رواية «نداء القرنفل» : حيث اللعب والخسارة ولا شيء سواهما!
حسن داوود
تفتتح الرواية زمنها بهزيمة 1967 واعتذار جمال عبد الناصر عن الاستمرار بحكم مصر وقيادتها. تظاهرات ضخمة ملأت الشوارع والساحات الكبرى، داعية الرئيس إلى البقاء، لكن في شوارع وأحياء جانبية دعت تظاهرات أخرى، أقل ضخامة، إلى رحيله. لكن مع ذلك تُخرج الروايةُ السياسةَ والحرب مما سترويه لاحقا مكتفية بذينك الحدثين إشارة للزمن الاجتماعي الذي سننتقل إليه 1967.
لكن لن نعود إلى ما أعقب ذلك التاريخ من وقائع، ولن يُعاد ذكر السياسة إلا حين تبدأ مرحلة جديدة من حكم مصر، اتسمت بالانفتاح وامتلاء المخازن بالبضائع، وذلك بعد أن «عاش الشعب محروما من المعلّبات المستوردة لسنوات طويلة». ثم ، في ذكر لاحق لزمن ثالث، نقرأ عن اندفاع المتطرفين بالسِنَك والسكاكين وغاراتهم على الكنائس. لكن لن يذهب ذكر تلك الحقب إلى أبعد من ذلك في السياسة. لن تعود الرواية إلى أزمنتها تلك ولن تفصّل ما سيأتي بعدها. ما أراده الكاتب مصطفى موسى من ذكر تلك العناوين هو تقديم ما تميّزت به حياة المصريين منعكسة على تلك العناوين، أو المحطّات.
وهذا، على أي حال، ما جرت رفعه علامات فارقة في كل تاريخ لمصر، سواء شفويا أو كتابيا، أو سينمائيا.
هي أجيال تعاقبت على الرواية، كان أولها أولئك الذين صدمتهم الهزيمة. كلهم ساعون إلى النهوض من الفقر والحضيض الاجتماعي إلى الثراء، من طريق الصدفة أو الرشوة أو الاحتيال على القانون. في الرواية سنرى كيف انقلبت أحوال العائلات رأسا على عقب، بضربة واحدة غالبا، مثل أن يوقّع ناطور البناية على بيع ملك عقاري لا يملكه، وفي الآن نفسه، يعثر على كوَم من المال مخبّأ في حشية الأرائك. آخر يثري عن طريق ادعاء الوجاهة، وآخر عن طريق التوسّط، وأخرى عن طريق الاستدراج. لا شيء في بداية الحراك الاجتماعي ذاك قام على سويّة قانونية. هذا وكانت أعمال سينماية وتلفزيونية قد نقلت وقائع وطرفا من ذلك العالم القائم على التدبّر والحيلة. نذكر من ذلك عالم البوّابين السماسرة، الذي حلّ محل المالكين ناقلا الثروة إليهم.
وكما في صور سابقة لعلاقة الرجال بالنساء نقرأ كيف أن النساء اللواتي سيتعرّضن إلى الغواية لا يلبثن أن يرمَيْن في الهجر. هرب فتحي من الشابّة حياة وأقفل تلفونه المحمول بعد مغامرة وُعدت فيها بكل ما تحلم به فتاة. جميعهن تُركن للوحدة، أو للخيانة في ما خصّ صديقة حياة، التي رغم محاولات لها عديدة، لم تتمكّن من وقف زوجها عن التسلّل إلى مخادع الأخريات. وفي فصول أخرى، ومع شخصيات أخرى، مثل الشيخ بحبح المقيم في المسجد لأن لا مكان آخر يقيم فيه، نقرأ عما يتعدّى العلاقات بالنساء لتصل شهوة ذلك الشيخ المزيّف إلى الأولاد ومن يُتاح له ممن ليسوا نسا أو أولادا.
في الرواية أشخاص يصعدون في الثراء وآخرون ينحدرون عنه، هكذا كأن الزمن لا يجيد إلا هذه اللعبة المؤرجحة لناسها، وأيضا بسبب تراكم الزمن نقرأ عن أشخاص يهجرون أهلهم، مثل ذاك العصامي خالد، الساعي إلى الارتقاء نحو أن يكون شخصا من مرتبة اجتماعية أرفع، والذي يهجر أمه كليا لكن ليندم على ذلك قبل قليل من موتها، أي في لحظة الندم المناسبة. هو ثراء مخادع كاذب يرتقي البشر إليه من فقر لم يسبق أن أمعن كتاب هكذا في وصفه. في بداية الرواية، حيث يبدو الثراء طبيعيا ومتوارثا، نقرأ عن فقر مزامن لنساء لن تنقذهن الحيلة مثلما يحدث لبعض الرجال.
فزينب تُسَرّ لحصولها على وظيفة في المستشفى، يقتصر عملها فيها على تجميع بوْل المرضى وغائطهم وحمله إلى المكبّات، أما خديجة فتعمل في رتق الأحذية المهترئة نعالُها والمثقّبة كي تكون، بعد تنظيفها ودهنها، صالحة لأقدام من هم أكثر فقرا من منتعليها السابقين.
وطالما أن مسار الفوضى مسلك للجميع، وأن قانونه يسري عليهم جميعا، يبدو كأن لا شيء دراماتيكيا يميّز عيشهم، أو عيشَ أحد منهم. كأن الحياة تجري مثل هبوب متكّرر، لينقضي بعد ذلك من دون أن تترك أثرا. لا يمكن الإمعان في التركيز على تلك القطنة، التي تبدأ منها الرواية وتنتهي بها، على أن تأتي بجديد.. القطنة ذات الاستعمالات المتعدّدة، بدءا من سدّ ثقوب الميت قبل دفنه واستعمالات الشيخ بحبح لقطنة مثلها يشبعها بالخمر ليمتصه خفية عن العيون. كأن الرواية تقول لنا أن لا شيء يحدث، رغم هذه الأجيال الثلاثة أو الأربعة، إلا هذه الحياة المتكرّرة بلا معنى.
رواية مصطفى موسى «نداء القرنفل» صدرت عن دار نوفل في 250 صفحة سنة 2024