الدولة والثورة على الطريقتين اللبنانية والسورية
الدولة والثورة على الطريقتين اللبنانية والسورية
وسام سعادة
من «اتحاد شبيبة الثورة» إلى جريدة «الثورة» ناءت سوريا في «حقبة البعث» تحت ثقل الاستخدام المفرط لمفردة «ثورة» هذا مع أن حكم البعث فيها استولى على السلطة بانقلاب العسكر، بعيداً عن أي دور حيوي فعلي للجماهير الشعبية. دستور 1973 يعجّ بهذه المفردة. ينص على أن «الثورة في القطر العربي السوري هي جزء من الثورة العربية الشاملة، وسياستها في جميع المجالات تنبثق عن الاستراتيجية العامة للثورة العربية». يشدد على «توحيد أداة الثورة العربية في تنظيم سياسي موحد». يعرفها بأنها «الثورة العربية المعاصرة ضد التسلّط والاستغلال». يحدّد ما يتميّز به حزب البعث بأنها «أول حركة في الوطن العربي أعطت الوحدة العربية محتواها الثوري الصحيح». كل هذا في مقدمة دستور، وليس في منشور حزبي. أما المادة 11 فتنيط بالقوات المسلحة «حماية أهداف الثورة». الدستور نفسه يشدد على أن «الحرية حق مقدس والديمقراطية الشعبية هي الصيغة المثالية التي تكفل للمواطن ممارسة حريته التي تجعل منه إنساناً كريماً». ليس من البديهي بعد كل هذا أن تُستَصلح المفردة ذاتها، «الثورة» لتوجيهها بدءاً من عام 2011 ضد النظام البعثي – الأسدي، وقد ارتبطت هذه المرة بديناميات شعبية انتفاضة واسعة واجهت آلة البطش والرعب.
الطريف أنه يوم استبدل دستور حافظ الأسد هذا عام 2012، وفي سياق القمع الدموي، لم ترد مفردة «ثورة» في الدستور الجديد، الذي عرف عن نفسه أنه يأتي «تتويجاً لنضال الشعب على طريق الحرية والديمقراطية وتجسيداً حقيقياً للمكتسبات واستجابة للتحولات والمتغيرات».
بخلاف سوريا، لم ترد مفردة «ثورة» في الدستور اللبناني. لم تغب في الخطاب السياسي في المقابل. كان حديث عن ثورة بيضاء ضد بشارة الخوري، وعن «الثورة» الممتزجة بمناخ الحرب الأهلية، ضد كميل شمعون. أما شعار الخمينيين المحليين منتصف الثمانينيات عن «الثورة الإسلامية في لبنان» فسرعان ما اكتفي منه بحد «المقاومة الاسلامية». في المقابل، تأرجح توصيف حشود 14 مارس 2005 المطالبة بمعاقبة قتلة رفيق الحريري وانسحاب الجيش السوري وحشود الشهر الجماهيري الحافل بدءاً من 17 أكتوبر 2019 بين «انتفاضة» و«ثورة».
في لبنان، الرئيس الجديد جوزيف عون يلخص المرحلة بأنها انتقال من حقبة «المقاومة» إلى حقبة «الدولة». وثورة المجتمع المدني تجد نفسها في هذا، مع أن الرئيس قادم من العسكر
اليوم، يطرح مآل سرديات «الدولة والثورة» في البلدين. يحيل هذا في الأساس على عنوان كتاب لينين عشية الانتفاضة البلشفية. في تصوره، الثورة لا تنتهي مع الاستيلاء على السلطة. عليها تفكيك جهاز الدولة القديم وبناء جهاز جديد. المزعم في الكتاب أن الجهاز الجديد ينبغي أن يكون أقل بيروقراطية من الجهاز القديم، وليس فقط غير مرتبط بقمع الكادحين، ومرتبط بقمع أعدائهم. في الوقت نفسه، يمهد الكتاب للمشكلة التي ستصيب المجتمع السوفياتي كله، فلينين يطرح فيه شعار «تحويل الجميع لبيروقراطيين لزمن ما» أي كل مواطن بيروقراطي في جزء من نشاطه، «لكي لا يستطيع أحد بسبب ذلك أن يصبح بيروقراطياً». يشجب مسلك «الخشوع الخرافي أمام الدولة» والإيمان الخرافي بالبيروقراطية» ويتهم أبرز منظري الماركسية الألمانية، كارل كاوتسكي بهما.
لنتأمل في واقع الشعارات والسرد في سوريا ولبنان اليوم.
في لبنان، الرئيس الجديد جوزيف عون يلخص المرحلة بأنها انتقال من حقبة «المقاومة» إلى حقبة «الدولة». وثورة المجتمع المدني تجد نفسها في هذا، مع أن الرئيس قادم من العسكر. أساساً، كان مفهوم الدولة هو شعار الثورة المدنية في لبنان. أما المقاومة فكانت تعويضاً عن امتناع الثورة الإسلامية في هذا البلد.
في سوريا. رئيس الإدارة الجديدة يتناول ثنائية الدولة والثورة من موقع أن الثورة تنتهي بسقوط النظام الذي ثارت عليه، على أن يعاد بناء الدولة بعد ذلك. في الوقت نفسه يسند سلطته إلى نوع من «الشرعية الثورية» في غياب الإطار الدستوري الممأسس لها. «على يساره» تجد من يرى أن الثورة لا تنتهي إلا بتحقيق أهدافها في بناء النظام الديمقراطي المنشود وليس فقط في إسقاط النظام الديكتاتوري. وعلى يمينه من يريد القول في الوقت نفسه أن «الشعب يريد تحكيم الشريعة» وبالتالي جدلية الثورة والدولة يجد أن تصبو إلى تحقيق هذا المراد. هناك بالمحصلة ثلاثة أفكار في سوريا اليوم. إعادة بناء جهاز الدولة البيروقراطي والعسكري والديبلوماسي الخ، تشكيل نظام دستوري، تحكيم الشريعة. هل يمكن الرهان على تقديم مهمة إعادة بناء الجهاز أولا ثم النظر في أمر النظام الدستوري وما يمكن استيعابه وما لا يمكن من مقولة «تحكيم الشريعة»؟ أم أن الأمور ذاهبة نحو «تجريب» التخليط بين الحوكمة، بما تعنيه من شبكة كفاءة وفعالية وثقة بآليات تسيير الشؤون العمومية، وبين الحاكمية، أو دعوى تحكيم شرع الله وحده، بما تعنيه من نفي صلاحية التشريع عن الإنسان؟ هل «قدر» ثنائية «الدولة والثورة» على الطريقة السورية أن تفضي إلى ثنائية «حوكمة وحاكمية»؟
كاتب وصحافي لبناني