مقالات

سوريا… عودة العثمانيين بدون السلطنة

سوريا… عودة العثمانيين بدون السلطنة

رياض معسعس

بعد قرن من سقوط السلطنة العثمانية وخروجها من سوريا (الكبرى) التي كانت درة تاج «طوب قابي» يعود العثمانيون الجدد إلى سوريا (الصغرى) بقوة بعد لعب تركيا دورا قويا وأكيدا في إنهاء الحقبة الأسدية الممتدة لنصف قرن ونيف عبر دعم المعارضة المسلحة (هيئة تحرير الشام وفصائل متحالفة معها، والجيش الوطني السوري). هذه العودة التي بدأت منذ عقد تقريبا بدخول الجيش التركي إلى الشمال الغربي السوري المحرر (محافظة إدلب) وقامت بالتمركز في عدة نقاط كان هدفها الأول طرد قوات سوريا الديمقراطية الكردية «قسد» المدعومة أمريكيا، من مناطق متاخمة للحدود التركية في عملية تهدف إلى إنشاء منطقة آمنة تمتد من نهر الفرات غربا ـ حيث مدينة جرابلس ـ حتى المالكية في أقصى شمال شرقي سوريا عند مثلث الحدود التركية العراقية، بعمق يتراوح بين 30 و40 كيلومترا، وعلى امتداد يقدر بنحو 460 كيلومترا. ومن ناحية ثانية طرد إرهابي تنظيم الدولة «داعش». بدأت تركيا بعملية درع الفرات في آب 2016 ضد تنظيم «داعش» فتم تحرير 2055كم2، ثم تلتها عملية غصن الزيتون في كانون الثاني/يناير 2018 لاستعادة عفرين من الأكراد، في أكتوبر 2019 عملية نبع السلام على تل أبيض ورأس العين وتراجعت قوات «قسد» إلى الجهة الشرقية للفرات. هكذا بدأت العملية لكن الأهداف كانت أبعد من ذلك بكثير.
لا أحد ينسى موقف السلطان العثماني عبد الحميد من مطلب مؤسس الصهيونية تيودور هيرتزل (1901) عندما طلب منه بيع فلسطين (وكانت جزء من سوريا) بقوله الشهير:» لا أقدر أن أبيع ولو قدما واحدة من البلاد لأنها ليست لي، بل لشعبي، ولقد حصل شعبي على هذه الإمبراطورية بإراقة دمائهم، وسوف ندافع عنها بدمائنا قبل أن نسمح لأحد باغتصابها منا» لكن السلطان دفع ثمن موقفه بخلعه من منصبه، بل أن العرب بقيادة الشريف حسين (الذين لم يكونوا على علم بمؤامرة وعد بلفور، ومعاهدة سايكس بيكو التي بموجبها ستقسم تركة الرجل المريض، وتقديم فلسطين لقمة سائغة لليهود) حاربوا السلطنة بتحالفهم من الحلفاء (فرنسا وبريطانيا) مقابل الوعد الكاذب بإنشاء مملكة عربية مستقلة عن السلطنة، فلا كانت المملكة، ولا كان السلطان، وسقطت الإمبراطورية العثمانية، ومعها العرب الذين باتوا تحت سلطة الانتداب الفرنسي ـ البريطاني بتفويض من عصبة الأمم في مؤتمر سان ريمو. فتحولوا من مقارعة السلطنة العثمانية، إلى مقارعة دول الانتداب، الذين جزأوا سوريا (سوريا الحالية، لبنان، فلسطين، الأردن) ومن ثم بالطبع مقارعة الصهاينة في فلسطين. في تلك الأثناء نهضت تركيا من رمادها بتأسيس الجمهورية تحت قيادة مصطفى كمال (أتاتورك) الذي ضمر حقدا كبيرا على العرب «الخونة» لكن سوريا (الصغرى) لم تسلم من التجزئة فقبيل الحرب العالمية الثانية (1939) أهدت فرنسا لواء اسكندرون لتركيا مقابل عدم دخولها بالحرب إلى جانب ألمانيا النازية. بعد نيل استقلال سوريا (المصغرة) في العام 1946 وقيام الجمهورية العربية السورية، كان أمامها مواجهتان كبيرتان: الحرب في فلسطين، واستعادة لواء اسكندرون فلم تفلح في هذه أو تلك. فخسرت حرب النكبة، ثم حرب النكسة فاقتطعت إسرائيل منها الجولان.

بعد قرن من سقوط السلطنة العثمانية وخروجها من سوريا (الكبرى) التي كانت درة تاج «طوب قابي» يعود العثمانيون الجدد إلى سوريا (الصغرى) بقوة بعد لعب تركيا دورا قويا وأكيدا في إنهاء الحقبة الأسدية

لم ترتح أنقرة لاستيلاء حافظ الأسد (العلوي) على الحكم في سوريا بانقلاب 1970 خشية تحريض العلويين في لواء اسكندرون «السليب» كما كانت تصفه الحكومات السورية المتعاقبة، ولم يحاول الأسد أن يقيم علاقات ودية مع تركيا، بل على عكس ذلك، فاستخدمت تركيا مياه دجلة والفرات كورقة ضغط، مع استقبال الإخوان المسلمين المعارضين للنظام، وقام الأسد باستقبال مقاتلي حزب العمال الكردستاني وزعيمهم عبد الله أوجلان وفتح لهم معسكرات تدريب في سوريا، واستمرت هذه الأزمة لعقد من الزمن إلى حين استلام الرئيس سليمان ديميريل السلطة في تركيا فحشد القوات التركية على الحدود السورية (1998) وهدد باجتياح سوريا ما لم تقم بطرد حزب «البي كي كي» وزعيمه أوجلان، وبوساطة من الرئيس المصري حسني مبارك تمت موافقة الأسد (الذي خشي من سقوط نظامه بعد تهديدات تركيا) على طرد أوجلان الذي خرج من سوريا باكيا، واعتقلته أنقرة وأودعته السجن إلى اليوم، وتم إبرام اتفاقية أضنة بين دمشق وأنقرة لترسيم الحدود بين البلدين وبموجبها تخلى الأسد عن المطالبة بلواء اسكندرون. مع وراثة الأسد الصغير السلطة في سوريا بعد رحيل والده لم تتحسن العلاقات كثيرا بين البلدين وكان النظام السوري ينظر دائما بعين الريبة تجاه أنقرة، ولكن مع اندلاع الثورة السورية في العام 2011 ومع تقدم الجيش السوري الحر المنشق عن النظام في تحرير مناطق واسعة من الأراضي السورية تأزم الوضع مع تركيا كثيرا خاصة وأنها اتخذت موقفا معاديا من النظام السوري، بعد استقبالها لحوالي 4 ملايين لاجئ سوري بعد أن سلم النظام المناطق ذات الأغلبية الكردية في الشمال السوري إلى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (تم تأسيسه في العام 2003) برئاسة مسلم صالح بعد انسحابه منها، وسارع الحزب في تشكيل وحدات مسلحة تحت مسمى «وحدات حماية الشعب الكردي» (قوات سوريا الديمقراطية «قسد») وتزامن ذلك مع اجتياح «داعش» (تنظيم الدولة الإسلامية) لأراض واسعة في سوريا التي تمركزت في مدينة الرقة، وبحجة محاربة الإرهاب قامت الولايات المتحدة بدعم «قسد» عسكريا ولوجستيا (بعد أن تخلت عن دعم الجيش السوري الحر). وأقامت قواعد عسكرية أمريكية في المناطق الكردية، وفي قاعدة التنف. مما أثار قلق تركيا وازداد القلق بعد أن قام حزب العمال الكردستاني بإرسال قوات إلى سوريا لدعم «قسد» التي بدأت برفع صور عبد الله أوجلان. بعد المعركة الطويلة مع ميليشيات «داعش» ومقتل زعيمها أبو بكر البغدادي، وهزيمتها تمكنت القوات الكردية بالاستيلاء على مساحة واسعة من الأراضي السورية الواقعة شرق الفرات وسيطرت على منابع الغاز والنفط وأعلنت الاستقلال الذاتي مع النية المبيتة بإعلان الانفصال وإقامة الدولة الكردية (بمباركة إسرائيلية ذات العلاقات الوثيقة معها). مع هذه التطورات السريعة لم تر أنقرة بدا من التدخل العسكري (والتحالف مع كل أطياف المعارضة السورية من الجيش الوطني السوري، وكل الفصائل الجهادية وعلى رأسها هيئة تحرير الشام «النصرة سابقا» لمواجهة خطر تحالف قسد مع البي كي كي كما أسلفنا أعلاه).
بشار الأسد الذي شعر باهتزاز عرشه هرع يستنجد بحليفين سابقين: إيران وروسيا اللذين عملا على تثبيت حكمه بقتال كل قوات المعارضة المدعومة من تركيا فكان الصراع بينهما وبين تركيا صراعا بالوكالة عبر المعارضة السورية المسلحة والتي دامت عدة سنوات شكلت فيها الدول الثلاث روسيا وإيران وتركيا ما سمي «بالدول الضامنة» التي كانت تتداول فيما بينها الأزمة السورية في اجتماعات «أستانا وسوتشي» الخلبية دون تحقيق أية نتائج، وحاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تقريب وجهات النظر بين الأسد وأردوغان بهدف تطبيع العلاقات بينهما لكن محاولاته فشلت أمام تعنت الأسد ورفضه لقاء أردوغان الأمر الذي دفع ببوتين في نهاية الأمر بالتخلي عن الأسد، أما إيران التي ساءت علاقاتها مع الأسد في الفترات الأخيرة قبل سقوطه خاصة بعد تلقي ضربات موجعة من إسرائيل على أماكن تواجد قادتها والشكوك حول دور المخابرات السورية بتسريب المعلومات إلى الجيش الإسرائيلي عن تحركات الإيرانيين قامت بسحب العديد من قادتها وقام حزب الله بسحب قواته المتمركزة في سوريا لمواجهة إسرائيل على الجبهة اللبنانية، كل هذه الأمور أحدثت فراغا حول الأسد، وشعر جيشه بخيبة الأمل، وفهمت مخابراته قبله أن النظام أمامه أيام معدودات بعد سقوط حلب، وهيأت الظروف المناسبة لتركيا لتقوم بعملية بارعة بدفع المعارضة السورية وعلى رأسها هيئة تحرير الشام بالتحرك لتحرير المدن السورية، والوصول إلى دمشق في الثامن من كانون الأول اليوم التاريخي الذي انتصرت فيه المعارضة، وانتصرت تركيا بفرض نفسها كقوة إقليمية كبيرة على حساب روسيا وإيران. وفاجأت العالم بالكيفية التي تم فيها إسقاط نظام عات، مستبد، طائفي، سافك للدماء، مدمر سوريا، وكان العالم العربي، والدولي يهيئ نفسه للتعامل معه كنظام ثابت ومتمكن. لكن كل هذه الحسابات كانت خاطئة فتركيا دخلت سوريا من بابها الواسع بعد أن دخلها سليم الأول في العام 1516 بعد انتصاره على المماليك في معركة مرج دابق، وخرج منها السلطان محمد الخامس مهزوما في العام 1916. فالتاريخ يعيد نفسه بعض الأحيان.

كاتب سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب