صفقة الصفقة!
صفقة الصفقة!
سهيل كيوان
الأفئدة والعيون والأسماع والأبصار والمشاعر كلُّها متّجهة إلى لحظة يتمناها الجميع، إعلان توقيع الصفقة، خصوصا لإنقاذ شعبنا في قطاع غزة، من استمرار مجازر الإبادة والنزوح القسري والتجويع. نسبة التفاؤل مرتفعة هذه المرّة، والخشية حتى اللحظات الأخيرة هي من أن يفسد نتنياهو الصفقة كالعادة. لكن يبدو أنّ هذه المرّة بعكس المرات السّابقة، ومصدر هذا التفاؤل يأتي من الجهة غير المتوقعة، وهو الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، الذي هدّد بحرق المنطقة ما لم يتم وقف إطلاق النار قبل تسلّمه ولايته.
ترامب يدرك أنّه ليس لدى حماس ما تخسره، وبعد الثمن الذي دفعته فلن يستطيع أحدٌ أن يفرض عليها موقفاً، كذلك فإن معاقبة المدنيين بمزيد من التجويع لن تحقّق صفقة، ولم يبق له سوى الضغط على نتنياهو المماطل. ترامب وجّه رسالة غير مباشرة إلى نتنياهو بنشره على صفحته في منصة «إكس فيديو» يحوي شتائم لنتنياهو، تلفّظ بها أستاذ أمريكي، كانت بمثابة تحذير لنتنياهو بأنّ ترامب هو المعلم الكبير، وعلى نتنياهو أن يحترم رغبة سيّده في البيت الأبيض وليس العكس، وأن ترامب القويّ ليس جو بايدن الضعيف، الذي قدّم كل شيء ممكن ولم يحصل على الاحترام الذي يستحقه من نتنياهو.
فرضت حماس التعامل معها كندٍّ للاحتلال، ولها شروطها لوقف إطلاق النار، مثلما أن للاحتلال شروطه، رغم الضُّغوط الهائلة من أطراف عربية وفلسطينية، حمّلت المقاومة مسؤولية حرب الإبادة
رسالة ترامب لنتنياهو هي، أنّ لأمريكا مصالحها، ولها صراعها وحساباتها وهناك من ينافسها في الاقتصاد والقوّة والنفوذ، وعلى حلفاء أمريكا أن يتعاملوا معها بأدب وتفهُّم وينفّذوا ما تطلبه منهم. الصفقة تعني لترامب أنّه دخل البيت الأبيض برجله اليمنى، وبأنّه حقق أول أهدافه التي أعلنها من قبل حتى قبل أن يستلم السلطة رسمياً، وهذا يعني الكثير له في سياسته المقبلة في المنطقة. بهذا يقول ترامب لنتنياهو، لقد أخذت الوقت الكافي لتحقق انتصارك الذي تريده، ولم تنجح، إلى هنا يكفي، فنحن لنا مصالحنا وسياستنا ولنا طرقنا في تحقيق الأهداف. المطلوب للعدالة الدولية لم يفاوض طيلة الفترة السّابقة لأجل وقف الحرب، بل سعى مع سبق إصرار وترصّد إلى إفشال المفاوضات، بهدف التسبّب بمزيد من الإحباط لدى سكان القطاع، وحثّهم على الانتفاض ضد المقاومة. حاول الاحتلال إشعال حرب أهلية في قطاع غزة، من خلال تحريض بعض زعماء العشائر، وإحداث فوضى نهب وسلب، ولكنّه فشل.
الصفقة تعني فشل تحرير الأسرى والرّهائن بالقوّة، وبأنّهم لن ينالوا حريتهم إلا بعملية تبادل. الصفقة تعني فشل إسدال السّتار على القضية الفلسطينية. إتمام الصّفقة يعني الاعتراف بأنّ حماس ما زالت موجودة وبقوّة عسكرياً وإدارياً، رغم أطول حرب في تاريخ الصِّراع العربي الصهيوني، وأكثرها دماراً ودمويّة، ورغم إمكانيات المقاومة المتواضعة أمام إمكانيات الاحتلال – الأمريكية، فقد تمكنت من الصُّمود وإيذاء قواته بضربات مؤلمة جداً، وما زالت وسوف تستمر إلى أن يتوقّف إطلاق النار.
حماس فرضت التعامل معها كندٍّ للاحتلال، ولها شروطها لوقف إطلاق النار، مثلما أن للاحتلال شروطه، رغم الضُّغوط الهائلة من أطراف عربية وفلسطينية، حمّلت المقاومة مسؤولية حرب الإبادة. الصفقة تعني الفشل العسكري بتحرير الأسرى بالقوّة، بل إنّ عرقلتها حتى الآن أدّت إلى مقتل كثيرين منهم بيد قوات الاحتلال.
الصفقة تعني إنقاذ حيوات أعداد كبيرة من الأسرى الفلسطينيين وتحريرهم من التّعذيب والتنكيل، ومن الموت البطيء وحتى القتل خلال الاعتقال. الصفقة تعني كذلك إنقاذ أسرى إسرائيليين من موت أراده لهم نتنياهو، فهو لم يرد أسرى أحياء، لأنّ بعض هؤلاء لديهم ما يشهدون به حول ما حدث في السابع من أكتوبر 2023، ويبدو أنّه يخشى شهاداتهم، فأراد التخلص منهم، كذلك فإن الصّورة التي ظهر فيها رجال المقاومة، خلال تنظيم عملية التبادل السّابقة في نوفمبر 2023 التي أطلق فيها سراح 105 مدنيين منهم 81 إسرائيليا و23 من التايلنديين مقابل 240 فلسطينياً، بينهم 107 أطفال، وشهادات الإسرائيليين الذين أطلق سراحهم بالتّعامل الإنساني النقيض لتعامل الاحتلال الإجرامي مع الأسرى الفلسطينيين، الأمر الذي شكّل صفعة لذوي الأفكار الفوقية العنصرية، فقد ظهرت المقاومة كتنظيم مسؤول وإنساني امتدحه وشكره الأسرى أنفسهم، وتحوّلت العملية إلى نجاح كبير في العلاقات العامة لصالح المقاومة، وهو عكس ما رَوّج له نتنياهو وزبانيته بأنّ حماس ذبحت الأطفال وبقرت الحوامل، التجربة أظهرت للعالم كذب نتنياهو، وهذا أحد أسباب رفضه المتواصل لصفقة جديدة.
الآن وبعد حوالي 470 يوماً من الحرب وإلقاء أكثر من قنبلتين نوويتين على القطاع، يعترف الاحتلال بعجزه عن تحرير الأسرى بالقوّة، وبات الضغط الأمريكي حقيقياً لإبرام الصّفقة، كذلك فإنّ مؤيّدي مطلب أهالي الأسرى الإسرائيليين في تصاعد كبير، إضافةً إلى العامل الأهم، وهو الخسائر العسكرية اليومية، التي باتت تشكّل كابوساً لدى كل أسرة إسرائيلية يخدم ابنها في الجيش، واتّسعت دائرة من يعلنون بأنّ هذه الخسائر بالأرواح ثمنٌ لأجندات شخصية لنتنياهو ويجب وقفها. إتمام الصفقة يعني منح الأمل لبقية الأسرى الفلسطينيين الذين سيبقون وراء القضبان بعدها، وهذا يعني أنّ المقاومة لم تتخلَّ عن المقاومين الذين يؤسرون، بل تسعى حتى النهاية لتحريرهم، الآن وفي المستقبل، وهي ثقة حاول نتنياهو تحطيمها وفشل. سيضطر نتنياهو لإطلاق سراح أسرى ممن يوصفون بأنّ «دماء على أيديهم» مثل مروان البرغوثي وأحمد سعدات وعبد الله البرغوثي وكثيرين غيرهم. نجحت حماس ليس فقط بالبقاء، بل بتجنيد مقاتلين جُدُدٍ لتعوّض ما فقدته من الرّجال، وهذا يعني أنّ الحاضنة الشّعبية للمقاومة ما زالت موجودة، وقد تزداد، ردّاً على ما ارتكبه الاحتلال من مجازر إبادة. إنجاز الصّفقة، لسعة لمن يروّجون لسياسة الرضوخ للأمر الواقع التي يحاول الاحتلال فرضها. الصفقة هي صفعة لمن تواطأوا من العرب وقدّموا التسهيلات لممارسة أهداف الاحتلال الإجرامية. الصفقة تعني فشل نتنياهو ومن حوله بأن يكونوا فوق القوانين والعلاقات الدولية والإنسانية، هنالك أوامر اعتقال ضده شخصياً مع وزير حربه، وسوف تتّسع هذه الملاحقة مستقبلا.
أراد نتنياهو أن يزور دولاً عربية بصورة علنية، كي يتخذ منهم شهود زور في مواجهة العدالة الدولية، ولكن حتى هؤلاء العرب المتخاذلين، لم يتحمّلوا المزيد من عنصريّته ونظرته الفوقية واحتقاره لهم. الصفقة تعني إتاحة الطريق لبدء التحقيق في أحداث السّابع من أكتوبر 2023 التي تدين نتنياهو وحكومته، خصوصاً أنّ شهادات إسرائيلية تدّعي أنّ عباس كامل رئيس المخابرات المصرية، أحاط مسؤولين إسرائيليين بمعلومات دقيقة عن الهجوم المنتظر قبل وقوعه. الصّفقة تصبُّ نحاساً ساخناً في الأبواق الإعلامية العربية التي أعلنت عداءً سافراً للمقاومة بحجّة جلبها كارثة للشعب الفلسطيني، هذه الأبواق هي نفسها التي روّجت من قبل، أن الفلسطينيين باعوا وطنهم للصهاينة، وآن الأوان أن تنطق خيرا أو تصمت.
كاتب فلسطيني
كاتب فلسطيني