه، وفي طهران ذاتها. الأمر الذي أفقد سلطة بشار مظلة حماية قوية كان يحتمي بها، هذا إلى جانب محاولات السلطة المعنية بشتى السبل من أجل المحافظة على مسافة بينها وبين «حماس» في الحرب الإسرائيلية على غزة؛ كما أنه لم يبد أي مساندة لـ «حزب الله»، حتى ولو بالكلام الإعلامي، بعد الضربات الساحقة التي تعرض لها من جانب إسرائيل. بعد كل هذه المقدمات والتحولات، أدرك النظام الإيراني أن قواعد اللعبة قد تغيرت، كما أدرك أن هناك عملية اصطفاف جديدة في المنطقة ضمن إطار القوى الإقليمية والدولية؛ وهذه المقدمات مجتمعة وفرت فرّصة ذهبية لـ «هيئة تحرير الشام» وقائدها أحمد الشرع، تمثّلت في اللحظة التاريخية المناسبة التي فتحت الآفاق أمام سقوط سلطة آل الأسد وإلى الأبد.
وقلنا، وقال الكثيرون غيرنا، منذ اليوم الأول لسقوط وهروب الطاغية الذي ستقضي عليه عقده وأحقاده ومخاوفه: إن الهواجس والتحديات كثيرة وجدية، وهي تستوجب الكثير الكثير من الحكمة والتحمّل والصبر.
هناك حديث بين النخب السورية حول دولة المواطنة وحقوق المواطنة، وهذا أملنا ورغبتنا جميعاً؛ ولكن للوصول إلى مثل هذه الدولة، والعقلية التي ستدار بها، والسلوكيات من المفروض أن يتحلى بها مواطنوها، لابد من أخذ واقع مجتمعاتنا بعين الاعتبار. وأن يكون تعاملنا مع هذا الموضوع بناء على حاجاتنا الوطنية الملحة لا على الإملاءات، أو بناء على رغبتنا في الظهور بمظهر يرضي الآخرين. فسوريا كما نعلم، ويعلم الجميع، بلد متنوع من جهة الدين والمذهب والقومية، وكذلك من جهة الآراء الفكرية والمواقف السياسية، وهذا واقع لا بد من أخذه في الحسبان. وهذا فحواه ضرورة طمأنة الجميع بعقود مكتوبة، لأن الهواجس كثيرة؛ وهناك من يراهن على هذه الهواجس بل يختلقها، ويقوم بإثارتها.
بالإضافة إلى ما تقدم، هناك حاجة ماسة لتعزيز الثقة عبر خطوات عملية على الأرض، وعدم الاكتفاء بعبارات المجاملة الجميلة المنمّقة التي قد تخفف حدة التوترات، ولكنها لا تقطع الطريق أمام النزعات المتشددة التي قد تتمثّل أحيانا بشعارات أو مطالبات تكون وبالا على المشروع الوطني السوري الذي لا خلاص للسوريين إلا به ومن خلاله، وغالباً ما تتمظهر تلك المطالبات في الدعوة إلى تحالف الأقليات؛ أو الاستقواء بالأكثرية العددية دون السياسية؛ هذا في حين أننا في سوريا نحتاج اليوم، وغداً، ومستقبلاً إلى مشروع وطني جامع يكون بكل السوريين ولكل السوريين.
فسوريا بحدودها الوطنية الحالية تشكلت قبل نحو مئة عام؛ وقد تعرضت خلال تاريخها القصير كدولة حديثة للكثير من الخضّات نتيجة تشتت توجهات سياسييها بين مشروعين لم يأخذا بعين الاعتبار واقع المستجدات التي تبلورت بعد الحرب؛ وهي المستجدات التي ما زالت موضع توافق بين الدول التي خاضت الحرب ضد الدولة العثمانية، وانتصرت عليها وفرضت شروطها عليها بناء على ذلك الانتصار.
والمعني بالمشروعين المذكورين: المشروع القوموي الذي كان يتطلع نحو تحقيق الوحدة العربية الشاملة من المحيط إلى الخليج، والمشروع الإسلاموي الذي كان يتطلع نحو دولة الخلافة؛ ولم يكن خافيا أن الكثيرين من أصحاب هذا الاتجاه كانوا يرون في دولة الخلافة العثمانية نموذجاً لهم، وهي الخلافة التي أعلن عن نهايتها مصطفى كمال عام 1924، بعد أن اتخذ العلمانية هوية لتركيا، وجعل من أسلوب تقليد الغرب وسيلة للتنصل من التراث الإسلامي الشرقي الذي كان، وما زال، بصمة راسخة في الهوية التركية.
سوريا اليوم بأشد الحاجة إلى مشروع وطني عام جامع. مشروع يضم سائر التيارات الفكرية والسياسية المؤمنة بسوريا الواحدة الموحدة على صعيد الجغرافيا والديموغرافيا، وتحترم في الوقت ذاته حق الآخر المختلف على صعيد الأفراد والجماعات. فهذا المشروع هو الذي يطمئن جميع السوريين، ويقطع الطريق على تبلور النزعات الانفصالية ويسد الطريق على التدخلات الخارجية.
أما الحديث عن استبعاد المحاصصة واستهجانها بناء على التجارب الفاشلة في محيطنا فهو أمر يتوافق عليه أغلب السوريين. كما أن الحديث عن اعتماد الكفاءات هو موضع ارتياحهم. ولكن علينا أن نأخذ في حسابنا منذ الآن أن الكفاءات لا تنحصر جميعا لدى هذا المكون المجتمي أو ذاك، لدى هذا التيار السياسي أو ذاك. ليتعرف السوريون إلى بعضهم بعضا أولاً، ويختاروا بعد ذلك الكفاءات الوطنية من مختلف المكونات المجتمعية والتيارات السياسية، كفاءات مخلصة ووفية لسوريا، تضع المصلحة السورية على مستوى الشعب والوطن في مقدمة أولياتها.
المحاصصة «المللية» غير مقبولة، ولكن التمثيل المجتمعي العادل القائم على أساس الكفاءة والروحية الوطنية لا استغناء عنه إذا كانت النوايا معقودة على بناء وطن يزهو بخصوصيته، ويفتح الآفاق أمام جميع أبنائه وبناته من سائر الانتماءات المجتمعية والتوجهات السياسية والجهات الجغرافية ومن دون أي استثناء، للمشاركة الفاعلة في عمليات إعادة البناء في ميادين العمران والاجتماع والتطلعات.
*كاتب وأكاديمي سوري

كاتب وأكاديمي سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب