متلازمة غزة: جرح النفس المفتوح على الزمن

متلازمة غزة: جرح النفس المفتوح على الزمن
زيارتي الأولى لغزة عام 1991 سبّبت لي صدمةً نفسية وأنبأتني بلا جدوى ممارسة علم النفس الغربي في سياق عالمي. كمعالج نفسي، غالباً ما أكون هامشياً أمام ما يواجهه مرضاي. لكن الأمر مختلف في غزة، ففي عدد من زياراتي، كنت تحت النيران بشكلٍ متواصل.
كانت الصدمة التي عشتها آنذاك مزعجة جداً، لكنها لم تكن شيئاً في مقابل الأشخاص الذين كنت ألتقيهم. ترجع أصول هذه الصدمة إلى المدرسة الثانوية، حيث تعلّمت أنّ إسرائيل كانت «أرضاً بلا شعب لشعب بلا أرض»، فيما كانت الأفلام والأغاني تحكي عن الناجين من الهولكوست الذين فرّوا إلى إسرائيل (كان من النادر ذكر «فلسطين») فقط ليلاقوا بعدائية العرب (لم يذكر أحد الفلسطينيين) الذين كرهوا الوافدين الجدد القادرين على جعل الصحراء تزدهر.
في عام 1967، تسمّرت مع أحد أصدقائي اليهود أمام التلفزيون لنتابع أخبار الإسرائيليين الأبرياء والفقراء، الذين يحاولون حماية أنفسهم من الهجمات القاتلة وغير المبررة التي يشنّها العرب الذين تعوزهم العقلانية. وفي عام 1983، شاركت في مؤتمر في إسرائيل، وكنت مندهشاً جداً من جمال الثقافة التي استطاع الإسرائيليون بناءها فوق حطام الهلوكوست. حين عدت إلى شيكاغو، فتحت حساباً في فرع لأحد البنوك الإسرائيلية، وصرت داعماً متحمّساً لإسرائيل. كل هذا انتهى عام 1991: بدءاً من اللحظات الأولى في غزة، أدركت أنّني تعرضت للخيانة: من مدرستي، من حكومتي، من الإعلام، ومن المجتمع الدولي. كل ما تعلّمته كان كذبة. الخيانة تسبّب الصدمات النفسية. الحرب مشبّعة بها وهي في جوهر التعذيب، من الأفراد الذين يجري تعذيبهم في غرف مغلقة بعيداً من الأعين وصولاً إلى مجمل الأهالي الذين يجري تدميرهم، إما عبر الحرمان (نقص الطعام، المأوى، الرعاية الصحية، الأمان) أو العنف (الرصاص، التفجير، الاغتصاب، النهب). الإنسانية والشرط الإنساني كانا يجري تدميرهما بوحشية. العقود الاجتماعية جرى تمزيقها. «التروما» مصطلح طبي يشير إلى تمزّق اللحم. نفسياً، الخيانة هي كذلك أيضاً، إذ تمزق ثقتنا بالبشر (الذين سيقابلوننا بالمثل) والأحداث (الأشياء ستجري بالشكل المتوقع، فإذا ما ضغطنا على الفرامل، فإن السيارة ستتوقف). حين لا تجري الأحداث ولا يتصرف الناس كما تعلمنا، فإنّ الثقة تتحطم.
في غزة، جرى تحطيم الثقة مرة بعد أخرى. مبدأ الثقة الأساسي هو أنّ عيش حياة طيبة ومعاملة الآخرين باحترام، سيدفع الآخرين إلى فعل الأمر نفسه تجاهنا. في المجتمعات السليمة هذا هو الحال. في فلسطين قبل عام 1948، كان الأمر كذلك أيضاً. لكن أولئك الذين أرادوا كامل الأرض حطموا الثقة باستمرار. النتيجة؟ سياسة إسرائيل زرعت الخوف في نفوس الفلسطينيين واليهود على السواء.
في زيارتي الثانية لغزة عام 1993، رأيت أربعة جنود يقتلون طفلاً يلعب في الشارع. تقريري الغاضب للآمر الإسرائيلي المحلي جرى تجاهله. تقريري لممثليّ المنتخبين (الذين كانوا يستخدمون أموالي الضريبية لتمويل القوات الإسرائيلية) جرى تجاهله أيضاً. كنت أُدعى بالكاذب حين أعرض تجاربي ومشاهداتي في المحاضرات وورش العمل. خيانة تجرّ وراءها خيانة. أغرقني ذلك في الاكتئاب واليأس.
حين بدأت العمل مع «برنامج غزة للصحة النفسية» (GCMHP)، كان التشخيص باضطراب ما بعد الصدمة PTSD لا يزال حديثاً. استعملناه في تقييمنا للأعراض التي كنا نلاحظها على المرضى الذين يأتون للعلاج. لكن كان استعمال هذا التشخيص في غزة محفوفاً بالعيوب. بدايةً، لا يوجد «ما بعد» للصدمات هناك، كون الصدمات لا تتوقف. لا يوجد حالة تلي هذه الصدمات. ثانياً، الأعراض والعلاجات كانت متناسبة مع الثقافة الغربية، وهذا ما جعلها غير متوافقة مع الثقافة والتجربة الفلسطينيتين. تدريب فريق العمل في هذا البرنامج كان أمراً سخيفاً. زملائي في غزة هم من عليهم تدريبي. في النهاية، دربنا بعضنا البعض.
كان علينا ابتكار تشخيصنا الخاص. بعد الكثير من التحليل والنقاش، اتفقنا على أن نسمّي التشخيص «حلقة الصدمات» أو «اضطراب التكيّف» (سمّيناه أيضاً «متلازمة غزة»). من بين عوارض هذه المتلازمة: الانسحاب والعزلة، التوهّم، الهواجس، السلوكيات القهرية، القلق والاكتئاب، فقدان السيطرة.
مبدأ «حلقة الصدمات» بسيط. الناجون من الهولكوست والهاربون إلى «إسرائيل» كانوا تحت تأثير الصدمة لأنّ ثقتهم تعرضت للخيانة بوحشية، فقد كان الخوف يقوّض أملهم في أن يجدوا موطناً في «إسرائيل» يؤمّن لهم الأمن والاستقرار. المتطرّفون الإسرائيليون استغلوا هذا الخوف بالإشارة إلى الفلسطينيين بوصفهم تهديداً عليهم إخضاعه باستمرار للفحص. حين يعيش الناس بخوف، يتسامحون مع أسوأ ما ومَن فيهم من أجل حمايتهم. في المقابل، عاش الفلسطينيون النكبة: بيوتهم صودرت، سجنوا، قتلوا، وأجبروا على المغادرة. المتطرفون فيهم مثل المتطرفين في «إسرائيل»: يشيرون إلى الإسرائيليين كمصدر لكل المعاناة متوعدين بإزالة هذا التهديد باستخدام العنف. وبالتالي، يؤكد الطرفان المتطرفان أنّ اليهود والفلسطينيين لا يمكنهم العيش سوياً بسلام. فيما يصبح كل طرف أكثر تشبّعاً بالصدمات، يصبح أكثر عنفاً. المجتمعان يعيشان بخوف مستدام من الآخر. تكثر الفظائع، فتستولد «حلقة الصدمات» بشكل لا نهائي. تسبّب الحروب جراحاً نفسية كما جراحاً جسدية. في الواقع، نعاني نفسياً بسبب الحروب أكثر ممّا نعاني جسدياً.
من غير المفيد رسم حد فاصل بين المعانتين. جروح الحرب تختلف كماً ونوعاً عن الجروح في زمن السلم. الحرب تهدّد بشدة شبكات الدعم التي يمكننا الاعتماد عليها في زمن السلم، لنخفّف العوارض المختلفة التي تسبّبها الحرب. النتيجة هي اضطراب التكيّف، الذي يميّز الأمراض العقلية في الحروب التي لا تنتهي. للأسف، فلسطين هي مختبر مثالي لأبحاث إضافية في هذا المجال. لكن للأسف هذه الصراعات تعوق العمل البحثي. على سبيل المثال، منعتني إسرائيل منذ عام 2014 من دخول غزة. ومن أنتخبهم ليمثلوني في الولايات المتحدة لا يملكون القوة للتدخل. معالجة نتائج الحرب في غزة هو تحدّ مستمر، لأن الحرب في غزة مستمرة منذ عقود ولا مستقبل قريباً لنهايتها. بالتالي، معالجة الأزمات النفسية في غزة تتطلب مقاربة جديدة كلياً، يمكن أن تكون مفيدة في مناطق أخرى في العالم (السودان، تشاد، الكونغو، وغيرها).
أي زائر لغزة يعرف كيف تسهم العائلات بفاعلية في معالجة الناجين من العذابات. المجتمع والعائلة هما خزان القوة الذي يسمح للغزيين بالنجاة رغم مرور عقود من التعذيب. هذا أهم بكثير من أي تقنية نفسية. لاحظت ذلك أثناء زيارتي الأخيرة لغزة. ذات يوم، زرت بصحبة ثلاثة طلاب عائلة فقدت إحدى بناتها على إثر غارة إسرائيلية. قبل أن ندخل، راجعت مع الطلاب ما تعلّموه عن التقنيات النفسية. استقبلتنا العائلة، وفيما كنا نتحدث مع أفرادها، بدأ الأب بالبكاء حزناً على ابنته التي شاهد موتها. شجّعه الطلاب على تنفيس مشاعره ومشاركتهم حزنه. ساعده ذلك بعض الشيء فقط. بعد ذلك، دخل جاره الغرفة، وهو رجل تجمعه صداقة قديمة بوالد الفتاة. وفيما كان الأب يروي قصة مقتل ابنته من جديد ويبكي، وقف جاره إلى جانبه ووضع يده على كتفه. توقف الأب عن البكاء، وهدأ بكاؤه شيئاً فشيئاً، ثم وضع يده فوق يد جاره.
حين غادرنا، راجعت مع الطلاب ما حدث. لاحظوا أنّ صديق والد الفتاة ساعده أكثر بكثير مما ساعدناه نحن. بكلمات أخرى، المجتمع شافاه أكثر مما شافاه العلاج. كان ذلك درساً فارقاً. إن الطرق المحلية لعلاج الصدمات أكثر فاعلية من تلك المستوردة من ثقافات أخرى. الناس في غزة لديهم ما يحتاجونه للنجاة والتشافي. لديهم عقود من التجربة. إنهم أقوياء، مرنون، وأذكياء، وشجعان.
* د. فان إنويك، معالج نفسي سابق، درس في «معهد كارل يونغ» في زيورخ، ونال الدكتوراه في الدراسات الدينية والنفسية من «جامعة شيكاغو». عمل من كثب مع ضحايا الحروب والتعذيب في الكثير من مناطق الصراع في العالم.