سمير قصير… بورتريه مثقف متمرد
سمير قصير… بورتريه مثقف متمرد
كارلوتا ستيغانيو/ ترجمة: عبد المنعم الشنتوف
تسعى الكاتبة والأكاديمية الإيطالية كارلوتا ستيغانيو في هذا النص الذي نقدم ترجمته عن الأصل الإنجليزي إلى الاقتراب من شخصية المناضل والأكاديمي اللبناني الشهيد سمير قصير بأبعادها المتعددة. وكان التشديد واقعا في هذا الخصوص على الدور الذي اضطلع به بوصفه مثقفا تنويريا وفاعلا سياسيا في الدفاع عن الحرية، ومقاومة هيمنة واستبداد الأجهزة الأمنية للنظام السوري البائد الذي دفع حياته ثمنا له في شهر يونيو/حزيران عام 2005. تعمل الكاتبة أستاذة في جامعة جنوة الإيطالية.
النص:
ولد سمير قصير عام 1960 لأب فلسطيني وأم سورية. ترعرع في بيروت التي تابع فيها دراسته في الليسيه الفرنسي. انتقل إلى باريس عام 1981 حيث حصل على الإجازة في الفلسفة السياسية عام 1984 من جامعة السوربون. حصل على درجة الدكتوراه في التاريخ المعاصر. وكان من مقر إقامته في باريس ينشر مقالات في العديد من الصحف مثل «الحياة» و»لوريون» و»لوموند دبلوماتيك» علاوة على الطبعة الفرنسية من مجلة «دراسات فلسطينية».
عاد إلى لبنان عام 1993 ليقوم بتدريس العلوم السياسية في جامعة القديس يوسف. كان علاوة على ذلك صاحب منبر في جريدة «النهار» وسرعان ما أصبحت مقالاته الافتتاحية الأكثر حدة وتأثيرا في مواجهة الهيمنة السورية على لبنان. ويكتب روبير فيسك في مقدمة كتاب قصير عن بيروت: كان دون شك الصوت الأشجع من بين من كتبوا ضد سوريا. وفي الفترة ما بين 1995 و1998 قام بتأسيس وإدارة مجلة «لوريون إكسبريس» الشهرية، التي سرعان ما سوف تصبح العلامة الفارقة في المشهد الثقافي والسياسي اللبناني. اختار قصير الدفاع عن القومية العربية باللغة الفرنسية، وقد استهلها بما يشبه الثورة؛ إذ كانت المجلة ذات التعبير الفرنسي في البداية لسان حال الثقافة العربية. وكان قصير في هذا السياق صحافيا وكاتبا غزير الإنتاج. وقد ساهم في الفترة ما بين 1981 و2000 في جريدة «لوموند دبلوماتيك». وقد أصدر في سنة 1992 كتابه «مسارات من باريس إلى القدس» و»فرنسا والصراع العربي الإسرائيلي» عام 1994 بالاشتراك مع فاروق مردم بيك، «حرب لبنان: من الانشقاق الوطني إلى الصراع الإقليمي» المتأسس على أطروحته لنيل الدكتوراه عام 2003. «تاريخ بيروت» عام 2004 و»عسكر على مين؟ لبنان او الجمهورية المفقودة». «الديمقراطية السورية والاستقلال اللبناني»؛ «البحث عن ربيع دمشق». «تأملات في شقاء العرب» عام 2005 وفي عام 2006 نشر بحثه «لبنان: ربيع غير مكتمل» بعد وفاته.
كان سمير قصير عام 2004 أحد مؤسسي اليسار الديمقراطي. وقد أصبح بعد اغتيال الوزير الأول رفيق الحريري الناطق الرسمي باسم الانتفاضة اللبنانية التي كانت حركة شعبية انبعثت بشكل تلقائي داخل المجتمع المدني. وكان قصير من اختار شعار واسم الحركة اقتداء بالانتفاضة الفلسطينية. وكان منخرطا بعمق في الحراك الاحتجاجي السياسي ليس باعتباره صحافيا، وإنما بوصفه خطيبا وناشطا. لم يلبث أن دفع حياته ثمنا لهذا النضال المتمرد في صباح الثاني من يونيو/حزيران عام 2005 بتفجير عبوة ناسفة وضعت تحت سيارته الألفا روميو. ففقد لبنان والشرق الأوسط والعالم واحدا من أكثر أصواته تأثيرا وقوة. أثار موته موجة عارمة من الإدانة والاستياء. وفي اليوم التالي خرج الصحافيون والسياسيون والمواطنون في تظاهرة حاشدة وهم يحملون صور سمير قصير وأقلاما سوداء تعبيرا عن حرية التعبير. وتخليدا لذكراه قامت مجموعة من المثقفين وأصدقاء سمير بإنشاء مؤسسة غير ربحية تحمل اسمه وتتوخى نشر أعماله وترجمتها والحفاظ عليها والدفاع عن ثقافة الحرية، وحرية الاعتقاد، والتفكير، والصحافة..
مثقف خارج التصنيف
تبدو محاولة اختزال صورة سمير قصير في مجرد تعريف واحد شديدة التعقيد. كان الرجل صحافيا ومؤرخا وأكاديميا ومثقفا، وناشطا سياسيا، ومناضلا، ومتمردا. وقد استبطن الجوهر الطبيعي لمدينته بيروت، التي كانت أكثر الحواضر الشرق أوسطية كوزموبوليتية، والتي كانت سيرتها مأساوية ورائعة شأنها في ذلك شأن حياة سمير قصير. كانت روحه تنتمي إلى بلاد الشام كما كتب إلياس خوري في رسالة نشرها بعد ثلاثة أيام من رحيله. كانت أمه سورية، فيما هاجرت كل أسرة أبيه من مدينة يافا وقتل عمه وهو يقاتل ضمن صفوف الجيش السوري عام 1973. كانت محصلة هويته الثلاثية الأبعاد التزامه بالدفاع عن فلسطين ضد الاحتلال الإسرائيلي وعن لبنان ضد الهيمنة السورية ونضاله في صفوف حركة فتح والحركة الديمقراطية في سوريا. كان يتوخى بوصفه مثقفا قوميا عربيا تجديد المجتمعات العربية وتحديث وإصلاح الأنظمة العربية.
كان التزامه السياسي بمنحييه الثقافي والنضالي تمثيلا للمثقف كما تصوره إدوارد سعيد، الذي تتمثل مهمته في تدمير الصور النمطية والاختزالية التي تحد من حرية التفكير والتواصل. ينتقل قصير من الالتزام الثقافي المحض إلى الانخراط الحركي في سياق الصراع ضد التدخل السوري المباشر في لبنان. ثمة محطتان مختلفتان في سياق سعيه صوب التزام سياسي أوفر وهما تأسيس حركة اليسار الديمقراطي واغتيال رفيق الحريري وما نجم عنهما من انتفاضة الاستقلال. وقد أصبحت مناهضته للهيمنة البوليسية السورية على لبنان تجسيدا لراديكالية أكثر في نشاطه السياسي. كانت حركة اليسار الديمقراطي من الأحزاب اللبنانية التي طالبت بدولة علمانية غير طائفية وكان أعضاؤها من المثقفين والطلبة اليساريين المنشقين عن الحزب الشيوعي.
المثقف المتمرد
مثلت انتفاضة الاستقلال وحركة 14 مارس منعطفا حاسما في حياة سمير قصير؛ اذ كثفتا روحه المتمردة. وكي نحلل بشكل عميق معنى المتمرد وهل يكون في المقدور تطبيقه على سمير قصير ونشاطه السياسي، يلزمنا توضيح ما تعنيه الثورة الحديثة. تقول حنا آرندت في كتابها «عن الثورة»: إن الكلمة تنطبق فقط على الحركات التي تتوخى الحرية. ويبدو من الضروي لمن يرغب في فهم ا ثورات في العصور الحديثة التقاطع بين فكرة الحرية والبداية الجديدة. وتتمثل الخاصية الأخرى للثورة في استحالة وتعذر مقاومتها.
يكون الشخص المتمرد وفق هذا التحديد هو ذاك الذي يقاتل من أجل الحرية بدافع حاجة ملحة. كان سمير قصير رجل تنوير بتأثير ما كان يكتبه عن حركية النهضة وافتتاحياته في جريدة «النهار» التي كانت أساس انتفاضة الاستقلال. وقد كتب وناضل ضد السلطة التي يعتبرها قمعية وضد الحماية السورية المفروضة على لبنان. كانت الحرية بالنسبة لفلاسفة التنوير حقيقة ملموسة يبدعها وينعم بها الإنسان. وقد تحدث قصير عن هذا التوصيف للحرية في ساحة الشهداء وطالب بها للبنان وسوريا؛ ما جعل منه رجلا في حالة تمرد.
ما الذي يميز المثقف المتمرد عن المثقف العادي؟ وكيف ينطبق ذلك على شخص سمير قصير؟ يتحتم علينا العودة إلى تعريف إدوارد سعيد للمثقف الذي يقيم في سياقه الوصل بين الثورات والمثقفين، ويقر باستحالة العثور على ثورات من دون مثقفين. ويشدد إدوارد سعيد على ان المثقف المتمرد هو الذي يحول الأقوال إلى أفعال ويناهض الوضع المستقر والقائم. لقد جسد سمير قصير بدقة هذا التمثيل الجديد للرجل الثوري الذي يتعالى على كل أشكال الوصاية الأبوية القديمة وينتهك كل الحدود الثقافية والسياسية. يكتب الفيلسوف الفرنسي ريجيس دوبريه في سياق تأبينه لسمير قصير: تستلزم فلسفة الانوار التي لا تقتصر فقط على الجرأة على المعرفة، وإنما أيضا جعل «العقل» أكثر ارتباطاً بالشعب المخاطرة والمغامرة. ويغامر المثقف خصوصا في الأوقات التي تشهد اضطراباً في حياته المهنية وسمعته وأحيانا حياته.
كارلوتا ستيغانيو: كاتبة إيطالية/ عبد المنعم الشنتوف: كاتب ومترجم مغربي