حقول الشوك: صيغ التأثر والتأثير في الشعر الفلسطيني والعبري
رامي أبو شهاب
ضمن مقولة الصراع يتخذ البعد الخطابي قيمة مضاعفة كونه يُعنى بتمثل الهويات، وتشكيلها، بالتوازي مع بيان النموذج العضوي في الامتدادات الثقافية، فالتراث يعدّ قيمة تندرج ضمن المناطق التي يتمثلها الشعر الفلسطيني، الذي يسعى إلى تقويض المروية الصهيونية التي تستهدف بدورها اختلاق نماذج من الاتصال مع البنى التراثية وهذا ما يختبره علي فتح الله، في كتابه الصادر حديثاً عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بعنوان «حقول الشوك: التراث في الشعر الفلسطيني والعبري- دراسة مقارنة». يعتمد الكتاب في عنوانه قصيدة للشاعر اليهودي حييم جوري بعنوان «موت رجل في الحقل»، ويحتمل تعبير «حقول الشوك» إحالة إلى مفهوم سلبي نتيجة الحلول في أرض ترفضهم، ولكنه من جهة أخرى يقول «الربيع في حقولهم قد تدفق. لكن حقلك مليء بالشوك»، فاستخدام الضمير «الكاف» يعني قلق الإحالة، أو تموضع الحقل بنسبته للمخاطب.
في التأطير
يختبر الكتاب مفاصل الصراع على التراث، ومع أن معظم الباحثين قد يسارعون لمحاولة التحديد الاصطلاحي للتراث، غير أنّ المؤلف تجاوز ذلك نحو اكتناه البعد الوظيفي للتراث في الشعر، من منطلق أنّ المفهوم قد أصبح منجزاً، في حين يأتي تعبير مصطلح الشعر العبري، لا اليهودي، نتيجة مسوغات لم يأت عليها الباحث، ولكننا نلتمسها بين الكتاب، ويمكن تبرير ذلك عبر النظر إلى الأدب ضمن التحديد اللغوي الثقافي، بحيث لا يقتصر على التوجيه السياسي أو الأيديولوجي الضيق، فالشعر العبري يحمل تمايزات على مستوى التوجهات الأيديولوجية تجاه القضية الفلسطينية، فإذا كان ثمة شعر عبري يحاول أن يزيح أو يقوض الهوية الفلسطينية، بالتوازي مع خلق إبدالات تراثية مع الأرض، فثمة في المقابل شعر عبري يرفض هذا التصور الصهيوني بدافع منطلقات تاريخية، أو إنسانية أو أيديولوجية، ولاسيما من لدن اليسار الذي يتبنى مواقف تنحاز إلى الحق الذي يتصل بعمق تجذر الوجود الفلسطيني على أرضه.
من ناحية أخرى فإن مقولة الشعر العبري تشمل فترة زمنية أوسع، فيشمل النصوص المكتوبة بالعبرية قبل تأسيس الكيان، فهذا النهج يُتيح التعامل مع الشعر بوصفه إنتاجاً أدبياً، وليس أداة سياسية مرتبطة بالصراع، على الرغم من أن الجزئية الأخيرة إشكالية؛ من منطلق أن الأدب ينطوي في تكويناته على مواقع أيديولوجية، أو تحيّزات بداعي الصراع، فيتقصّد توظيف الجمالي بوصفه نسقاً يغلف المقولات الأيديولوجية كما نقرأ في نماذج من الشعر العبري التي تُبنى على تغاير في رؤية التراث، وينسحب هذا على الشعر الفلسطيني من جهة توفر مواقف تقترب من إنكار التراث، وحتى السخرية منه، وبيان تهاويه أو بوصفه من أسباب النكوص، وبذلك فنحن إزاء دراسة تثير الجدل.
ينطلق الكتاب من رغبة مبررة منهجياً عبر استدعاء التراث، والموقف منه، ويخلص إلى ثلاثة توجهات تتلخص بالاحتماء بالتراث بوصفه ملاذاً للهُوية، ومن ثم الانتقائية في استدعاء عناصر محددة (مثل الحركة الكنعانية أو الاتجاه الديني)، وأخيراً الثورة على التراث. ولعل الاحتماء بـالتــراث يعكس اللجوء إلى الماضي لإضفاء شرعية على الوجود ضمن مقولة الصراع، وبذلك نجد تفاوتا في استراتيجيات التوظيف، فالشاعر الفلسطيني يعتمد مستويات تجمع بين نماذج من التراث الكنعاني والإسلامي والمسيحي، فيستمد منه رموزاً تدعم تاريخية سرديته على الأرض، في حين يقتصر الشاعر العبري -غالبا – على التراث الديني التوراتي، الذي يجد فيه مبررا دينيا لاحتلال فلسطين، ومن هنا فإن الفلسطيني يوظف رموزا منها «الفينيق» و«النخلة» للإحالة إلى البعث والتجدد، بينما يعتمد الشعر نصوصا توراتية، بيد أنّ الاختلاف بين الطرفين يكمن في مدى تنوع مصادر التراث الفلسطيني، مقابل التركيز الديني في الشعر العبري، ما يعكس فقراً في التكوين.
التأثر والتأثير
يختبر علي فتح الله أثر التراث العبري على الشعر الفلسطيني، عبر نموذج محمود درويش، ولاسيما استخدامه مفردات، أو موضوعات دينية عبر صياغة رمزية، مع الإشارة إلى أن محاولات بعض النقاد للربط بين تأثير التراث العبري ومواقف درويش السياسية قد تبدو أحيانا متأثرة بمواقف مسبقة، ما يثير التساؤل حول مدى موضوعية تلك الدراسات، مع الإشارة إلى تنوع مصادر درويش الذي يوظف التراث الفلسطيني والإسلامي إلى جانب العبري، بغية تعزيز هويته الأدبية والسياسية… ما يعني أن تأثره بالتراث العبري ليس تبعية بقدر ما هو استثمار ثقافي. رغم التأثير العميق والمستمر للثقافة العربية على الشعر العبري الحديث والمعاصر، إلا أن الدراسات حول هذا الموضوع، ما زالت نادرة كما تشير الدراسة – على الرغم من عمق تأثيرات الثقافة العربية – ومن ذلك استلهام شعراء عبريين، نصوصا عربية، سواء من التراث القديم، أو الشعر الحديث، ونموذجه تشرنحوفسكي، الذي تتضح في شعره معالم تأثره بالنصوص الإسلامية، علاوة على انبهاره بالشعر العربي من ناحية خصوبة خياله، فلا جرم أن نقع على شعراء متأثرين بنص «ألف ليلة وليلة»، ومنهم نتان ألترمان وأرز بيطون، فضلاً عن استلهام أمثال عربية، كما عند الشاعر حييم جوري وطال نيتسان، غير أنّ الكتاب يرى أن التأثر قد ذهب أبعد من المستوى السطحي، كما نجد سامي شالوم شطريت، الذي حاور نصوص محمود درويش إلى حد تبني مواقفه المناهضة للاحتلال، بينما استعار آخرون مقاطع موسيقية عربية، كما فعل روني سوميك مع أغاني أم كلثوم، وغيرها من الرموز الثقافية العربية، بالإضافة إلى الرموز الأسطورية والتاريخية، مثل حملات الصليبيين التي قارنتها قصائد عبرية بالصهيونية.
يسعى الكتاب في تكوينه الشمولي إلى الإحاطة بجدلية التراث في الشعر العبري، بحيث يتجاوز ظاهرة المقارنة المباشرة، ويمضي إلى تأمل خلفيات التكوينات العميقة المؤسسة للشعر، ومن ذلك الصراع الداخلي لدى شعراء من أصول عربية، مثل يوآف حيق، وأمنون شموش، وغيرهم، إذ تعكس أشعارهم حالة من الاغتراب يتنازعها انتماؤهم الشرقي وواقعهم الإسرائيلي، ما يحيلنا إلى القول بتعقيدات الهوية في الشعر العبري، وبذلك فإن الكتاب يقدم قراءة متعددة الجوانب حول مواقع التماس والتداخل بين التراثين، غير أنّ جزئية البواعث تبقى بحاجة إلى بعض التوضيح، ولاسيما البواعث العميقة لهذا الجدل التأثري.
التراث: مقاربة أسلوبية
لا يقتصر الكتاب على جوانب التأثر والتأثير، إنما يتجاوز ذلك لبحث بعض الجوانب الفنية، وعلاقتها بتكوين التراث وصيغه، ومن ذلك تطوّر الصور الشعرية في الشعر الفلسطيني والعبري، بوصفها أداة لتمثيل الصراع والهويات الثقافية، فيرى علي فتح الله أنها تتكون من صور جزئية، وأخرى مركبة، ومن ذلك توظيف الرموز التراثية والدينية عند فدوى طوقان، التي تمزج بين الرمزية والزمنية، في المقابل يتمحور الشعر العبري حول التشبيه الحسي الخارجي كما عند بياليك وتشرنحوفسكي من أجل بيان أزمات الهوية العبرية، في حين تظهر قصائد داليا ربيكوفيتش، نموذجاً صريحاً فتجعل من السفينة المهشمة رمزاً يحيل إلى هشاشة دولة الكيان. تظهر رموز التراثين العربي والإسلامي بوصفهما مرجعاً لإبراز الحق الفلسطيني، ومن ذلك شخصية إيليا في شعر سميح القاسم، بينما يعكس الشعر العبري صورة نمطية سلبية عن العرب، كما في قصائد أمير أور، بينما تحضر رمزية من الأرض والأب والأم محاور أساسية في كلا السياقين، فالأم ترتبط بالأرض في الشعر الفلسطيني أو بوصفها مصدر حياة، بينما في الشعر العبري تعني نهاية الرحلة، بينما تأتي شخصية «نوح» ضمن تصور إيجابي في الشعر الفلسطيني، بينما يصوره العبري على أنه عبء يثقل الحاضر، وبذلك يخلص الباحث إلى أن الصور الشعرية تعبر عن صراع الهوية المتشابك بين الذات والآخر، غير أنها مؤطرةً بالصراع الثقافي والسياسي.
ضمن ثنائية الأنا والآخر إحالة إلى أن «الأنا الفلسطينية» تستمد قوتها من التراث والتاريخ، من ذلك معركة حطين في شعر سميح القاسم، غير أن هذه الأنا تبدو ممزقة نتيجة الاحتلال والتهجير، كما نقرأ في شعر محمود درويش، في المقابل تظهر «الأنا الصهيونية» في صورتين متناقضتين: «المنتقمة» التي تجسد العنف والثأر، كما في شعر تشرنحوفسكي و«الممزقة» التي تعكس اضطرابات داخلية بين الانتماءات الثقافية والدينية. في محور آخر يدرس الكتاب أنماط الرمز التي تتعدد بين العام، والخطي، والكلي، والجزئي، حيث يستخدم بعض الشعراء رموزا تتجاوز أعمالهم الفردية، كي تصبح سمة جلية، ومنه رمزية المسيح لدى محمود درويش، في حين نجد رموزا خطية تربط قصائد ديوان كامل مثلما ظهر في أعمال يهودا عميحاي، أما الرمز الكلي، فيسيطر على قصيدة بعينها مثل «سيرة جليات» لسميح القاسم، بينما الرمز الجزئي يظهر في مقاطع محددة، كما في استخدام مريد البرغوثي رمز الصعاليك ما يعكس تنوعاً في تأويل الرموز في ضوء سياقات معاصرة.
أثر اللغة
يختبر الكتاب المعجم الشعري بوصفه أداة مركزية للتعبير عن الهوية والمواقف الأيديولوجية، فالموت في الشعر الفلسطيني يتجاوز مقولة النهاية فيمسي شهادة تؤكد الخلود والارتباط بالأرض، غير أنّ بعض الشعراء اليهود نتيجة ارتباطهم بالفكر العلماني يرون الموت فناء نهائياً، أو حالة اغتراب، وبهذا يبدو الموت مرآة للفوارق الأيديولوجية والثقافية بين الطرفين. يخصص الكتاب فصلاً لبحث الإيقاع، فيشير إلى أنّ الشعر العبري تطور عبر التخفف من الأوزان الكلاسيكية إلى تبني أنماط حديثة ما يعكس محاولات للتماهي مع الحداثة، مع الحفاظ على إرث الكتاب المقدس، أما الشعر الفلسطيني فقد بدأ متمسكاً بالشكل العمودي بوصفه رمزاً للهوية، غير أنه سرعان ما يتجاوزه ليتبنى موقفاً يحيل إلى أشكال التمرد على أيديولوجية الهزيمة فيأتي تبني الشعر الحر، وقصيدة النثر بغية تحدي القوالب التقليدية، والأخيرة تمثل مساحة للابتكار عبر تجاوز الوزن بهدف توظيف الإيقاع الداخلي القائم على التكثيف والرمزية. يخلص الكتاب إلى أن النماذج الجديدة، ومنها قصيدة النثر شكلت ركيزة أساسية للتجريب الشعري في كلا السياقين، ولاسيما توظيفها للتوازي والتكرار والتكثيف الدلالي، ففي الشعر العبري تظهر قصيدة النثر أقرب إلى سرديات متأثرة بالإيقاع الكتابي كما في قصيدة «ليس لحما»، التي تستلهم الرموز الدينية لبيان التناقضات الوجودية، أما في الشعر الفلسطيني فتصبح القصيدة أداة للمقاومة عبر توثيق الحياة اليومية برمزية مكثفة، كما في «غافلتكِ… وشربت كأس الخليل» لعز الدين المناصرة، وبذلك نستنتج أن التوتر بين التراث والحداثة، يتخذ منطلقات مختلفة، ففي بعض الشعر العبري تصبح الثورة على التراث تجاوزاً للتقاليد الدينية – أحياناً- لصالح النزعة العلمانية، في حين أن الشعر الفلسطيني يُوظف التراث وسيلة لمقاومة السرديات الصهيونية، وإعادة صياغة الهوية.
نخلص إلى أن الكتاب يشكل إضافة كونه يُعنى بموضوع شديد الأهمية، فالصراع ينهض في جزء كبير منه على التراث، ويسعى للإحاطة بالكثير من المستويات، ومع ذلك فثمة قيمة لأهمية التعمق في بيان بعض الأطر التأسيسية، التي ترتبط ببعض الجوانب مع أهمية بناء رؤية استشرافية حول مستقبل الشعر الفلسطيني والعبري بوصفه دعوة إلى دراسات مستقبلية.
كاتب أردني فلسطيني