الرواية الجزائرية: قراءة في الاتجاهات الفنية والتوجهات الأيديولوجية
محمد تحريشي
إنّ الحديث عن الرواية في الجزائر حديث عن تراكم في الكتابة، يحتاج إلى نوع التأريخ والتصنيف؛ حتى يتم الوقوف عند البدايات بنظرة استشرافية للمستقبل حول واقع الكتابة الروائية في الجزائر. ولعل من نافلة القول، ونحن نروم هذا التصنيف، أن نلتمس تصورا جديدا يستفيد مما كُتب عن هذه الرواية من دراسات وأبحاث ومن كُتب، وفي الوقت ذاته يسعى إلى تقديم ما غفل عنه بعض الدارسين أو تناسوه، أو أنه لم ينسجم مع تصوراتهم في مشاريعهم حول الرواية في الجزائر، أو أنهم عالجوه من زاوية أخرى لامست من قريب أو من بعيد، ما سنقف عنده هاهنا ونعالجه.
أول ما تداعى لي وأنا أباشر هذا الموضوع الدراسة التأسيسية للكاتب واسيني الأعرج والموسومة بـ»اتجاهات الرواية العربية في الجزائر»، التي وضعت قاعدة لتصنيف النصوص الرواية في الجزائر، بناء على معطى مذهب أدبي أو تيار فني. وذلك بتوظيف القراءة السياقية والتأريخية من جهة، والدراسة الفنية من جهة أخرى، وكانت هذه الدراسة بذلك قاعدة ارتكزت عليها أغلب الدراسات الأكاديمية، التي سعت في ما بعد إلى تأريخ الظاهرة الأدبية والنقدية في الجزائر.
إن الوقوف عند اتجاهات الرواية العربية في الجزائر، يجعلنا نقف على دلالة مفهوم اتجاهات عند هذا الدارس. فقد صنّف النصوص الروائية ضمن اتجاهات هي: الاتجاه الإصلاحي، الاتجاه الواقعي، الاتجاه الواقعي الانتقادي، واتجاه الواقعية الاشتراكية انطلاقا من أن الدراسة كانت في نهاية السبعينيات من القرن الماضي وبداية الثمانينيات منه. يجد القارئ نفسه مضطرا للوقوف عند الفروق الدلالية بين الاتجاه والتوجه، حتى يستطيع أن يستبين طريقه تفاديا للتداخلات بين المفهومين في الدلالة، ولنتفق من حيث المبدأ على أن نميز بينهما في أن نجعل لكل منها مجالا خاصا:
اتجاه الرواية:
يشير اتجاه الرواية إلى التيار الأدبي أو المدرسة الأدبية التي ينتمي إليها العمل الروائي، والذي يختاره المبدع بوعي تام والتزام واضح، انطلاقا من أنّ لهذا الاتجاه خصائص فنّية مفضّلة للكاتب، أو أنها دُرجة الجيل في الكتابة، التي تستجيب لآفاق الكتابة لدى المتلقين. إنّ اتجاه الرواية هو مسار عام يتبعه النص ويحدد نوعه أو تصنيفه الأدبي بناءً على خصائص معينة تتفق مع اتجاهات أدبية سائدة في فترة معينة. ويرتبط الاتجاه غالبا بالخصائص الفنية والتقنيات السردية والأسلوبية للمدرسة الفنية أو التيار الأدبي، مثل الاتجاه الرومانسي، الواقعي، الحداثي، أو الوجودي، إلخ.
توجه الرواية:
إنّ توجه الرواية يعنى بالموقف الفكري أو الأيديولوجي الذي تتبناه الرواية. ويمكن أن يكون هذا التوجه ثقافيا، فكريا، سياسيا أو اجتماعيا، ويعكس قضية أو فكرة معينة يريد الكاتب إيصالها، أو أن النص يتبناها أو أن القارئ يتطلع إليها. ومن ثم فإنّ التوجه يركّز على الرسالة أو الهدف من وراء الكتابة، وقد يتعلق بمناقشة قضايا معينة أو إبداء الرأي فيها، فالتوجه الاجتماعي -على سبيل المثال- يعالج قضايا الفقر أو العدالة، في حين أنّ التوجه الأيديولوجي يعكس مواقف سياسية، أو ثقافية. ومن ثم فإذا كانت الرواية تهدف إلى نقد الأوضاع الاجتماعية، أو الدعوة للتغيير، فهي ذات توجه اجتماعي. وإذا كانت تسلط الضوء على القضايا السياسية أو الهوية الوطنية، فهي قد تعبّر عن توجه سياسي.
إن توجهات الرواية هي تلك الرسالة الفكرية أو الأيديولوجية التي يسعى النص لتوصيلها إلى القراء من منظور فكري وثقافي. ومما تقدم فإنّ توجهات الرواية يُنظر إليها من ثلاث زوايا هي المبدع والنص والقارئ، أو المتلقي. سنركز ها هنا على الزاوية الأولى المتعلقة بالمبدع.
تطلعات المبدع:
تتوجه الرواية اليوم أكثر من أي وقت مضى للتعبير عن هموم الناس، من خلال الوقوف عند قضايا إنسانية كالهوية والاغتراب والحريات الشخصية، وتهتم بعوالم الأفراد الداخلية والنفسية المعقّدة، كالشعور بالإحباط واليأس والعزوف عن الحياة، والوقوع في الإدمان بكل أشكاله، والوقوع في صدام مع الحياة، ما قد يؤدي إلى تفشي ظاهرة الانتحار، ومن ثم فإنّ المبدع يسعى إلى تجاوز الأطر التقليدية للكتابة والمألوف منها والمعتاد، بتوسيع أفق السرد بتقنيات جديدة كتداخل الأزمنة وتعدد الأصوات وتوظيف الرمزية، والانفتاح على تجارب جديدة وثقافات متعددة. تسعى تطلعات المبدع إلى بناء أعمال تتحدى القارئ وتدفعه للتفكير النقدي والتساؤل، ما يفتح بابا لفهم أعمق للحياة، ومواجهة أكبر للتعقيدات الاجتماعية والسياسية المحيطة. ومن ثمّ فإن الرواية تتبنى تيارات إبداعية متباينة تعكس اهتمامات الكاتب وميوله المختلفة.
ب -التركيز على التجربة اللغوية: يعمد بعض المبدعين إلى التركيز على التجربة اللغوية في الرواية لنقل مواقفهم من العالم ومن القضايا الشائكة التي تشغل بال الإنسان، ويرون أن اللغة هي أداة الإبداع الفني للتعبير عن أفكارهم، وهي القادرة على تجسيدها في الواقع الفنّي، فيسعون لتطويعها وتجديدها عبر استخدام أساليب تعبيرية مبتكرة، كالتلاعب بالمفردات والتراكيب، أو خلق صور شعرية وأسلوبية عميقة. يمثّل هؤلاء المدرسة التي ترى أن جمال العمل الروائي يكمن في ثراء لغته وتأثيرها الحسي. ونحن لا نقصد السلامة اللغوية، بل القدرة على إنتاج لغة تحمل بصمة الكاتب وتكون قادرة على حمل تلك الأفكار عبر النص إلى القارئ. إنّ المبدع هو المنتج للغة لا المستهلك لها. فكاتب ياسين على سبيل المثال لا الحصر استطاع أن يسلب اللغة الفرنسية جنسيتها وهو يكتب رواية «نجمة»، وكذا فعل رشيد بوجدرة في رواية «التطليق» ورواية «المرث». وتكاد رواية «صوت الكهف» لعبد الملك مرتاض أن تكون تداعيات لغوية، كما أن الحبيب السايح ارتقى باللغة الروائية في نصوصه إلى مبدأ الاشتغال على اللغة.
ج -التركيز على البناء الدرامي: يعمد بعض الكتّاب إلى بناء قصة متماسكة قائمة على التشويق والتعقيد الدرامي حتى تشد إليها القارئ، ومن ثم يتلقى مجموعة الرسائل الحاملة لموقف الكاتب بطريقة واعية ولاواعية في الوقت نفسه؛ فينصبّ تركيز هؤلاء الكتّاب على السرد وتطّور الأحداث ونمو الشخصيات. تقوم اللعبة السردية ها هنا على جذب انتباه القارئ عبر إثارة فضوله والتشويق المتصاعد إلى درجة قد تتقاطع مع ما عاشه المتلقي من تجارب في الحياة، وما توفر لديه من خبرات عنها. تجربة عبد الحميد بن هدوقة غنية بهذا التوجه في نصوصه الروائية من «ريح الجنوب» إلى «غدا يوم جديد»، وليس معنى هذا أن هذا الكاتب لا يعنى بالجوانب الأخرى في ما تحمله نصوصه من موقف من العالم ومن الحياة وتعقيداتها، وإنما الغالب عليها التركيز على الجانب الدرامي. كما أن الكاتب واسيني الأعرج يعتمد كثيرا على البناء الدرامي في تحميل نصوصه الروائية بمواقف معلنة صراحة، أو متضمنة خفية لا تكاد تظهر؛ بكثير من الاحترافية التي تعلن عن تمكنه من الكتابة الروائية. ولعل رواية «نساء كازانوفا» لواسيني الأعرج، على سبيل الماثل لا الحصر، خير مثال على ذلك بما حوته من تشويق وإثارة، تجعل القارئ مندهشا من بشاعة بعض الأحداث وفظاعتها؛ تدفع القارئ إلى التفاعل مع رمزيتها بكثير من العناية والاهتمام.
د – التركيز على الموضوع: يفضّل بعض الكتّاب توجيه عنايتهم نحو موضوع القصة بكثير من الأولوية والاهتمام، فيركزون على قضايا جوهرية تهم المجتمع والإنسانية، مثل العدالة والمساواة والظلم والاستغلال، ومسائل الهوية والحريات؛ فيصدرون أعمالهم وهي تحمل مواقفهم من هذه القضايا بشيء من النضال والالتزام. ذلك أنّ هذه القضايا هي جوهر العملية الإبداعية عندهم، وهي الأساس الذي تعتمد عليه تجربتهم في الكتابة، كونها مسؤولية ونضالا وإعلانا عن الحق والواجب، ومن ثم فهم يوظفون السرد خدمة لهذه الرسالة النبيلة، المراد إيصالها إلى المتلقي بفنّية وجمالية وإتقان. وقد يكون البناء السردي والأدوات الأخرى خاضعةً له لخدمة الرسالة المراد إيصالها.
شغل موضوع الثورة التحريرية الروائيين في الجزائر، وقلّما نجد كاتبا لم يتعرض لهذا الموضوع من باب الشعور بالزهو والانتصار لهذه الثورة أو من باب أنها تشكل مرجعية مهمة للكتابة، أو من باب أن الكاتب يسعى إلى تقديم قراءة للثورة للكشف عن بعض المسكوت عنه في هذه الثورة، وهو إذ يسعى إلى ذلك لا يقوله صراحة وبطريقة مباشرة وتقريرية، وإنّما يوظّف فن الرواية ليرصد مجموعة من الوقائع تعكس موقفه من هذه الثورة، بغض النظر عن أنه شارك فيها أو عاش أحداثها أو ممن ولدوا بعد الاستقلال.
كاتب جزائري