سيمفونية الروح: البهجة والفرح في لوحات بروغل الكبير

سيمفونية الروح: البهجة والفرح في لوحات بروغل الكبير
ميشيل سيروب
إذا كان لديك فضول لاكتشاف الحياة قبل قرونٍ خلت، عليك البحث في سجلات التاريخ والأدب والفن، ستبهرك العادات واللباس وطرق التسلية وتدبير الحياة اليومية، وأسلوب العيش والصراع على الكلأ والماء. اللغة والفن مستودع ذاكرة الشعوب.
نحن في القرن السادس عشر، في حضرة بروغل الكبير (1525 تاريخ الميلاد غير مؤكد- 1569) الذي استلهم مواضيع لوحاته من الحياة اليومية الفلمانية والهولندية. كان بروغل الكبير من عائلة مولعة بالفن، وهو الأشهر بين فنانَين آخرين حملا الاسم ذاته: بروغل المخمل الذي اختص بالمناظر الطبيعية وجان بروغل الذي يُعتبر أحد الأحفاد المبدعين في ميدان رسم جمال الريف والأزهار.
رسم بروغل الكبير الحياة اليومية: اللهو والبيع والشراء والعمل والثرثرة بين النساء والرعي وتربية الدواجن والندم والخيانة الزوجية، ولعب الصبية في الأزقة ولعب القمار والمراهنات، ورسم العشاق من فتحات النوافذ وفوق السطوح والطيور والغربان في شتاء قارس، والفرَّان والأعراس، علاوة على النهر والبحر والربيع في أبهى حُلتهِ.
امتاز فن بروغل الكبير بمنهج مخالف للفن الإيطالي، الذي كان مُهيمناً على عموم أوروبا آنذاك، لكن لوحاته لا تخلو من تأثره بالفنان الإيطالي (مواليد كرواتيا) فنان المنمنمات جيليو كلوفيو (1498 – 1578). لم تَسِلْ الدماءُ من لوحات بروغل ولم ينشغلْ بالبطولات الرومانية والأساطير اليونانية، شغلتْ بروغل تفاصيل الحياة اليومية عبر الأمثال: رسم لوحة تُجسد المثل الدارج «غاب القط، أخذت الفئران بالرقص»، وجسَّد المثل الذي يُكرر أبدية الصراع بين من يملكون ومن لا يملكون «السمك الصغير خُلق ليُؤكل» وأيضاً رسم «القوي لديه الحق دائماً».
اعتمد بروغل الأب على اللون الأحمر والأزرق ليضيف البهجة والإبهار على لوحاته، وأضاف لمسات ناعمة ليُبرز ترف العيش، وفي لوحة نادرة رسم مأساة «أعمى يقود عميان»، أو كما أطلقَ عليها أهل نابولي «معضلة الأعمى» واللوحة لغاية اليوم موجودة في متحف المدينة.
برج بابل
ترك بروغل الكبير إرثاً فريداً في عالم الفن، رسمَ المستهترَ والمُبذرَ مُجسداً المثل الفرنسي «كمن يرمي نقوده من النافذة». رسم الرجل الذي رهن حياته للشيطان. ورسم أيضاً رجلا مُسلحا حتى أسنانه يعض على السكين وهو مُدرع بلباس عسكري ثقيل من الحديد، يلهو مع القط، اللوحة تجسيد للجبان الذي يخشى أضعف المخلوقات في الوقت الذي يتحصن بدروع وأسلحة بلا طائل. برج بابل: اللوحة التي شكلت فارقاً في مسيرته الفنية: القصة التوراتية، التي تروي نجاة أحفاد النبي نوح «وَنجيناهُ وَأهلهُ مِن الكَربِ العظيم» (سورة الصافات 76)، حسب الباحث العراقي في السومريات خزعل الماجدي، فإن النبي نوح يُعتبر من الآباء الأوائل للبشرية. تجسد لوحة برج بابل، تجبّر الإنسان وتماديه ساعياً نحو الخلود، لقد انشغل أهل بابل عن العمارة والازدهار بالسعي لمجد الأَبدية. توهمَ ملك بابل (نمرود، ترجح بعض المصادر أنه نبوخذنصر) بجبروته العظيم أنه سيطال السماء، ولذلك أمرَ جُندَه وعمالَه ببناء برج يلامس الغيوم، بعد سنينَ من العمل الشاق والحثيث، أنزلَ الله صاعقةً على الجزء الأيمن من البرج، ليتعظ الإنسان ويُدرك بأن الخلودَ وهمٌ لن يستطيع أن يبلغه مَلِك أو جبار. في الجهة اليمنى من اللوحة: صخور وخراب وتداعٍ للبناء، وهي علامات على ضآلة الإنسان أمام هذا الصرح العظيم. في المقابل، تجري الأعمال بهمة عالية، دون أن يُدرك الإنسان بأن إقامته مؤقتة وزائلة، وما التجبر والغطرسة إلا مظاهر زائفة لِطاغية أو مَلِك مهما علا شأنه. في أسفل اللوحة إلى اليسار يتفقد المَلِك مع حاشيته سيرَ العمل بينما العمال مشغولون بتجذيب وتقطيع الحجارة لبناء ما تهدم! وفي يمين اللوحة ثمة أشرعة لمراكب تنقل الحجارة من مناطق بعيدة، دون اكتراث للكارثة، ودون الاستفادة من درس الأمس القريب. في عمق اللوحة يطغى اللون الأزرق بمحاكاة وانسجام للون السماء، تبدو الحياة هناك طبيعية مع سيادة اللون الأخضر لجمال الأشجار مع بعض السحب البيضاء الحُبلى بالمطر، الذي يُبشر بالهطول مدراراً على تلك التلال البعيدة والمحايدة.
عاش بروغل الكبير في عصر الإصلاح الديني لذلك أطلق العنان لخيالهِ الفني لتفسير روايات التوراة وفق فكر الداعية كالفن (1509- 1564) والراهب مارتن لوثر(1483- 1546). رسم لوحة رحلة المجوس برؤية جديدة، ولم يرسم قصص الرعب والجحيم بلمسات تتوافق مع مدرسة روما وفينيسيا. تتوزع لوحات بروغل الكبير على متاحف بودابست وروما وفيينا وروما وباريس ونابولي والمتحف الوطني في بروكسل ومتحف روتردام، الذي يضم لوحة برج بابل، كما تحتفظ فيينا بنسخة أخرى، بينما اللوحة الأصلية ما زال مصيرها مجهولاً. ما زالت لوحة برج بابل تحظى باهتمام النقاد والدارسين، هل كان تهدم البرج سبباً لاختلاف اللغات بين الشعوب، بعد الخراب الذي حلَّ بهم فبلبلَ الله ألسنتهم؟ أم العصيان والتمرد دفعا أهل بابل لصراعات محلية ألهَتهم عن عبادة الخالق بعد أن كانوا يتكلمون لغة واحدة؟ تتضمن اللوحة بتفاصيلها الدقيقة نشاط السكان الحميم في عزِّ الظهيرة. في كل طابق حركة وعمل دؤوب ولقاء غرامي بين عاشقين، أو خلاف بين شخصين على ملكية أرض، أو دين مستحق. كل 1سم2 من اللوحة ممكن أن يتحول لطابع بريدي، أو ذكرى تؤرخ لزمن غابر. ما زال تأويل اللوحة يحتمل أكثر من تفسير وجديرة بالتأمل. تألق بروغل الكبير بتزاوج الألوان الترابية مع الأزرق السماوي والأخضر، وتلك كانت قمة عطائِه بمسيرة فنية لم يُكتب لصاحبها العمر المديد.
لقد تمَّ تحقيق اللوحة من قبل جوس مومبير الثاني (1564- 1635) برؤية أخرى لا ترتقي لمصاف لوحة بروغل الكبير، لا من ناحية العرض التاريخي ولا من ناحية اللون.
كاتب سوري