ثقافة وفنون

الغرب وآداب اللسان العربي

الغرب وآداب اللسان العربي

صبحي حديدي

رأى معهد الثقافة العربية/الجامعة الكاثوليكية في ميلانو، الذي يديره الصديق الدكتور وائل فاروق ويشرف على أنشطته رفيعة المستوى وعالية القيمة، أن تدور وقائع الدورة الثامنة لـ»مهرجان اللغة والثقافة العربية» حول موضوع حيوي وإشكالي، وراهن تماماً أيضاً؛ هو «اللسان المهاجر: العربية بلا حدود». وقد تشرفت هذه السطور بمشاركة تحت عنوان «إشكاليات اللسان العربي في الغرب: إدوارد سعيد وجبرا إبراهيم جبرا».
وقد تركزت أفكار الورقة في نطاق أوّل زمني يخصّ الواقع الراهن للأدب العربي المترجم والصادر في الغرب، ونطاق ثانٍ لغوي هو الإنكليزية؛ اتكاءً على افتراضَين موازيين أيضاً: أنّ هذا الأدب المترجم هو أحد أبرز وسائط حضور اللسان العربي في المهاجر عموماً وحيث تسود الإنكليزية خصوصاً، وأنّ استقبال الأعمال المترجَمة ينطوي على إشكاليات سياسية وثقافية وتجارية ورقابية تصاعدت وتائرها أكثر فأكثر مع موجات الربط المباشر والتعسفي بين الإسلام والعرب من جهة، والإرهاب من جهة ثانية.
المحور المركزي في الورقة ناقش بعض إشكاليات حضور اللسان العربي المهاجر، أي الأدب المترجم إلى اللغة الإنكليزية أو المكتوب بها أصلاً ومباشرة، من خلاف موقفَين يمكن اعتبارهما مشهودَين؛ لاثنين من المشتغلين بهذا الأدب: الناقد الفلسطيني ـ الأمريكي إدوارد سعيد (1935ـ2003)، والروائي الفلسطيني ـ العراقي حبرا إبراهيم جبرا (1919ـ1994).
ففي مقالة مشهودة بعنوان «أدب محظور»، تعود إلى خريف عام 1990، روى سعيد حكاية وقعت له مع ناشر تجاري أساسي في نيويورك، ليبرالي النزعة عموماً، طلب منه اقتراح روايات من العالم الثالث بقصد الترجمة والإصدار ضمن سلسلة. وقد احتوت القائمة على روايتين من نجيب محفوظ، وكان ذلك قبل ثماني سنوات من فوز الأخير بجائزة نوبل للأدب، لكنّ أسابيع مرّت دون جواب من الناشر، وحين استفسر سعيد جاءه ردّ صاعق: «المشكلة أنّ العربية لغة إشكالية».
واضح، بالطبع، أنّ الإشكالية التي كانت في ذهن الناشر الأمريكي لم تكن تتصل باللغة العربية، من حيث مفرداتها وتراكيبها وقواعدها وتاريخها ومساحات انتشارها؛ بل سلسلة المشكلات التي تقترن في الذهن الأمريكي، والغربي إجمالاً، بالشعوب الناطقة بهذه اللغة. ومن المستبعَد أن يكون الناشر قد تردد في قبول ترجمة محفوظ لأنه لم يلمس في رواياته مقداراً من الحداثة والانتماء إلى العصر يكفي لاقتراحه على القارئ الأمريكي.
من غير المستبعَد، في المقابل، أن يكون الناشر الأمريكي، الذي رفض محفوظ بسبب من «إشكالية» اللغة التي يكتب بها، ضحية النظر إلى اللغة العربية بوصفها أداة الإسلام، ثمّ أداة الإرهاب استطراداً. صحيح أنه اتخذ قراره في تسعينيات القرن الماضي، لكنّ وعيه ــ السياسي والثقافي، فضلاً عن حسّه التسويقي والتجاري ــ كان يرتدّ إلى صدر المشروع الثقافي للإمبراطورية والاستعمار، ويقيم صلة خطابية مع وقائع السياسة في أواخر القرن العشرين.
مقالة جبرا كُتبت بالإنكليزية وحملت عنوان «لِمَ الكتابة بالإنكليزية»، وكانت بمثابة محاضرة جال بها على عدد من الجامعات في بريطانيا والولايات المتحدة. وكان جبرا قد اختار كتابة الشعر والرواية القصيرة باللغة الإنكليزية أولاً، ثم انتقل إلى اللغة العربية أو ترجمة بعض أعماله إليها، وعاد مجدداً إلى الإنكليزية، حتى استقرّ نهائياً على اللغة العربية.
كانت لتلك التجربة مسوغات فكرية في يقينه، بعضها جدير بالاهتمام من زاوية اغتراب اللسان العربي المهجري بين الأصالة والمعاصرة، وبين النزعة المحافظة والليبرالية، وبين التقليد والحداثة؛ إذْ تقلّب جبرا طويلاً بين هذه الثنائيات، حتى آمن في نهاية المطاف بأنّ الحداثة في الوطن العربي هي البوّابة إلى تغيير أنماط الفكر والتعبير، قبل السياسة والاقتصاد. وأنّ أية حداثة عربية لا يمكن إطلاقها أو إنجازها إلا باللغة العربية، فكتب حرفياً: «بعد سنة 1948 اقتنعت بأنّ اعتبار اللغة العربية عاجزة عن أداء دور الوسيط في إشاعة الفكر الثوري، هو بمثابة هزيمة لهدفنا. فالتغيير يبدأ مع الكلمة مهما كانت متابعتها شاقة، ولهذا رجعتُ إلى الكتابة باللغة العربيّة».
والحال أنّ سيرة جبرا الشخصية والأدبية تحيل إلى عناصر أخرى خلف هذا التوزّع بين اللغتين العربية والإنكليزية، ففي اللغة الثانية يُشار إلى أنه درس في جامعتَي كامبرج وهارفارد، وترجم إلى العربية 7 مسرحيات من شكسبير، فضلاً عن أعمال مميزة عالية التأثير مثل رواية وليام فوكنر «الصخب والعنف». وقد ولد في أضنة، جنوب الأناضول، وفرّت أسرته إلى فلسطين هرباً من المذابح بحقّ المسيحيين، ثمّ فرّت مجدداً من بيت لحم إلى القدس، حتى استقرت أخيراً في العاصمة العراقية بغداد.
بذلك فإنّ سعيد نظر إلى أزمات اللسان العربي في الغرب من زوايا سياسية وثقافية، تضرب بجذورها في تنميطات استشراقية مسبقة ومهيمنة لأسباب لا تتصل مباشرة بالقِيَم الفنية أو الاستقبالية للآداب العربية؛ وأمّا جبرا فقد ابتدأ من وهم قصور التعبير في اللغة العربية، فكتب أولاً باللغة الإنكليزية، ثمّ توصّل إلى خلاصة شبيهة بما سيقتنع به سعيد، فعاد إلى الكتابة باللغة العربية.
النظرتان تنتهيان، إذن، إلى أنّ الإشكالية متكاملة على أكثر من مستوى واحد، واللسان العربي يعاني في الحالتين من أنساق غبن وتجاهل واختزال، قد تصل إلى درجة الحظر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب