عن الحياة والناس… لقطات من رحلة الفنان المصري مصطفى الفقي

عن الحياة والناس… لقطات من رحلة الفنان المصري مصطفى الفقي
محمد عبد الرحيم
القاهرة ـ «القدس العربي» : تمتد رحلة الفنان مصطفى الفقي (1937 ــ 2024) من الستينيات وحتى عام رحيله، فناناً وأكاديمياً في كلية الفنون الجميلة في القاهرة. وقد أقيم مؤخراً في قاعة (أفق) في متحف محمود خليل وحرمه، معرضاً انتقائياً يمثل نماذج من مراحله الفنية التي تجاوزت 6 عقود.
وباستعراض اللوحات المعروضة يبدو اهتمام الفنان الأساسي بالحياة المصرية والناس العادية، بعيداً عن حِس أكاديمي يقيد روحه، بل من خلال أسلوب منضبط، لا يفقد هذه الروح هويتها وصدقها، ولا يتوسل الحِرفية في ذاتها، شأن الكثير من الفنانين، الذين يخضعون الموضوعات لأساليب مستوردة وغريبة عن موضوع العمل الفني، أو هرولة إلى الموضة الفنية التي تسود من وقت لآخر، أو تكرارات لا تنتهي لأسلوب يتمثله الفنان، ويجعله دالاً على وجوده كما الأسطوانة المشروخة، تكرارات مزعجة وبلا فائدة.
المكان وشخوصه
نبدأ بحديث للفنانة غادة الفقي ابنة الفنان، الذي من خلاله تستعرض العديد من النقاط الكاشفة لعالمه الفني، بداية من الموضوعات، حيث ترى أن الفنان كان شديد التأثر بالمكان، خاصة وقد زار وخبر العديد من الأماكن والبيئات، سواء داخل مصر أو خارجها، فجاءت لوحاته عن الحج وطقوسه من رمي الجمرات والطواف وما شابه. أما في مصر فتنوعت البيئات التي عبّر عنها.. بداية من الأحياء الشعبية في القاهرة، كالأزهر وشارع المعز والفخارين، ومهن الناس المرتبطة بهذه الأماكن، وكذا معتقداتهم وممارساتهم الطقسية ـ اللاشعورية في الغالب ـ إضافة إلى بعض المدن ذات الثقافة المغايرة كجنوب مصر وواحة سيوة والعريش. ومن هذه الأماكن المختلفة تتباين الشخوص، فيبدو بائع البطاطا وصاحب المسمط ورواده من البشر والكائنات الأخرى كالقطط على سبيل المثال، كذلك السَحَرة والمشعوذين المنتشرين في الأحياء الشعبية، هذا بخلاف الفارق بين تجمعات رجال الشمال والجنوب في جلساتهم، ولك أن تتخيل فحوى هذه الجلسات وحواراتها، وهو ما يختلف عن بيئة الصيد، حيث هدوء الصياد المتعمّد والمتربص بصيده المُنتظَر.
كل هؤلاء الشخوص من الناس العاديين، دون رسم فئات أو عالم لا يعرفه، كما أن هذه الشخوص لا تتحدد ملامحها أو تفاصيل تبعدها عن المتلقي، بل هي كُتل بشرية حتى يتم استشعارها، وحتى تتوحد أكثر مع مجموع شخوص من المشاهدين، وهو ما خلق حالة من التواصل مع المتلقي العادي، دون المتخصص أو أن تكون له اهتمامات فنية، فأعماله تعبّر عن الشخصية المصرية، فهو شخصية محلية جداً، وتعرف جيداً كيف تعبّر عن بيئتها.
الحدث
ومن المكان وشخصياته إلى الحدث، فهناك عدة أحداث تأثر بها الفنان الراحل ودوّنها في لوحاته، كلوحة (المومياء) المُستلهَمَة من مشهد نقل المومياوات. وهنا لا نجد الفنان انجرف كالعديد من الفنانين وراء الحدث كتوثيق دعائي له، ولكنه ضمّنه البيئة المصرية من طمي ونهر ونخيل وحشائش، ليعلو كل هذا جسد المومياء المُسجى، وكأنه نعش يليق بهذا الجسد، كاحتفاء طقسي جديد. الحدث الآخر الذي أشارت إليه الفنانة يتمثل في (حادث دنشواي) 1906، وهو حادث فارق في التاريخ المصري الحديث، وله تبعات سياسية، وهو ما ترتب عليه صدور أول حكم بالإعدام بحق مصريين من محكمة مصرية، وكان من بدايات إضرابات ومواجهة المصريين للاحتلال الإنكليزي، وهو ما تكلل بقيام ثورة 1919. هنا يجسد الفنان المأساة التي ضربت أهل القرية، في مزج بين حالة الناس المرتعبين، والفزع الذي طال طيور الحمام ـ سبب الأزمة ـ حيث أصاب أحد جنود الاحتلال امرأة مصرية بالخطأ عندما كان يصطاد الحمام.
الأسلوب
وتضيف الفنانة غادة الفقي، أن الفنان في رحلته استخدم عدة أساليب فنية، استطاع تطويعها، حسب الموضوع أو ما كان يستشعره وقتها، فهناك حالة من التجريد تخللت الأسلوب التعبيري الذي انتهجه. إضافة إلى ذلك ففي التسعينيات مثلاً اقترب أسلوبه من الحداثة، وهو ما يظهر في لوحتي (المدمن) و(الهرم). كما هناك العديد من الأعمال تم تنفيذها من خلال السكين فقط، دون الفرشاة، إضافة إلى تجارب استخدم فيها خامات مختلفة عن الزيت، كالقهوة والنِشا، وهي مجموعة كبيرة من الأعمال لم تسمح مساحة القاعة بعرضها.
الطقس الحي
ومن الموضوعات وشخوصها إلى التقنية وتعدد الأساليب الفنية، رغم سيطرة الأسلوب التعبيري، ولكن في شكل غير مباشر، نلحظ ذلك في فكرة التلاحم والتناغم بين الشخصية والمكان، وكأنهما كل لا يتجزأ، كما في لوحة (الطواف) وهي مختلفة تماماً عن الكثير من اللوحات التي تناولت الطقس المقدس، إلا أن اللافت هو فكرة (الطقس) نفسها، التي تبدو متواترة في معظم اللوحات وموضوعاتها المختلفة، فبين المقدس والشعبي تتباين الحكايات، فتناول الطعام والعمل والبيع والشراء، كلها تبدو من خلال الطقوس، وهذا بدوره الذي جعل اللوحة لا تنقل الواقع، أو تقوم بتسجيل الفعل، بل تبدو كحالة الشخصيات وإحساسها بما تقوم به، من جلسه في قطار أو جلسة في مقهى، أو حالة المدمن المنفرد بذاته، لتقوم (الإضاءة) بهذا الدور الأسطوري، بمعنى.. تحويل الواقع/العادي إلى طقس.
كاتب مصري