فنان الحروفيات المغربي مصطفى أجماع يقتفي تجليات الأثر
فنان الحروفيات المغربي مصطفى أجماع يقتفي تجليات الأثر
عبد العزيز بنعبو
الرباط ـ «القدس العربي»: مصطفى أجماع اسم يعرفه الشعراء أكثر، لأن معظمهم رافقت لوحاته قصائدهم المنشورة في الملاحق الثقافية للجرائد اليومية المغربية. كتّاب القصة القصيرة بدورهم كان لهم نصيب من بهاء إطلالة لوحات الفنان، وكان الحرف أسمى تعبير في النص واللوحة.
مسيرته الفنية المعطاءة عبارة عن محطات أساسية: «حروفيات ومقامات»، «عين وأثر»، «في حضرة السواد»، «تجليات أثر». وهو اليوم يجلس فوق ربوة يستحضر خطواته السابقة، ويقول لمتأمل لوحاته إن «الصمت لا يلغي الاعتبار لشرعية الأثر الشاهد بالحضور، والمجادل بالطموح»، لأن «صمتَ الأثر خفقان لممارسة الكلام وتوق للإشارات المتعددة والمتنوعة، وتجلٍّ لاستنهاض السؤال في شفافية قلقِ المعنى، وحذاقة لاستثمار الرؤى، وغوص في دهاليز ترتيب مكنونات الابداع، بغاية صناعة خط الحكي والتّواصل».
ذلك بوح قريب إلى الصوفية منه إلى فلسفة الإبداع، فالرجل متعبد في صومعة الحرف، يؤدي طقوسه اليومية من خلال اللوحات، غايته لوحة مكتملة تبلغ عمق المتلقي، وكل ذلك وهو زاهد في متاع الشهرة وبهرجة الأضواء.
جسور مع المتلقي
واختتم الفنان التشكيلي مصطفى أجماع سنة 2024 بمعرض جديد للوحاته الفنية الشهيرة بـ«الحروفيات» في مدينة خنيفرة في «الأطلس المتوسط» (وسط البلاد) ضمن فعاليات المهرجان الدولي للقصة القصيرة الذي نظمته «جمعية أنصار للثقافة»، وكان «محطة وتجربة أخرى سبقتها أخواتها من محطات بنكهات متنوعة ومغايرة في الشكل والمضمون والمحتوى»، يقول الفنان، ويستطرد «غير أن القاسم المشترك يبقى هو خلق جسر التواصل، بغرض الانفتاح على المرتادين من أهل الإبداع والمتلقين والنقاد والقراء، بغرض الانفتاح على الجانب البصري».
واختار لمعرضه عنوان «تجليات أثر»، مخاطبا المتلقي في كلمة نشرت في «كاتالوغ» المعرض، بقوله «دع عينك تشارك القراءة، فلغة العيون أبلغ»، لأن «ثمة إشارات تعلن أن الأشياء الجميلة الصامتة، ناطقة، وغالبا ما تفضي إلى مدارج تنافس الأسبقية بنفسها الدائم الملحاح». الفنان الذي يسافر بلوحاته لتحقيق التواصل مع متلقيه في كل مكان في المغرب وذلك دأبه، معروف بحروفياته التي تتخذ من الحرف العربي مرجعية لرسومات تعبيرية تشكل مصدرا لإلهامه الفني الذي اشتهر به طيلة عقود من العطاء.
ويشير أجماع، في حوار مع «القدس العربي»، إلى «أن أهم ما يميز هذه الوقفة، هي كونها استمرارية لتجارب سابقة، لكنها ذات خصوصية في مبناها وفي انفتاحها على المتلقي، بالمجاورة وخلق أفق السؤال وعن تجربة الأثر وتجلياته، ودعوة خاصة لإشراك المتلقي في فعل القراءة بلغة بصرية تختلف وتتوزع بشكل مغاير بين الأشخاص، لان لغة العيون تكون أبلغ».
صاحب بصمة الحروفيات في المشهد الثقافي والفني المغربي، تمكن من تحقيق التفرد بأسلوب خاص ظلّ وفيا له طيلة عقود، وعن ذلك يقول أجماع «إذا كنا نذهب إلى ما حدده الفرنسي بوفون بأن الرجل هو الأسلوب، فلا بأس أن ننعت كذلك مرتادي الأنواع الأخرى من مجالات الإبداع، من خلال ما ينتج على مستوى الفكر، والصفة هذه تأخذ إشارتها من خلال تراكم التجارب، ومن خلال الأسلوب الغني والبسيط والجاد في نفس الآن. والبساطة لا يقصد بها الإسفاف بل الإيضاح والتجديد والإيجاز والفصاحة، مع عدم إشعار المتلقي بإحساس الزيف أو الملل. فالأسلوب يروم ارتياد المستقبل بتجارب راصدة من أجل خلق أثر وتعزيز تأثير في انسياب وجاذبية».
أما عن الهدف والغاية من هذه التجربة، فيؤكد الفنان أن ما يميزها بالأساس، أنها «دعوة قائمة ودائمة الحضور، وبحث مستمر للتواصل مع قناعات ذاتية، ثم بعد ذلك أشاركها مع الآخر»، ويوضح أجماع بقوله «إن كانت التجربة تستثمر خطابا بصريا قائما على مفردات هي الأقرب إلى نفسية المتلقي العربي بمرجعياتها ونظرتها ومسارات تطريزاتها التي تغوص في معطى جمالي وفكري وتأملي، فلا غرو أن نقف على ما يحفل به تاريخ التجارب العربية الكثيرة والمتنوعة»، معتبرا أنها «المرجع والأساس، بأرضياتها وضوابطها التي خلت لقرون. ومن تراكمات انطلقت في البداية مع الخط العربي بتوهجاته ومسارته».
ويعود الفنان إلى الأسلوب ليؤكد أنه «لا يمنع البحث في صيرورته ليعد مكتسبا»، ويضيف موضحا «لأن جمال الأسلوب يكمن في واقع الأمر في العدد اللامتناهي من العناصر التي يقدّمها كي يستأثر الجدة في العمل الذي يحمل ميزة وبصمة المبدع».
جماعة «البعد الواحد»
العودة إلى أصل تجربة الفنان أجماع يحيل مباشرة إلى انطلاقتها مع جماعة «البعد الواحد» في بغداد والتي سرعان ما انتشرت لتشتعل شرارتها بالوطن العربي. لذلك سألناه عن التجارب المغربية في هذا المجال، وكيف يلامس مسيرتها، لكنه يضع الأساس أولا لهذا الجواب بقوله إن «الحرف العربي ينهض على مبدأ بعد واحد، والغاية أن الوجود يثبت بالرجوع من الحجم إلى أصله الشكلي، ثم ينصهر من الشكل إلى أصله الخطي، وبعد ذلك إلى طبيعته الروحية»، بمعنى «أنه غير تصويري، يعبر عن نفسه بالحرف وفي الفن يسعى بمفرداته التشكيليّة والدلاليّة والرمزية المتفردة، رافضا العناق الفج مصاحبا مسيرته بخبراتها وتجارب لا غنى عنها في التطوير والرصد وضمان مغايرة ذات قوام ناجح».
واستعرض أجماع مسيرة استلهام الحرف العربي والفنون التشكيلية، منذ ولادة ما يسمى بالحروفية، من خلال نماذج مثل مديحة عمر وجميل حمودي من العراق، منذ نهاية الأربعينيات، إلا أن شاكر حسن آل سعيد وضع ضوابطها كحركة فنية، ونظَّر لها، وَعُدَّ زعيمها الذي علمها أتباعه، منذ 1971 فغدت مرجعا لجماعة البعد الواحد.
ويصل الفنان إلى ملامسة التجربة المغربية في الحروفية، مرجعا انطلاقتها «بسند أنها كانت تنبني أو ترتبط بطقوس خاصة لفترات معينة، ويمكن اعتبار تجربة القندوسي (هذا الصوفي المبدع)، بدورها ساهمت أيضا في خلق جمالية متفردة من خلال الخط المغربي، بتأثير إيحائي مكثف»، لهذه «الأعمال التي اختلفت من حيث صياغتها وطريقة تناولها للفضاء والأسلوب المتميز».
ويتابع توضيحاته حول التجربة المغربية، بالحديث عن الفترة الحديثة، حيث «اتخذت الحروفية مسلكا مغايرا، ونهجا أسلوبيا تشكيليا، انصهرت داخل تجارب الفن التشكيلي فأسست أبعادا جمالية راقية، فلاحت في الساحة الفنية مجموعة من الأسماء التي انخرطت في تأثيث الحقل الجمالي الحروفي بالمغرب».
مصطفى أجماع، الوفي منذ أواسط الثمانينيات من القرن الماضي لحروفياته، يؤكد أن «الوفاء شكل من التقدير والاحترام، وإن شُدِّدَ عُدَّ تقديسا»، كما أن «الحرف العربي له فرادته ومميزاته الخاصة وتنوعه العذب بين الجهر والهمس والشدة والاستعلاء والانفتاح»، وحسب المتحدث، فإن «ما يميز هذا الاختلاف يعطيه فرادة في قراءة جمالية وفي الاختلاف الباهر بين الجيم والحاء والخاء أو بين السين والشين»، لأن «هذه الجمالية هي التي يمنحها صرير القلم، وأنت ترهف سمعك لمحاورته في اجتماع عذب ممتع بين الفضاء والقلم واللون، تلك غاية وهدف نبيل»، يؤكد الفنان.
التجربة المغربية في الحروفيات مثيرة للاهتمام، وعن المكان الذي تقف فيه حاليا يقول أجماع إنها «كنظيرتها بالوطن العربي أسماء وتجارب، بحث وانصهار وآفاق»، لكنه يستطرد بالتأكيد على «أن ما يميزها في المغرب هو أفق العناية والاهتمام بهذا النوع من طرف المسؤولين، مع إدراجها بالمجاورة لفن الخط المغربي، وكذا فن الزخرفة على الورق، وقد جرى إحداث جائزة وطنية سنوية لمكافأة الفنانين الحروفيين، تسمى (جائزة محمد السادس لفن الحروفية) منذ 2017 كدليل قاطع على أن هذا الفن وجد له موطئ قدم في الساحة التشكيلية. الأمر الذي جعل الاهتمام والرعاية تمنح للتشكيليين الحروفيين المغاربة مجالا ومساحة للتعبير واستلهام الحرف العربي في التشكيل المعاصر».
مجاورة الشعر
الحديث عن أجماع وتجربته الحروفية هو حديث عن الشعر والشعراء الذين كانوا سعداء بمرافقة لوحاته لنصوصهم الإبداعية، لكن الفنان أيضا مزج بين نصوصه الشعرية وحروفياته، مما يطرح سؤال هل هناك تزاوج برؤية جمالية أم هو امتداد لتجربة القصيدة الكاليغرافية؟
وحسب أجماع، فإن «الصدفة قد تكون جميلة جدا»، خاصة عندما «تفتح عينيك ببعد بصيرة جمالية، تدرك جيدا أن بجوارك شاعر خلوق كان اسمه قيد حياته محمد الطوبي يشاطرك نفس المدينة، وهو يغازل قصائدها ويهدهدها عشقا واعتزازا ويطرزها بخطه الجميل، ويغدق عليها كثيرا من الخصوصية، وكأنه يدلل الطريق للغة ببنياتها الخطية. كان الحوار والجوار، باعتبار أن الكتابة تمتلك منطقا داخليا ونسقا دلاليا فياضا».
مسيرة مصطفى أجماع تمتد لعقود كلها إبداع، أقام خلالها معارض عديدة فردية وجماعية، ذات مرجعية تعيد إلينا زمان الوصل بالأصالة، نكاية في زحف التكنولوجيا، ومن المؤكد حسب الفنان نفسه «أن عالم الفن الرائع الجميل الجذاب الساحر لا يرتاده إلا ثلاثة، مبدع فنان لا يتوقف عن البحث ولا يكل، منتج باستمرار، وعاشق ذواق يملك ذائقة فنية فيلاحق الفنان، ويتابع إبداعه، ومتلقٍّ يعتبر جسرا في هدم الهوة الفاصلة بين الفنان والمتلقي العاشق».
ويرفض المتحدث تقييم تجربته، لأنه كما يقول «لا يحق لي أن أكون جريئا لتقييم كل ما أنجزته، وغايتي في ذلك إقامة رحلة طويلة بمحطات متعددة تختلف في النوع والهواء والناس والقراء الذين يملكون عدة القراءة».
ويجيب مصطفى أجماع عن سؤال تجربته، مبرزا أن «لكل رحلة لا بد لها من زاد، ومعنى السفر، هو الانتقال من مكان إلى وجهة أخرى بارتياد هدف معين، ولكل سفر تجربة خاصة، قد تتشابه، لكن يستحيل أن يقع حافرها على حافر، وإلا أصبحت مستنسخة بأدواتها وأسرار ترتيباتها».
وبامتنان يقول المتحدث، «منذ البدء حاولت أن أكون حاضرا قريبا من خلال المنابر الإعلامية المغربية والعربية من خلال ملاحقها الثقافية أو مجلاتها، إلى درجة أن بعضها مشكورا طاب لي عندهم المقام، فاستمر وطال، مثل مجلة كتابات البيروتية للشاعر الجميل الياس لحود شافاه الله، وذلك منذ 1992 الى آخر عدد 2019، والناقد والقدس العربي والكاتبة… وغيرها».
ويختم الفنان الحروفي بخلاصة الرحلة «لعل في كل محطة هناك حرقة لأسئلة، بمعنى لماذا هذه السفرية وما الغاية منها، وما هو المغاير الذي يوثق الاستمرارية بروح تسلق المعمار بانفتاح على آفق آخر؟».