ثقافة وفنون

عزيز أحمد فهمي: النقد الفني في الزمن القديم

عزيز أحمد فهمي: النقد الفني في الزمن القديم

مروة صلاح متولي

 

في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي عرفت مصر ناقداً فنياً فريداً هو عزيز أحمد فهمي، الذي نقرأ أغلب مقالاته على صفحات مجلة «الرسالة»، بالإضافة إلى بعض المقالات في مجلة «الثقافة» ومجلة «الكاتب المصري»، وربما كتب المزيد من المقالات في مجلات أخرى لم نطلع عليها. يبدو أن عزيز أحمد فهمي كان الكاتب الأصغر سناً وسط كتاب مجلة «الرسالة» العظماء، فهو على الأرجح ولد في عام 1911 وتوفي قبل شهر من رحيل الملك فاروق عن مصر في عام 1952، لكن المؤكد أنه خريج كلية الآداب، وأنه كان تلميذاً وصديقاً لعبد الوهاب بك عزام، ومعجباً أشد الإعجاب بطه حسين الذي كان اسمه بين أربعة أسماء هي (مصر، سعد، طه حسين، سيد درويش)، كان يكتبها على دفاتره كافة «على كل كراسة وعلى كل كتاب» أثناء دراسته في مدرسة العباسية الثانوية، كما يذكر في مقالاته، التي تساعدنا على معرفة بعض جوانب سيرته الذاتية، والكثير بطبيعة الحال عن ذائقته الفنية وتوجهاته الفكرية والفلسفية.
لا يملك القارئ إلا أن يقع في غرام هذا الناقد الفذ وأن يهوى حروفه المضيئة وكلماته الحية التي لا تزال نابضة بحسه وشعوره إلى اليوم بعد مرور كل هذه السنوات، وأن يقرأ ويعيد قراءة مقالاته المفعمة بالمتعة والشغف بالفن والحياة، وما فيها من حرية لا تحدها حدود في التعبير عن كل شيء وبكل طريقة، حيث لا توجد قيود ولا منع لأفكار أو تحريم لمشاعر في كتابة تخلو من الخوف. وعنده نجد أيضاً الحرية في شكل المقال الفني، فهو لا يكتب نقداً أو مراجعة أو عرضاً بشكل تقليدي ثابت متكرر، ويبدو أنه كان يمل، أو يتعمد أن يمل هو قبل أن يمل القارئ، وربما كانت الطاقات الفنية والجمالية الهائلة في نفسه تدفعه إلى التغيير الدائم، والبحث عن شيء تشعر بالحاجة إليه. يمكن القول إنه لم يكتب مقالة تشبه الأخرى، ونراه أحياناً يضع الصوت الآخر، أو الرأي الآخر المضاد لرأيه في مقالاته التي كان يكتبها على هيئة حوار بينه وبين صديقته، أو حبيبته التي تعارضه دائماً، وترى أنه يظلم هذا الفنان أو ذاك، وتختلف معه حول فكرة من أفكاره، وفي أحيان أخرى كان من الممكن أن تخرج المقالة في شكل قصصي أقرب إلى مشهد تمثيلي أو حوار مسرحي، وكان الثابت دائماً وسط كل هذه التغيرات، هو أن مقالاته لم تكن يوماً باردة جامدة ترص لنا المعلومات رصاً، وتلقي ببضع كلمات في وجه القارئ وانتهى الأمر.

الكتابة عن جميع الفنون

كان عزيز أحمد فهمي يكتب عن الموسيقى والمسرح والسينما، والأوبرا والرقص الشرقي، والفن التشكيلي وفن التمثيل، بل كان يكتب حتى عن فنون الطبيعة وإبداعات الخالق، وفي مقالاته نقرأ عن أسماء كهذه: سيد درويش، بيرم التونسي، نجيب الريحاني، زكريا أحمد، محمد عبد الوهاب، أم كلثوم، شارلي شابلن، موريس شيفالييه، هاري بور، شارل لاوتون، لون شاني، عزيز عيد، جورج أبيض، يوسف بك وهبي، بالإضافة إلى الكثير من الأسماء الأخرى المصرية والأجنبية. كما نقرأ في كتاباته عن جميع، أو أغلب أعلام تلك المرحلة في مجال الأدب والصحافة، كالعقاد، وطه حسين، وأحمد حسن الزيات، وزكي مبارك، وتوفيق الحكيم، وأحمد أمين، وعبد الوهاب بك عزام، وعن الكثير من السياسيين في العالم، خصوصاً مع بداية اندلاع الحرب العالمية الثانية، وعن تصوراته حول الفن في زمن الحرب في مصر والعالم ومقارنته بحال الفن أثناء الحرب العالمية الأولى. يظهر شيء من براعة عزيز أحمد فهمي في النقد الأدبي ونقد التمثيل في بعض المقالات، منها على سبيل المثال مقالة عن الأحدب في رواية «نوتردام دو باري» لفيكتور هوغو، ومقارنته بين شارل لاوتون ولون شاني في تجسيدهما لشخصية الأحدب في السينما، وقد تمنى في تلك المقالة أن تنتج السينما المصرية هذه الرواية، وأشار إلى أهميتها لأنها تحثنا على أن نتقبل المختلف عنا، وأن نتعاطف مع المشوه والعاجز والضعيف والمظلوم، على العكس من الحكايات الشفهية والحواديت، التي تخلق الخوف والنفور منهم كما يقول: «ربونا على أن يخيفنا أبو رجل مسلوخة»، على الرغم من أنه الضحية المظلوم الذي تعرض للأذى والسلخ.

نعم كان عزيز أحمد فهمي يكتب بحرية مطلقة، وكان يبدو في بعض الأحيان كطفل يشاكس أساتذته من الأدباء والكتاب، فيرسم لهم بالكلمات صوراً تقترب من الصور الكاريكاتيرية، ويفتعل المعارك الجادة مع أحدهم، ثم يعود ليطلب عفوه من دون أن يعتذر، وإنما عن طريق المزيد من التدلل على من هم في عمر أبيه، وكان يعبر عن رأيه بجرأة كبيرة وإن خالف السائد، وإن لم يقتنع برأيه الكثيرون الذين كانوا يرفضون أحكامه شديدة القسوة على فن محمد عبد الوهاب، بمن فيهم محرر الرسالة نفسه، الذي عقّب ذات مرة أسفل المقال قائلاً: «لا نظن أن كثيراً من النقاد يشاطرون الأستاذ عزيزاً رأيه في الأستاذ عبد الوهاب». وكمن لا يخشى شيئاً على الإطلاق أو يخاف أن يتهم بالإساءة لحضارة بلادنا، نراه يعبر عن مشاعره تجاه خوفو صاحب الهرم الأكبر، الذي خلد اسمه بأعجوبة من أعاجيب الزمان، وأغفل أسماء البسطاء الذين بنوا الهرم، تمنى عزيز أحمد فهمي للملك خوفو أن يبعث في الحياة الأخرى على هيئة عامل بناء «يرفع الأثقال، وتلفحه الشمس وتلسعه، ويذوق الوبال»، كتب هذه الكلمات دون أي خوف من أن يتهم بالكفر بفراعيننا، بل إنه يعترف بالكفر بالفعل في مرحلة من حياته، ويصف بجرأة ذلك القلق الوجودي الرهيب الذي كان يعتريه وهو يجلس سكراناً يدخن سيجارة أمام بحر إسكندرية، ويكتب إلى الله قائلاً: «حقاً إني كفرت يا ربي، ولكني ما زلت أتوسل إليك حتى بكفري، فقد كنت أحبك وأنا منكرك».
في فن التمثيل كان لشارلي شابلن المكانة الكبرى في نفسه، وعنه يقول: «آمنت بأن شارلي شابلن هو أعظم الفنانين في الأرض، ولا أقول أعظم الممثلين فقط»، وفي مصر كان نجيب الريحاني هو ممثله الأعظم وكثيراً ما كان يقارن بينه وبين شابلن ويرى أنه يقترب منه كثيراً في تمكنه الفني، وكتب مقالاً حزيناً يرجوه فيه ألا يحل فرقته المسرحية عندما هم الريحاني بذلك، كما كان يرى أن الريحاني أخطأ بتخليه عن شخصية «كشكش بيه» وأنه كان عليه أن يقوم بتطويرها، وكان أيضاً يحب يوسف بك وهبي وجورج أبيض وعزيز عيد، لكن بالطبع كان للريحاني النصيب الأكبر من الحب، نظراً لقربه من معشوقه سيد درويش.

وعن علاقته بالموسيقى التي كتب عنها كثيراً، يبدو أن ذائقته الموسيقية كانت معقدة بعض الشيء، تنشد الكثير من الكمال لا الكمال فحسب، ونلاحظ أن نقده كان لطيفاً في ما يخص غناء الغرب وموسيقاه، شديد القسوة على الموسيقى في مصر، كما كان ناقماً بشدة على المعهد الملكي للموسيقى الشرقية الذي لم يكن يعترف بموسيقى سيد درويش، وكان هذا الحاصل بالفعل ويؤكده الموسيقار محمد عبد الوهاب في حوار تلفزيوني، عندما كان يحكي عن معاناته أثناء دراسته في ذلك المعهد، الذي كان من قواعده الصارمة «ممنوع الغناء لسيد درويش وعزف ألحانه»، فكان عبد الوهاب يغني ويعزف ألحان سيد درويش سراً في عملية شبهها بتناول المخدرات، كانت تتطلب وقوف أحد أقرانه لمراقبة المكان وإخباره بأن يكف عن الغناء فوراً لأن أحد الأساتذة يقترب، ومن الممكن أن يسمعه، كما نشاهد عبد الوهاب وهو يكاد يردد كلمات عزيز أحمد فهمي نفسها، وما كان يوجهه له من نصائح في مقالاته، عن ضرورة توجهه إلى الأوبرا والأوبريت والمسرحية الغنائية ويأسف عبد الوهاب لأنه لم يفعل ذلك. أما عن قسوة عزيز أحمد فهمي على محمد عبد الوهاب، فيمكن تفهمها وإرجاع أسبابها إلى أنه لم يستطع أن يتجاوز حبه الكبير وتعلقه الشديد بسيد درويش، وحزنه على موته المبكر، وانقضاء ذلك الحلم الموسيقي المصري الجميل، كما أنه كان يعلن انحيازه إلى الفن السكندري، الذي يمثله سيد درويش، مقابل الفن القاهري الذي يمثله محمد عبد الوهاب. ويمكن القول إنه كان يتمنى أن يعوضه محمد عبد الوهاب عن فقده العظيم لسيد درويش، ويمكننا أيضاً أن نفسر تلك القسوة الشديدة بأنه بكل بساطة لم يحب عبد الوهاب ولم يتذوق فنه، فهو على سبيل المثال ولأنه يحب سيد درويش، يرى أنه كان معذوراً في تأثره بالموسيقى الغربية، أما عبد الوهاب فلا عذر له، وكذلك طه حسين الذي يحبه يجد له ألف عذر في «تمويج صوته تمويجاً فرنسياً»، رغم نطقه العربي السليم النقي، لكنه لا يغفر ذلك لسواه، هو الحب إذن والمحب يغفر دائماً، ولأننا نحبه أيضاً نغفر له قسوته وتناقضاته وانحيازاته، ويكفينا جمال مقالاته وروعتها. ذلك الناقد الفني القديم الذي لا تربطنا به سوى ما وصل إلينا من كلماته، ولا نكاد نجد له أثراً آخر من صورة شخصية أو صوت مسجل في الإذاعة، ولا نجد من يحدثنا عنه بشكل مستفيض، لكننا نستمع إلى الفنان عبد السلام الشريف مؤسس معهد النقد الفني، وأول عمدائه، يتحدث عن عزيز أحمد فهمي في حوار تلفزيوني مع الشاعر فاروق شوشة، عندما اصطحبه فهمي للقاء مع زكريا أحمد، وهذا يتسق مع ما نقرأه في مقالات عزيز أحمد فهمي عن سهراته وجلساته المتكررة مع زكريا أحمد، حيث كان من المقربين منه. من خلال هذا الذكر العابر والكلمات القليلة نلتمس شيئاً من صفات وملامح ناقدنا الفني، حيث يقول عبد السلام الشريف: «عزيز أحمد فهمي.. ده كان فنان حقيقة.. في الأدب والشعر.. وكان يكتب وهو طالب في كلية الآداب عند طه حسين.. وكنا نتجول.. زي ما بيقولوا.. نتسنكح.. نتسرمح في شوارع القاهرة.. نتصعلك مع عزيز.. وكان يمثل الصعلكة تماماً.. هو إسكندراني.. وسيم.. وجيه جداً».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب