مقالات

على باب التهجير الفلسطيني

على باب التهجير الفلسطيني

عبد الحليم قنديل

نخشى أن خطة تهجير الفلسطينيين من غزة دخلت حيز التنفيذ، أو كادت، ولم تعد القصة في ثرثرات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وهمجياته، ولا في إصراره العبثي على وصف الخطة الأمريكية الإسرائيلية صباح مساء بالجميلة والرائعة، وافتعاله العجيب لدوافع إنسانية مزعومة، وراء جرائم السرقة والتهجير والاقتلاع والتطهير العرقي، ثم صارت العناوين أكثر وضوحا وقطعية، ففي رأيه، لن يعود فلسطيني واحد مطرود إلى ما يسميه ريفيرا الشرق الأوسط، وستكون غزة ملكية خالصة لأمريكا، تنتقل إليها من الجيش الإسرائيلي مباشرة.
وقد جرى تجهيز جيش الاحتلال بذخيرة دمار إضافية قيمتها ثمانية مليارات دولار، فوق 22 مليار دولار سبقت، بينها شحنة قنابل ضخمة، تزن الواحدة منها ألفي رطل، سبق أن استخدمها جيش الاحتلال في حرب الإبادة عبر نحو 16 شهرا قبل وقف إطلاق النار الأخير، وحجب الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن بعضها، للإيحاء ببراءة ذمة واشنطن من دمارها المفزع، ثم جاء ترامب ليفتح المخازن على اتساعها من جديد، وليعاود تهديده بإشعال الجحيم في غزة، بعد قرار حماس وقف تسليم الأسرى الإسرائيليين، ردا على انتهاك إسرائيل لاتفاق المرحلة الأولى، ومنعها دخول تسعة أعشار خيام الإيواء المتفق عليها، وعدم السماح بدخول 68 ألفا من المنازل المتنقلة (الكرافانات) والمعدات الثقيلة المطلوبة لإزالة الركام من الشوارع المغلقة، إضافة لحجب الأدوية وخفض عدد شاحنات الوقود المتفق عليها يوميا إلى أدنى حد.

السلام البارد تحول إلى توتر ساخن، يلهب مشاعر الشعب المصري، الأكثر عداء بإطلاق بين الشعوب العربية لكيان الاحتلال الإسرائيلي والسياسة الأمريكية، فوجود إسرائيل في ذاته خطر على الوجود المصري

وحتى وقت نشر هذه السطور، قد تكون جرت تسوية ما عبر الوسطاء المصريين والقطريين والأمريكيين، واستئناف السير في خطوات تنفيذ بقية المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار، أو قد تتعثر المساعي، خصوصا مع إنذار ترامب لحركة حماس، ودعوته لها ـ بصيغة الأمر ـ إلى تسليم كل الأسرى والمحتجزين الإسرائيليين دفعة واحدة، وهو ما يعد خرقا فظا لاتفاق المراحل الثلاث، الذي تفاخر ترامب بدوره عبر مبعوثه ستيف ويتكوف في التوصل إليه، لكن المأزق يبقى على حاله، حتى إن جرت تسوية مؤقتة، فرئيس وزراء العدو بنيامين نتنياهو، عاد من واشنطن بدفعة تشجيع هائلة لاستئناف الحرب، ويبدو مصمما على إفشال مفاوضات الانتقال المؤجلة إلى المرحلة الثانية من الاتفاق المتعثر أصلا، حتى في مرحلته الأولى، ويريد فتح الاتفاق لفرض شروط لم ترد في نصوصه الموقع عليها، من نوع إرغام حماس على تفكيك جناحها العسكري، وترحيل قادة حماس العسكريين إلى خارج غزة، وإصداره الأوامر لجيش الاحتلال بالاستعداد لاقتحام غزة مجددا، إضافة لخرق وقف النار مرات من محور فيلادلفيا، رغم الجلاء الإسرائيلي عن محور نتساريم، وكلها أجواء تنذر بالعودة إلى حرب الإبادة الشاملة في غزة، وبالتوازي مع مثيلتها الجارية في الضفة الغربية، وتفريغ مخيماتها من السكان، على طريقة ما جرى ويجري في مخيم جنين وفي مخيمي نورشمس والفارعة في مدينتي طولكرم وطوباس، وفي كل المناطق الملتهبة بدءا بمدن وقرى ومخيمات شمال الضفة، وهو ما يعني بوضوح، أن حرب التهجير الكبرى صارت وشيكة، إن لم تكن بدأت بالفعل، بينما الأطراف العربية التي رفضت التهجير، وعدته عن حق اختراقا لمبادئ القانون الدولي، وشروعا في التصفية النهائية للقضية الفلسطينية بتصفية وجود شعبها على أرضه، هذه الأطراف العربية على وجاهة رأيها وسلامة رفضها لخطة التهجير، لا تزال تعد الأيام الباقية على موعد عقد قمة القاهرة الطارئة نهاية فبراير الجاري، وقد تجد نفسها أمام وضع جديد تماما، قد تكون الحرب فيه عادت إلى غزة، ولا يعود من موضع لجدال حول إعادة إعمار غزة، ولا لخطط بديلة عن خطة ترامب اللعينة، ولا لمحاولات إقناع الرئيس الأمريكي الهائج لرفض خطته من مصر بالذات، ولدى مصر خطة بديلة قابلة للتطبيق دون خروج فلسطيني واحد، لو استقامت النوايا العربية، وصحت بعدها نوايا وسلوكيات المشاركين في مؤتمر وزراء خارجية دول منظمة التعاون الإسلامي، المقرر عقده بعد القمة العربية الطارئة، فالخطة المصرية تتطلب تمويلا يقترب من الثلاثين مليار دولار، ولدى مصر شركات إنشاءات كبرى مشهود لها بسرعة الإنجاز، والعمالة الفلسطينية كثيفة ومتحمسة، لكن قضية التمويل تحتاج تعهدات قابلة للتنفيذ من الأطراف القادرة عليها، مع محاولات مصر لاستجلاب تمويل إضافي عبر مؤتمر دولي لإعادة إعمار غزة، وكل هذه التصورات يلزمها ضمان استدامة الهدوء في غزة، وهو ما قد تعيقه واشنطن وتل أبيب باستئناف حرب الإبادة عاجلا أو آجلا، وبتهديدات ترامب بالانتقام من السياسة المصرية بالذات، والضغط لخنق مصر اقتصاديا، ليس فقط بوقف المعونة الأمريكية العسكرية، وأرقامها ضئيلة هامشية التأثير، والأهم من هذه المعونة التي تستفيد بها واشنطن أكثر من القاهرة، وتأخذ في مقابلها ضمانات العبور الجوي لمقاتلاتها عبر السماء المصرية وأولوية العبور في قناة السويس، فوق توريد أسلحة أمريكية بتكلفة أعلى من سعر السوق، وإعاقة تعامل مصر مع موارد أخرى لاقتناء أسلحة أكثر تقدما من نظيرتها الأمريكية المسموح بتوريدها، وقد قطعت مصر أشواطا هائلة في الانفكاك من قيود المعونة منذ قرارها بالعودة إلى مبدأ تنويع مصادر السلاح قبل أكثر من عقد مضى، لكن نفوذ واشنطن لدى مؤسسات التمويل الدولية كالبنك وصندوق النقد الدوليين، قد يكون مشكلة فعلية لاقتصاد مصر المثقل بالديون، يستلزم التحسب لها توفير موارد نقدية تعويضية من الأطراف العربية القادرة ماليا، فلا نجاح ممكنا لعملية إفشال خطة التهجير من دون دور رئيسي حاسم لمصر بالذات، وموقف القيادة المصرية، رغم أي خلاف داخلي على سياساتها، يحظى بتوافق وطني واسع وتأييد شعبي جارف، وإن تبقى السؤال الظاهر معلقا حول حدود وسقوف التصدي المصري لخطة التهجير الأمريكية الإسرائيلية، خصوصا مع احتمالات العودة إلى جحيم الإبادة في غزة، والمخاطر الحالة على أمن مصر القومي، ولدى صانع القرار المصري بدائل عديدة، دون التورط في حرب مباشرة، بينها مستويات من التصرف في التزامات ما يسمى معاهدة السلام، أدناها تجميد العمل بالملاحق الأمنية للمعاهدة المذكورة، وأوسطها وقف اتفاقات الكويز والغاز، ناهيك عن خفض العلاقات الدبلوماسية، وليس من سفير إسرائيلي في مصر منذ الشهور الأولى لحرب غزة، والسلام البارد تحول إلى توتر ساخن، يلهب مشاعر الشعب المصري، الأكثر عداء بإطلاق بين الشعوب العربية لكيان الاحتلال الإسرائيلي والسياسة الأمريكية، فوجود إسرائيل في ذاته خطر على الوجود المصري. وقبل تصليب الموقف المصري وأهميته الجوهرية، يبقى الضمان الأقوى لإفشال خطة التهجير في الحالة الفلسطينية الداخلية، وما من شك في رفض الأغلبية العظمى للشعب الفلسطيني لجرائم التهجير من أي نوع، ولدى الشعب الفلسطيني دروسه الثمينة المستقاة من محنته التي بدأت بالتهجير الأول، وفي خبرة المحنة التي قادته إلى اختيار المقاومة التي لا تهزم أبدا، ربما نقطة الضعف الوحيدة ظاهرة في اضطراب تمثيله السياسي، وفي الانقسام الأمامي الذي طال أمده، وفشلت في معالجته مئات اجتماعات المصالحة بين فتح وحماس، ومع المخاطر الراهنة الكاسحة، فلم يتبق من وقت للتلاسن، ولا للتخلف عن نجدة الشعب الفلسطيني الأوثق ارتباطا بأرضه في الدنيا كلها، وقد طرحت أفكار كثيرة، لعل أهمها اقتراح مصري بتشكيل لجنة إسناد من التكنوقراط الفلسطينيين المستقلين لإدارة إعمار غزة، لا تكون من منتسبي فتح ولا من قيادات حماس، وتكون ممثلة للسلطة الفلسطينية الجامعة في غزة، وتدير الشؤون السياسية والمدنية كلها، ونظن أن الإسراع في التوافق واعتماد اللجنة الإدارية صار واجب الوقت الأعجل، وقد تضغط قمة القاهرة الطارئة في هذا الاتجاه، وما من بديل آخر لضمان تماسك عربي فلسطيني في هذه اللحظة الحرجة، مع الحرص على عدم التصادم ولا التداخل مع حركات المقاومة المسلحة، فالمقاومة لم تعد مجرد اختيار، بل حساب أقدار، وما من كعكة سياسية حتى يجرى التنازع عليها، وعبر عهد ترامب الممتد لأربع سنوات مقبلة، فلا فرصة لأي تفاوض عن دولة أو كيان فلسطيني مستقل، وما من عمل سياسي ممكن غير التحشيد الدولي وراء الحل العادل، والعالم كله تقريبا ـ عدا أمريكا وإسرائيل ـ يرفض خطة التهجير، وبالوسع السعى لاستصدار مزيد من قرارات سياسية وقضائية دولية، تحاصر ترامب ونتنياهو وسواهما من عتاة مجرمى الحرب، وتمتص اندفاع الحالة الترامبية وهياجها، خصوصا مع اختناقات علاقة ترامب حتى بأوثق حلفاء أمريكا في الاتحاد الأوروبي وفى الأمريكتين، إضافة لمواقف الصين وروسيا وغيرهما من أطراف حلف الشرق والجنوب العالمي، والتأييد المتزايد لقضية الحق الفلسطيني في أوساط الرأي العام الغربي ذاته.

 

كاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب