في ضرورة تصميم خطة عربية متكاملة لإعمار غزة

في ضرورة تصميم خطة عربية متكاملة لإعمار غزة
إبراهيم نوار
زحف العودة إلى الشمال من الجنوب عبر الأرض المدمرة والمحروقة في غزة خلق حقيقة سياسية جديدة على الأرض الفلسطينية تعيد تأكيد علو الإرادة على ما عداها من كل عناصر القوة. إرادة الصمود عبرت عن نفسها في الحرب، وإرادة العودة تعبر عن نفسها الآن في هذا الزحف الذي لن يتوقف حتى يعود كل الفلسطينيين لأرضهم، ويتجسد الرباط المقدس بين الشعب والأرض. هذه الحقيقة السياسية الجديدة التي هندستها المقاومة وعفوية الحنين إلى الأرض، تقف حاجزا مانعا صلدا ضد كل دعوات التهجير القسري أو الإغوائي، مهما كانت قوة مصادر هذه الدعوات. وعلى التوازي مع هذه الحقيقة، فإن الحكومات العربية التي غابت عن الحرب لا يمكنها أن تستمر في غيبوبة متعمدة أو غير مقصودة إزاء التيار الجديد الذي يفرض على الفلسطينيين الانتقال من مرحلة المقاومة إلى مرحلة البناء، من دون أي فصل ميكانيكي بين المرحلتين. وقد أصبح الفلسطينيون فعلا في حاجة أشد إلى المساعدة الخارجية للنهوض بأعباء الإعمار. هم في حاجة إلى دعم إقليمي ودولي ضد سياسة التهجير وتفريغ الضفة وغزة والقدس الشرقية من أهلها الفلسطينيين، ومن أجل إعمار قطاع غزة الذي دمرته الحرب تماما، ومن أجل تمكين الفلسطينيين من الاستمرار في الصمود على أرضهم، ومن أجل التمويل الذي لا يقدرون عليه.
بعد عودة أكثر من 400 ألف فلسطيني إلى مواطنهم الأصلية في شمال غزة أصبحت هناك ضرورة ملحة لتصميم خطة عربية متكاملة لإعمار «غزة العزة» بما يليق ببطولة وصمود شعب في صورة لم يشهد لها العالم مثيلا منذ الحرب العالمية الثانية. بل إن صمود غزة يزيد عن كل معاناة البشرية خلال الحرب الثانية بأنه قاتل وحده، وضحى وحده، واستمر على عهد الوفاء للوطن مهما كان الثمن غاليا. وفي حين أن الحرب العالمية شهدت وقوف العالم كله تقريبا ضد النازي وحلفائه، فإن حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني شهدت وقوف معظم الدول التي كانت ضحية الحرب النازية مع النازيين الجدد في إسرائيل، في حين وقفت الشعوب بلا تردد في صف الفلسطينيين ضد حرب الإبادة. غزة بعد الحرب يجب أن تحصل على ما يليق بها، تكريما لشعبها وأرضها. صحيح أن الهدنة الحالية ستظل هشة حتى تتضح شروط إنهاء القتال تماما، وإقامة سلام على أساس التعايش الآمن المتبادل، لكن من عادوا إلى شمال غزة (حوالي 376 ألفا حتى 28 كانون الثاني/يناير حسب تقدير الأمم المتحدة) يواجهون الآن حقيقة الدمار الكامل للبنية الأساسية التي لا يمكن الحياة من دونها مثل المياه والصرف الصحي والكهرباء والرعاية الصحية ومؤسسات الرعاية الإنسانية. خطة إعمار غزة كان يجب أن يصبح الجزء العاجل منها موضع التنفيذ قبل «طوفان العودة» مع أخذ كافة المتغيرات الأخرى في الاعتبار بما في ذلك احتمال تعثر اتفاق وقف إطلاق النار أو انهياره. ومن ثم فإن تصميم خطة متكاملة للإعمار من الضروري أن تتضمن تكاملا بين الاحتياجات الضرورية العاجلة والتصميم النهائي طويل الأجل للحياة الجديدة في غزة. ومن المؤسف أن نقول إنه لا توجد خطة عربية – إقليمية لإعمار غزة، وإنما توجد بعض المبادرات الرسمية في جوانب المساعدات الإنسانية. وفي المقابل توجد تقديرات للوضع الحالي والاحتياجات قدمتها الأمم المتحدة، ويتم تحديثها يوميا تقريبا بواسطة خبراء مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية. كما توجد خطة إسرائيلية واضحة، تضع إعمار غزة داخل دائرة الاندماج الإقليمي مع الدول المجاورة. كما أن هناك اجتهادات جزئية بواسطة منظمات دولية مستقلة مثل الصليب الأحمر، لا ترقى إلى مصاف برنامج الإعمار المتكامل. ونظرا لأن الدول العربية غابت عن الحضور في الحرب، إلا جزئيا (دبلوماسيا وإنسانيا)، فإنها من الضروري ألا تُكرر هذا الغياب في عملية الإعمار، وألا يقتصر دورها في الإعمار على مجرد المشاركة في تقديم التمويل أو انتهاز فرصة الإعمار للفوز بصفقات المقاولات والتوريدات. الدول العربية يجب أن تكون على رأس ومركز عملية الإعمار، وهو ما لا يمكن أن يتحقق من دون رؤية وخطة متكاملة تجسد الارتباط العضوي بين غزة ومحيطها العربي، خصوصا مع مصر والسعودية والأردن وسوريا والإمارات.
تحديات أولية تواجه الإعمار
ليس من السابق لأوانه أن تكون هناك خطة واضحة ودقيقة لإعمار غزة. ولكن من السابق لأوانه الاعتقاد بأن الإعمار قد يبدأ غدا؛ فما تزال هناك عقبات وتحديات كثيرة، يمكن أن تجهض تحويل خطط الإعمار إلى برامج تنفيذية وأعمال فعلية على الأرض. وباستثناء الاحتياجات العاجلة الضرورية لتمكين الفلسطينيين في غزة من الحياة بطريقة آدمية، مثل توفير الإيواء المؤقت، وإمدادات الماء والكهرباء والصرف الصحي والخدمات الصحية والتعليمية التي يجب تحقيقها فورا ضمن خطط طارئة، فإن إعمار غزة يجب أن يكون وفقا لخطة طويلة الأمد، تجعل مدن غزة وشواطئها وقراها، مكانا يليق بصمود الشعب الفلسطيني. غزة المستقبل لا يجب أن تعيد استنساخ برامج إعادة البناء السابقة التي ترتيب على وقف إطلاق النار في الحروب السابقة مثل حرب 2014 أو 2021. إعمار غزة هذه المرة يجب أن يكون حرا من الحصار الإسرائيلي، وحرا من الانقسام السياسي الفلسطيني، وحرا من الرؤى الضيقة الأفق التي ترى مستقبل الفلسطيني داخل حدود احتياجات حد الكفاف اللازم للمحافظة على البقاء، من مسكن ومأكل ومشرب وكهرباء ووقود ودواء وكساء. إن احتياجات حد الكفاف قد تركت بصمتها على أحلام الفلسطينيين الذين عاشوا حياة المخيمات منذ نكبة عام 1948 حتى تمكنوا أخيرا من كسر طوق تلك الأحلام، ما يفسح الطريق لكي يصبح الشعب الفلسطيني في مكان ريادي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بين شعوب البلدان العربية، وأن ينتقل من عصر «تلقي المعونات» إلى عصر «المشاركة في صنع المستقبل». وتمثل غزة في سياق الحلم الجديد مركزا ومرتكزا جوهريا، استنادا إلى تاريخها السياسي والاقتصادي في المنطقة، كمركز للتجارة بين اليمن جنوبا وبلاد الشام شمالا، وبين بلاد السند والهند والعراق شرقا ومصر وبلاد المغرب العربي غربا. غزة يجب أن تعود كما كانت، طريقا للنصر على الأعداء، ومركزا للتجارة من أجل الرخاء. ويجب أن يبدأ إعمار غزة من تعزيز وجود أهلها وتوفير سبل الحياة الكريمة لهم أولا وقبل كل شيء.
شروط جوهرية مسبقة
السياق السياسي والاقتصادي والعسكري الذي يضمن انتقال الفلسطينيين من «مرحلة المقاومة» إلى «مرحلة الإعمار» يتضمن عددا من الشروط الجوهرية المسبقة، لا يمكن القفز عليها إلى ما ورائها أو تجاهلها. هذه الشروط تتمثل في وقف الحصار الإسرائيلي، وإنهاء الحرب تماما، وقيام سلطة مسؤولة مستقلة تدير قطاع غزة، وإقامة دولة فلسطينية مستقلة تعيش في أمان وسلام بين دول المنطقة. وما نراه حتى الآن، رغم اتفاق تبادل الأسرى الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية والمحتجزين الاسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية لا يوفر إلا الخطوة الأولى على الطريق، وليس الخطوة الأخيرة. ما بين الخطوتين، الأولى والأخيرة، طريق طويل، تسعى إسرائيل إلى تخريبه وقطعه بمساعدة الولايات المتحدة وقوى التطرف الديني الصهيوني في إسرائيل وكل أنحاء العالم. ونستطيع أن نقول بقدر كبير من الثقة أن احتياجات تمويل الإعمار في غزة التي تقدر بعشرات المليارات من الدولار الأمريكي، لن تتحقق حتى يكون هناك اتفاق واضح ومضمون دوليا بإنهاء الحرب، ليس في غزة فقط، ولكن في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية أيضا. هذا لن يؤثر على تمويل الاحتياجات الإنسانية والمساعدات العاجلة، لكننا يجب أن نميز بين تمويل المساعدات الإنسانية وتمويل الإعمار. ولا أعتقد أن الاتحاد الأوروبي على سبيل المثال سيكرر أخطاء تمويل مشروعات تقوم إسرائيل بقصفها وتدميرها فيما بعد. كما أن دولا مثل اليابان والصين وكوريا الجنوبية لن تشارك في أعمال إعمار في غزة، ما لم تستند خطة الإعمار على دعائم سياسية واضحة.
ويرى بعض الأطراف أن الكرة حاليا هي في الملعب العربي، حيث أن رؤية إسرائيل واضحة فيما يتعلق باستمرار الحصار، وعدم الانسحاب العسكري التام إلا بعد إبعاد المقاومة الفلسطينية تماما، وإقامة سلطة انتقالية خالية من حماس ومن السلطة الوطنية الفلسطينية، وإبعاد منظمة غوث اللاجئين تماما عن غزة، والتمسك برفض فكرة إقامة دولة فلسطينية نهائيا. كذلك فإن الولايات المتحدة تريد سلطة انتقالية في غزة مدعومة من الدول العربية، وتشارك إسرائيل استراتيجيتها تجاه غزة، إلا في حال ظهور تعارض في المصالح بين الدولتين. وتضع كل من الولايات المتحدة وإسرائيل خطة إعمار غزة في سياق سياسي يتضمن إقامة تحالف عربي – إسرائيلي – أمريكي ضد إيران، وتطبيع للعلاقات بين إسرائيل والسعودية. وتشترك الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة ترامب مع نتنياهو في رفض أي ضغوط دولية على إسرائيل بشأن إقامة دولة فلسطينية، ومساندة خطة للإعمار في غزة تجعلها جزءا من صفقة القرن التي كان قد أعلنها ترامب خلال فترة رئاسته الأولى. لكن ترامب يروج لخطة إعمار أرض غزة من دون وجود الفلسطينيين، باعتبارها، من وجهة نظر سمسار العقارات، منطقة استثمارية من الفئة الممتازة، تصلح لأن تكون ريفييرا جديدة على البحر المتوسط يستمتع ببحرها وشمسها وهوائها أثرياء العالم من كل مكان. إعمار غزة، كما جاء في خطة ترامب «صفقة القرن» وفي خطة نتنياهو «إعادة بناء غزة» هو مشروع لخدمة إسرائيل والصهيونية العالمية ودمج إسرائيل مع الدول العربية، يضمن بقاء الجيش الإسرائيلي في موقع التحكم في القطاع حتى عام 2035 على الأقل حتى تتفق كل الأطراف على شكل الحكم الجديد هناك. وهناك انتقادات في الصحف الإسرائيلية، المعارضة لرحيل الفلسطينيين من غزة، للموقف العربي فيما يتعلق بتقديم مساعدات حقيقية إلى الفلسطينيين والاكتفاء بالكلام المعسول الخالي من تقديم أي مساعدات حقيقية لإقامة مستقبل جديد في غزة.
تقديرات الأمم المتحدة
يسيطر على المشهد العام الحالي في غزة انتشار جبال من الركام وأنقاض المباني ومخالفات دمار البنية الأساسية من نتائج حرب الإبادة ضد الأرض وما عليها التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة. وقبل أن يتسنى إعادة بناء أي شيء، لابد من إزالة الأنقاض ــ وهي مهمة صعبة جدا في حد ذاتها. وتقدر الأمم المتحدة أن الحرب تسببت في وجود أكثر من 50 مليون طن من الأنقاض ــ أي ما يقرب من 12 ضعف حجم الهرم الأكبر في الجيزة. ومع وجود أكثر من 100 شاحنة تعمل بدوام كامل، فإن الأمر سيستغرق أكثر من 15 عاماً لإزالة الأنقاض فقط، ويتكلف أكثر من 1.2 مليار دولار بأسعار اليوم. وبالنسبة لمواقع الإيواء المؤقت فإن هناك مساحة مفتوحة ضئيلة في المنطقة الساحلية الضيقة يسكنها نحو 2.3 مليون فلسطيني في ظروف إنسانية شديدة السوء. وينص اتفاق وقف إطلاق النار على البدء في مشروع إعادة إعمار يستغرق ما بين ثلاث إلى خمس سنوات في مرحلته النهائية، بعد إطلاق سراح جميع المحتجزين الإسرائيليين المتبقين وانسحاب القوات الإسرائيلية من القطاع تماما. وبالنسبة للمباني والمنشآت تقدر الأمم المتحدة أن نحو 70 في المئة من مباني قطاع غزة تعرضت للضرر أو الدمار التام منذ تشرين الأول/اكتوبر 2023، مع وقوع أسوأ عمليات الدمار في الشمال، حيث تعرضت جباليا، التي كان يسكنها قبل الحرب نحو 200 ألف نسمة، نصفهم تقريبا يعيشون في أحد أقدم وأكبر مخيمات اللاجئين في غزة، للدمار الكامل. وفي حال استمر حصار إسرائيل لقطاع غزة برا وبحرا وجوا، فإن إعادة الإعمار قد تستغرق أكثر من 350 عاما حسب تقدير المنظمة الدولية!
وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن إعادة إعمار غزة، التي تحتل مساحة تعادل مساحة فيلادلفيا على ساحل البحر الأبيض المتوسط بين إسرائيل ومصر، سوف تتطلب ما يتراوح بين 50 إلى 80 مليار دولار. بينما تشير أكثر التقديرات تفاؤلا إلى أن الأمر قد يستغرق عقداً من الزمان، حتى عام 2035 على الأقل. أن إعادة بناء المنازل المحطمة في غزة فقط قد يستغرق ما يصل إلى 15 عاما (حتى عام 2040) ولكنها قد تستمر لعقود عديدة، وفقا لتقرير الأمم المتحدة الصادر العام الماضي. المهمة الأخرى التي تسبق إعادة بناء المساكن تتمثل في استعادة عمل البنية الأساسية. إن أنظمة المياه والصرف الصحي والكهرباء كلها حيوية، وأكثر من ثلاثة أرباعها لا تعمل. وكانت غزة تعتمد بشكل كبير على محطات تحلية المياه لتوفير المياه قبل الحرب، ولكن العديد منها دمرته إسرائيل. وفي الوقت نفسه، انهارت البنية الأساسية للكهرباء تقريبا منذ بداية الحرب، وفقا للأمم المتحدة. وسوف يكون استعادة هذه الخدمات أمرا صعبا. وتقدر المنظمة الدولية إن هناك حاجة شديدة للبدء في إقامة مرافق إيواء مؤقت لاستيعاب أكثر من 1.8 مليون شخص من أهالي غزة يعيشون بلا مأوى. وقد بدأت قطر بالفعل في تقديم آلاف الخيام ووحدات المرافق الأساسية المتنقلة الملحقة بها لاستيعاب الآلاف من الفلسطينيين العائدين من الجنوب إلى الشمال. لكن جامعة الدول العربية ممثلة في المجلس الاقتصادي والاجتماعي ومجلس الوحدة الاقتصادية العربية، إضافة إلى الحكومات، ومراكز الفكر والدراسات تتجاهل تماما تأثير الحقيقة السياسية الجديدة التي خلقها زحف العودة، كما انها في غيبوبة تامة فيما يتعلق بأهمية تصميم خطة عربية للإعمار في غزة.