مصّاص الدماء يهبط على المدينة كالطاعون

مصّاص الدماء يهبط على المدينة كالطاعون
منذ صدور كتاب الإيرلندي برام ستوكر «دراكولا» في عام 1897، رسخت في الذاكرة الثقافية شخصية مصاص الدماء الذي يتربّص في الظل، زارعاً الخوف والرغبة. «نوسفيراتو» الجديد هو الرعب بعينه، لكنه أيضاً الرغبة والتحرر. يخلق المخرج الأميركي مناخاً من القمع يتكشف ببطء ويجذبنا إلى دوامة من الخوف والافتتان!
لا يحتاج روبرت إيغرز سوى لبضع لحظات حتى تأسرك صوره المظلمة. سواء كان ذلك النفي من الحضارة في «الساحرة» (2015 ــــــ The Witch)، أو القارب الذي يبحر في الضباب إلى «المنارة» (2019 ـــــ The Lighthouse)، أو استحضار الآلهة في «رجل الشمال» (2022 ــــــThe Northman).
في جديده «نوسفيراتو» (2024 – Nosferatu) المطروح في الصالات اللبنانية، يأسرك قبل أن تتمكن حتى من رؤية أي شيء على الشاشة. في البداية، لا يوجد سوى صندوق يعزف موسيقى. تصفر الرياح بهدوء في الغرفة. ثم ينضمّ إليها أنين امرأة شابة تطاردها روح شريرة في الليل. تقف عند النافذة تصلّي قبل أن تهاجمها أثناء سيرها في الحديقة وهي نائمة، ثم تتحرك الكاميرا إلى أسفل الأرض.
بعد هذه المقدمة المليئة بالتوتر الإيروتيكي، ننتقل إلى ألمانيا عام 1838. قرر الكونت أورلوك (بيل سكارسغارد)، الذي يعيش في جبال الكاربات، شراء قصر غرونوارد المدمر في ويسبروغ. يُرسل توماس هوتر (نيكولاس هولت) إلى رومانيا لتوقيع العقد. وبعد رحلة شاقة، سيغيّر اللقاء مع أورلوك حياته إلى الأبد، وكذلك حياة زوجته إلين (ليلي روز ديب)، وخصوصاً عندما يصل الكونت إلى بيته الجديد في ويسبروغ.
منذ صدور كتاب المؤلف الإيرلندي برام ستوكر «دراكولا»، عام 1897، رسخت في الذاكرة الثقافية شخصية مصاص الدماء الذي يتربّص في الظل ويثير الخوف والرغبة. فيلم إيغرز الجديد «نوسفيراتو» أحدث محاولة لإحياء هذه الشخصية، يسير فيها المخرج بشكل كبير على خطى المخرج الألماني فريدريك مورناو الذي أخرج «نوسفيراتو» (1922 ـــــNosferatu: A Symphony of Horror). شكّل هذا الفيلم الصامت أفلام الرعب، وجعل من ماكس شريك بدور الكونت أورلوك رمزاً لسينما الرعب المبكرة. لقد شاهد الأميركي إيغرز فيلم مورناو عندما كان في التاسعة من عمره. ومنذ ذلك الحين، جاءته (أو يجب أن نقول لعنته؟) الرغبة في إنشاء فيلمه الخاص لهذا الشرير الشهير. قبل إيغرز، تجرأ الألماني فيرنر هيرتزوغ وصنع «نوسفيراتو» في عام 1979، تحت اسم «نوسفيراتو مصاص الدماء» (Nosferatu The Vampyre) الذي لعب بطولته كلاوس كينسكي. بالمقارنة مع الرعب القوطي لمورناو وأورلوك الشبيه بالجرذان، صنع هيتزوغ دراما أكثر كآبة حول الكونت الوحيد، لكن كلاهما نجح بشكل مثالي.
لقد أكّد مورناو وهيترزوغ لاحقاً، على التوتر الجنسي الكامن بين نوسفيراتو وضحاياه، لكن إيغرز يذهب أبعد من ذلك بوضع إيلين، التي غالباً ما تُصوّر بشكل سلبي، في المركز، وبالتالي شدّد على المنظور الأنثوي من القصة.
في فيلمه، يبلغ موضوع الشهوة الجنسية المكبوتة والشوق الوجودي ذروته. لكن إيغرز لا يروي فقط هذا الهوس الفردي، بل أيضاً يعكس فيلمه بشكل نقدي عالماً أبوياً، وما يعنيه الواجب الزوجي والخطيئة، والقيود الاجتماعية والهياكل الأبوية التي تبقى إيلين محاصرة بها. يركز إيغرز على العنصر الإيروتيكي، ليس بمعنى أنّه يسمح لمصاص الدماء بالتجول كغاوٍ، بل إنّ كل شيء مجرد نظرياً ومُتخيَّل في صور مقلقة، إلى درجة أنّ الرغبة الجنسية وفناء الذات يتحركان نحو بعضهما بلا هوادة، حيث طُرحت المغازلة مع الموت باعتبارها أعلى نشوة هنا.
«نوسفيراتو» إيغرز هو الرعب واللامبالاة واليأس، وأيضاً الرغبة والتحرر. إنه الغموض والحزن والسحر والكآبة والإغراء المروع. يلعب إيغرز بالتعبيرية الألمانية وبالظلال والغموض، لكنه لا ينجرف وراء التكرار الفارغ، بل يعطي نسخته غلافها الخاص. يستخدم الظلال والظلام ليس فقط كأداة أسلوبية تعبيرية، ولكن كإستراتيجية سردية. لا يأتي التهديد مما هو مرئي، بل مما يتربّص في الظل. يخلق هذا مناخاً من القمع يتكشف ببطء ويجذبنا إلى دوامة من الخوف والافتتان.
يبلغ موضوع
الشهوة الجنسية المكبوتة والشوق الوجودي ذروته
يحتفل إيغرز بشكل مفرط وأكثر قتامةً من مورناو وهيتزوغ بوصول الشر الذي ينزل على المدينة كالطاعون. يكشف عنه مع الآلاف من الفئران الطليقة وعشرات الجثث الملقاة في الشوارع. «إنه قادم» تُقال مراراً وتكراراً. إن توقّع الرعب يثير أعصاب المشاهد، فهو يأخذ سمات طقسية صريحة، وخصوصاً مع الموسيقية التصويرية لروبن كارولان، ومعالجة الضوضاء والأصوات المحيطة، وصورة جارين بلاشكه (صوّر بفيلم 35 ملم). إن مواجهة البشر للشرّ في الفيلم مذهلة بسبب الأداء البسيط ولكن الفعال لويليام دافو في دور البروفيسور ألبين فون فرانز، وهي شخصية تجلب إلى حوارات السيناريو مناقشة بانورامية حول الخيمياء والمعتقدات التي تغلغلت في الخيال الشعبي في عام 1836.
يدرك إيغرز اللحظات التي يجب أن يعطيها وزناً درامياً أكبر، وأين يجب تسريع الفيلم ومتى يأخذ وقته للتأكيد على جوانب معينة من القصة وأساطير مصّاصي الدماء. يُظهر المخرج أنّه يعرف تماماً كيف يتعامل مع هذه الحكاية الأسطورية بالاحترام التي تستحقه، حتى لا يكرّرها لقطة بلقطة، ولا ينحرف أيضاً عما يجعلها مميزة جداً. إن إنشاء العصور الماضية بدقة وبناء مناخات مظلمة قمعية، مع سرد يتضمّن عناصر من الرعب النفسي التي تتجاوز الرعب اللحظي، وشخصيات معقدة تواجه شياطينها الخاصة، تجعل «نوسفيراتو» فيلماً معاصراً وقديماً وخارجاً عن التاريخ في الوقت نفسه.
اورلوك في فيلم إيغرز حيواني، متوحش، مفرط الذكورة. لا يتراجع، إذا لزم الأمر، يلتهم الأطفال، ثم يلقي بأجسادهم في الزاوية مثل الدمى. وبسبب مرض الرئة الذي يعاني منه، فإنه يلهث ويشخر عندما يتنفس، ويهيمن على المكان بصوته فقط، ومشهد جسده الوحشي يرعب المشاهد ولكن ليس إيلين، التي تأخذ كل ما يعطيها إياه هذا الكائن، في المشهد الأخير المهيب من الفيلم. يقدم إيغرز فيلم «نوسفيراتو» على أنه معركة مع الغرائز، دراما زوجية حيث تتنافس الأجساد المعذّبة والمسكونة في مرحلة ما بعد الإشباع الجنسي، وتتشابك نهاية العالم الرمزية مع العقاب الذاتي الأبدي والعداء الاجتماعي للمتعة والنشوة.
* Nosferatu في الصالات اللبنانية و«متروبوليس» (مار مخايل ـ بيروت)