أمريكا: هل صار الجمهوري حزب الطبقة العمالية؟!
أمريكا: هل صار الجمهوري حزب الطبقة العمالية؟!
مالك التريكي
من مفارقات المجتمعات المعاصرة أن الفقر يتفاقم والهوة بين الأثرياء والبقية ما تفتأ تتسع، ومع ذلك فإن أحزاب اليسار لم تعد تحظى بشعبية. وحتى عندما تنجح بعض حكومات اليسار في إطلاق سياسات تقدمية ومشاريع إنماء، فإنها لا تضمن بالضرورة استمرارها في الحكم. ولعل إدارة بايدن هي أوضح الأمثلة. إذ رغم أنها انتهجت سياسات اقتصادية يسارية فإنها أخفقت في اجتذاب ناخبي الطبقة العمالية. والسبب أن الحزب الديمقراطي الأمريكي، مثله في ذلك مثل الحزب الاشتراكي الفرنسي، قد أخذ ينأى في العقود الأخيرة عن جذوره العمالية حتى كاد ينبتّ عنها. إذ إن مشكلة الحزب الديمقراطي الكبرى تتمثل، في رأي الكاتبة كايتلين فلاناغان، في شهوة المال والتودد إلى أثرى الأثرياء.
ولهذا تقول إنه لا بد من لصق لافتة على إحدى نوافذ مقر الحزب مكتوب عليها: إنهم الأثرياء، يا غبي! وهذا بالطبع تنويع على الشعار الشهير الذي أتاح لبيل كلنتون الانتصار على بوش الأب عام 1992: إنه الاقتصاد، يا غبي! وترى الكاتبة أن العلة المستحكمة في المجتمع هي أن ستين بالمائة من الأمريكيين يعيشون في ضيق وقلق، مترقبين الراتب من شهر إلى شهر، وأن أربعين سنة من إطلاق الحبل على الغارب لرأسمالية المضاربات ولسطوة مالكي الأسهم قد أنشأت طبقة من المليارديرات الذين صارت لديهم سلطة لا تحدها حدود. وبسبب هذا ظهرت في «بلاد الخير والفرص» هوة من التفاوت في الدخل تكاد تكون، لعمقها وهولها، هوة تفاوت إقطاعي. وقد كان من المفترض أن يعمل الحزب الديمقراطي على إصلاح هذا الوضع ولكنه «أخذ قبل ثلاثين سنة في مضاجعة طبقة المليارديرات ولم يغادر فراشها منذئذ».
وفي الأثناء نجح ترامب في إنشاء تحالف انتخابي واسع بتأييده للرأسمالية ولروح المبادرة والمجازفة وبمناهضته لتدخل الدولة في الاقتصاد. وقد كان من شأن هذه المواقف أن اجتذبت جميع الساخطين على «السيستم». ذلك أن المعاناة الاقتصادية قد عمت شرائح الطبقة العمالية على اختلاف أصولها الإثنية، كما تشرح مجلة النيويوركر.
إن أربعين سنة من إطلاق الحبل على الغارب لرأسمالية المضاربات ولسطوة مالكي الأسهم قد أنشأت طبقة من المليارديرات الذين صارت لديهم سلطة لا تحدها حدود
فالأسعار في غلاء متزايد وظاهرة التشرد تتفاقم بسبب تكاثر من فقدوا المأوى وصاروا ينامون في الشوارع. ومما يزيد من هشاشة معيشة الطبقة العمالية، حسب قول المجلة، أن أفرادها مثقلون بجبال من الديون (..) هذا هو الوضع العام الذي حدا بذوي الأصول اللاتينية من رجال ونساء، كما حدا بالرجال السود، ولو بدرجة أقل، إلى هَجْر الحزب الديمقراطي والفرار نحو ترامب. ولا شك عند النيويوركر أن ذهن ترامب لا يعج بالأفكار والحلول الكفيلة بمعالجة هذا الوضع الاقتصادي المظلم وبفتح هذا الأفق المنسدّ.
ولكن عندما يكابد الملايين من أبناء الطبقة العمالية دوام الخصاصة والمشقة، فإن من الطبيعي أن يرسخ لديهم الانطباع بأنه ليس من المهم لمن تصوت أو لا تصوت لأن التصويت لهذا أو لذاك غير ذي معنى وغير ذي أثر في تغيير الحال.
والرأي عند النيويوركر أن المشكلة الكبرى التي تواجه الحزب الديمقراطي هي شيوع الاعتقاد الشعبي بأن التصويت لمرشحيه لن يفيد في حل مصاعب العمال والكادحين الأمريكيين. وتعترف المجلة بأن إدارة بايدن قدمت للأمريكيين في عامها الأول مساعدات وتسهيلات مالية معتبرة، ولكنها أنهتها حالما انتهت إجراءات الطوارئ التي اتخذتها لمواجهة آثار جائحة الكوفيد بدون أن يقدم بايدن للأمريكيين تبريرا أو تفسيرا مقنعا. وتلك هي الثغرة التي تسلل منها ترامب وحزبه.
ونتيجة هذا كله الآن هي بروز مفارقة كبرى تتمثل، على ما يبدو، في أن الحزب الجمهوري ربما صار هو حزب الطبقة العمالية! حيث يقول مركز الأبحاث الترامبي «أماريكان كومباس» إن مرشحة ترامب لمنصب وزيرة العمل لوري شافيز-ديريمر (عضو مجلس النواب عن ولاية أوريغان) قد أعلنت مواقف مؤيدة للنقابات وأنها تحظى بدعم رئيس نقابة سائقي الشاحنات الدولية، إحدى كبريات النقابات في كامل أمريكا الشمالية.
وسواء ثبتت هذه المفارقة أم لم تثبت، فإن الواضح عند المعلق ديفيد ويغل أن فوز ترامب مجددا قد أنهى قصة التحالف الديمقراطي الجديد الذي نشأ بفعل فوز أوباما عام 2008. إذ طالما ظل ترامب يقود الحزب الجمهوري، نابذا سياساته القديمة المتمثلة في خفض المساعدات للمحتاجين والمسنّين، ومطلقا حروب الرسوم الجمركية ومعاودة المفاوضات التجارية، ومتفوّها بما يستفز الإعلام التقليدي، فإن الجمهوريين سيظلون قادرين على حرمان الديمقراطيين من أصوات ناخبيهم السابقين من غير حملة الشهادات الجامعية.
كاتب من تونس