ثقافة وفنون

الشعر دولة الأدب العميقة

الشعر دولة الأدب العميقة

حاتم الصكَر

أستعير عنوان مقالتي هذه من جملة ختمَ بها الشاعروالمترجم هاتف جنابي حواراً قصيراً معه، استوقفتني كثافة العبارة واحتشادها بالدلالة، رغم غطاء المجاز الذي غلَّفها، واستخدام مصطلحات متداولة في الخطاب السياسي.. لا بأس، فكثير من المصطلحات تم ترحيلها لحقل آخر بعيدٍ عن ما تمّ سكّها من أجله في الأصل.
أن يكون الشعر متغلغلاً بهذه الطبيعة المؤثرة والمهيمنة، وبتلخيص شاعري، تحفزنا على استذكار ما للشعر من سطوة، تتأفف منها القراءات المنسوبة لما بعد الحداثة وتداعياتها، والبدائل (الثقافية) المقلقة التي تتنكر لأدبية النقد، وتعلن الترفع على جماليات الشعر، وانزعاجها مما تصفه بإزاحة الشعر للبدايات السردية العربية، وتعتيم خطابه على منجزها مثلاً، أو الزعم بالسيطرة على الوجدان الجمعي، وتداوليته التي تُتهم بأنها تحجب الفكر والتعمق في المسائل الفلسفية أو العلوم الإنسانية.
وذلك مردود بالاحتكام إلى الوقائع وتاريخ الأجناس والأنواع في الآداب الإنسانية. فلم تمنع الأشعار التي توظَّف في العبادات والعروض والملاحم من ظهور الفلسفة بأقوى مقولاتها وأشهر مدارسها وأعلامها. حصل ذلك في أثينا وروما كعاصمتين للفكر الإنساني القديم. ولم يخل الخطاب الفلسفي العربي من أمثلة داعمة لرأينا، فقد نشطت الفلسفة والفكر التأملي في وقت ازدهار الكتابة الشعرية العربية، وظهور النثر بأنواعه وفنونه المعروفة. واشتغال الفلاسفة والعلماء كابن سينا والفارابي وسواهما في التصدي للشعر ونظرياته، وترجمة مراجعه الأرسطية والتنظير لجماليات كتابته.
ليست مجازفة كلامية تلك المقولة التي أثبتها ابن خلدون في سياق بيان مكانة الشعر وأثره في الشخصية العربية. إذ قال: «إن العرب جعلوا الشعر ديوان علومهم وأخبارهم.. وأصلاً لعلومهم وحِكَمهم». ولن يقبل العقل أي حجاج بأن العرب لم يكن لهم من العلوم ما يستحق الوصف الخلدوني، لأنها مسألة نسبية. فالعلوم قياساً ومقارنة بالآداب ومنها الشعر، تُعد من خلقِ زمنها، وتنوّع الثقافات التي تنتجها وتتداولها. وهي تفيدنا في مقام الدفاع عن وجود الشعر في دولة الأدب ومفاصلها، وفي عدم اقتصاره على الموضوعات المنحصرة في شعريته ذاتها.
يصف أبو تمام الشعر بأنه (صَوْب العقول) مكرّساً بذلك منهج مدرسته المغايرة للغنائية، والتجريد اللفظي، والمبالغة في البديع، والفقر العاطفي والدلالي التي يمثلها البحتري. والصوْب هو المطر كما أراد أبو تمام أن يصف جريانه كرسالة بين القصيدة وقارئها، وربما ناظمها الذي يستنزل من سحائب العقل المتواترة تلكَ الأمطار بما تعنيه رمزياً في بيئة العرب الصحراوية، من نماء ونضارة وخير، لها في شعره مكانة بارزة. وبهذا المطر الشعري تغتني العقول وتكتمل دورة نموها ونضجها.
وربما استبطن القارئ دلالة أخرى لكلمة (صَوب) بكونها تعني الصواب والجهة المقصودة والهدف، كما تقودنا تقليبات المعاجم للمفردة، رغم القرينة السياقية البينة على أن أبا تمام يرمي باستخدام الصوب إلى استنزال المطر على العقول، مما يحييها وينعشها ويرقق من طباعها، لأنه ذكر السحائب في الشطر الثاني من البيت.
لم يكن بين العلوم العقلية والشعر من خصومة واضحة. ولم يمنع الشعر أي تناول سردي. لكن ضمور النثر والسرد منه بالضرورة، يعود إلى طبيعة أدوات التوصيل حينها. فقد كانت الشفاهية سمةً تطغى على فنون الأدب كلها، والثقافة بشكل عام. وطبيعة الشفاهية كخطاب لا تلائم السرد ولا تتيح تطويره إلا عبر الشعر ذاته.
ولكن العرب لم يعرفوا الملاحم لافتقار ثقافتهم وعلاقاتهم وطرق عيشهم للاستقرار المطلوب لنظم مثل هذه الملاحم التاريخية والحربية. فلقد كان التنقل الدائم والتمركز المديني الضعيف عاملين طاردين للتثبيت السردي والتحيين الزماني المطلوب.
وتُستكمل الشفاهية كأسلوب نظم وتلقٍ في تمركز الشعر لمناسبته وملاءمته للذاكرة، وسهولة حفظه استناداً إلى موسيقاه، وأدوات التثبيت التي تحاول تعويض المكتوب والقراءة بوضع حدود نغمية أبرزها القافية الموحدة وتوالي التفعيلات، لارتباط النغم بصوت الكلمات والتراكيب، مما يسهّل استيعابها واسترجاعها حفظاً.
وليس عبثاً ما قيل من اتهام المتنبي في كتب السرقات بالأخذ عن الحكيم، ويعنون أرسطو. وتمحّلوا في إحالة جوهر الدلالة الحِكَمية عنده إلى أقوال لأرسطو. وأغلب ما اعتبروه سرقة هو في حقيقته نتيجة المماثلة في التفكير الإنساني حيال كبرى القضايا والوقائع؛ كالموت والحب والحرب والصفات الأخلاقية الفردية والجمعية. وقد اتسع لها شعر المتنبي فصارت مصدر تمثّل واستذكار في مواقف مشابهة لظرف صياغتها ونظمها. ولم يخلُ الشعر من أساليب السرد وحضور بعض عناصره؛ كالحوار والمناظرة ووصف الأمكنة وذكر الطبائع، ونسج مواقف خيالية مناسبة حولها.
لم يمنع الشعر التأملَ العقلي. بل كان شعراء الحكمة كما يوصفون إعتماداً على الغرض الشعري المعروف، يراكمون المعرفة لقرون طويلة عبر تلك الحكم المنظومة. وربما نحا النثرُ في صورِه الأولى؛ كالخطب القصيرة والأمثال والحكم النثرية إلى التشبّه بالشعر من جهة، والتكيّف مع الحالة الشفاهية وغياب المكتوب، فاستعانوا بالسجع وتساوي الفقرات والتوازن اللفظي في التراكيب والإيقاع لنظم تلك الخطب والمأثورات. وهنا تظهر امتدادات الشعر وتوسيعاته الممكنة، والتي ستظل ظاهرة ملفتة حتى في الكتابات السردية الأولى، وفي بواكير النثر الفني الحديث كالمقالة، والمحاولات السردية الجنينية روايةً وقصة ومسرحية.
لتلك الأسباب التي سقناها أرى أنه يجدر بنا ألا نُنكر الطبيعة المؤثرة للخطاب الشعري، أو نتناسى مصاحبة الشعر لطفولة التفكير الإنساني، وانتقاله للعناية بما بعد الواقع المرئي، والتبصر بالحاجات الروحية التي تَمثَّلها الشعر بشتى أشكاله، والفن بأنواعه نحتاً ورسوماً جدارية وبمواد بيئية.
وإذا كان كتاب أرسطو وهو المعلم العقلي الأول عن الشعرية وفن الشعر كما شاع عنوانه، فإن في ظل توصلاته وأفكاره ظهرت كتب أخرى تدعم مكانة الشعر ووجوده المنتشر في ما جاوره من فنون قولية أو كتابية.
لنقرأ مثلاً رسالة هوراس الشعرية إلى آل بيزو التي عُرفت بعد نشرها بعنوان «فن الشعر» محيلة إلى تناصها مع أرسطو. لنجد أنه قد تسامى فيها، مبرراً ما يقدم من فوائد حول الشعر لعائلة لها حظوة وثروة، لكنها تطمح للتعرف على القصيدة وشعريتها. فيكتب هوراس رسالته الشعرية تلك في كتاب ضم بأكثر من جزء عدة رسائل نظمها شعراً. وكانت ترجمة الرسالة أ إلى العربية مصدّرة بدراسة مهمة وتحليل دقيق أنجزها لويس عوض ونشرها عام 1947.
يبلغ حب هوراس للشعر مبلغاً عظيماً، فيؤاخي ثقافته الإغريقية بثقافة موطنه الرومانية، ويضع للشعر مكانة كبيرة. فيأسف لانصراف الناس عنه وانشغالهم بالتجارة. ويقول بأسى: «حقاً. في زمن لوّثَ الروحَ فيه صدأُ هذا النحاس، والاشتغالُ بالكسب التافه، هل لَنا أن نأمل في إنتاج قصائد تستحق أن ُطلى بالزيت، وأن تُحفظ في أحقاق من السرو الصقيل؟».
وللشعر غايات نبيلة وعملية: يلخصها هوراس بالقول: «غاية الشعر إما الإفادة أو الإمتاع، أو إثارة اللذة وشرح عِبَر الحياة في آن واحد». وهو بذلك يلامس مشكلات وظيفة الشعر واختلاف مذاهب كتابته وقراءته. وتلك من مزايا الشعر التي تفرد بها. فيما سيحاول النثر أن يستلهمها ليستفيض في بسطها بما تتيحه طبيعة النثر ذاته من سعة وترسُّل. ولكن من دون الاستغناء عن إيقاع خفي أو ظاهر، هو في جوهره انعكاس لظلال الشعر المتخفية وراء العبارة، وأيضاً وراء صُنع الدلالة. تلك التوافقات والتقاطعات في الطبائع والشخصيات سرداً وتمثيلاً هي في حقيقتها امتدادات وتوسعات شعرية، تلامس الموسيقى الخفية للفكرة ومظاهرها المنشودة من كتابتها.
يجري الحديث دوماً عن إيقاع في الفنون البصرية كالرسم والسينما، ويتقصى نقاد السرد ما يوشح به الروائيون والقاصون سرودهم من تكرار أو تنويع في تقسيم النصوص إلى فصول، بل في اللحاق بالشعر شكلياً، فإن ظهرت القصيدة القصيرة وتكثفت حتى غدت أسطراً شعرية قليلة، سنعثر على الرواية القصيرة (النوفيلا) والقصة القصيرة جداً أو الأقصوصة. فضلاً عن الوسائل البنائية التي تستعين بالتكرار لخلق الإيقاع، والانتقالات الحدثية وتوالي الوقائع.
يكرر نجيب محفوظ في رائعته الكونية «أولاد حارتنا» عبارة (ولكن آفة حارتنا النسيان) يختم بها الفصول أو يمهد للانتقال إلى تفاصيل أخرى، متابعة لفصول الخليقة في عذابات نشأتها. فيظل لها رنين وصدى في ذاكرة القراءة، رغم انغماسها في عديد الصفحات التي تكونت منها الرواية. إنها بروز وتمظهر شعري لا يقل أثراً عن العبارة في قصيدة. فللشعر وجوده وظلاله. ولا خوف عليه إلا مما حذر منه هوراس قبل قرون، من أن يمتد له صدأ النحاس فيلوث روحه، ويخنق نبض كلماته المرصوفة في أبنية الخيال ومجاهل الدلالات وغموضها الشفيف.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب