الواقعية الثقافية في رواية «سلطان وبغايا» للكاتبة هدى عيد

الواقعية الثقافية في رواية «سلطان وبغايا» للكاتبة هدى عيد
حسين القاصد
حين يكون التنكير تعريفاً: عنوان الرواية يفتح آفاق القراءة ويغلقها في آن واحد، ويبدو أن تنكير «سلطان والبغايا» معاً جاء بقصدية نسقية من الكاتبة، التي هي أستاذة النقد الأدبي، ولعلها أفادت من علميتها مع أن هذا ليس شرطاً، لكنه مزية تحسب لها؛ أما كونه ليس شرطاً فذلك نابع من أن الاشتغال الإبداعي يسبق العمل النقدي وحتى الأكاديمي، وهو الذي يفتح آفاق التنظير والتفكير العلمي؛ وفي الحالين، تحققت الفائدة من التنكير، وترك سلطان بحيلة التعريف لكونه اسم علم! مع أنه بتنكيره أكثر اتساعا في فضاء السرد وأفق التفكير، أما (بغايا) فلا يهم إن تم تعريفهن أو تنكيرهن، هكذا يبدو الأمر من الخارج، لكن معادلة جدلية يراد لها الترسيخ بطرفيها، (سلطان + بغايا) فالأول يستقطب، بل له أن يمتلك طرف المعادلة الثاني (البغايا)، والبغايا هن مائدة السلطة وفضلاتها.
غرابة الحوارات بين الشخصيات:
تتدخل الروائية بمهنتها الأكاديمية، فجميع الذين حاورتهم أو سألتهم (زهية عصام زعتر) يأخذون دور المعلم السائل والمجيب في الوقت نفسه؛ حيث لا تكلف زهية نفسها سوى السؤال عن عمها، وهي الوحيدة التي تحبه ويحبها؛ وهو نسق عائلي، فيكاد الإنسان أن يكون مكشوفا للجميع إلا لأسرته، وهو نسق شرقي، أتقنت رصده الكاتبة، فالأهل لا يعرفون عمن ينتمي لهم غير ما يظهره لهم؛ ويجهلون حقيقته في عيون الآخرين؛ وبذلك تبدأ (زهية) جولتها بالسؤال عن عمها المفقود، لتتعرض للجلد بسياط أجوبة الذين يعرفونه، أو الذين وظفتهم الكاتبة لكي يكشفوا لها حقيقة عمها. سلطان زعتر: هو مجموعة من السلاطين، فزعتر لم يسهم بتعريف سلطان، ولم يكن سوى اسم تكميلي يؤثث الشخصية ليربطها بابنة أخيه (زهية) لا أكثر، فهو الملقب «الثعلب» الاستبداد هنا تمثل بالبطل الماكر، الرجل الفاسد، «سيد الدولار» أو «الجاسوس سلطانوف» والنموذج المتسلط للذكورة المعنفة، «الشيطان بأسماء كثيرة)؛ وهو قبل ذلك وبعده سلطان بك، لكنه مغيب بالتنكير القسري من الكاتبة.
هذه الرواية لا تنتمي للمذاهب الأدبية المعروفة، نعم.. تشي ببعض الواقعية، بل فوق الواقعية، لذا فهي تنتمي للواقعية الثقافية وتحديدا الواقعية السائلة، بعيدا عن التعقيد البلاغي ومكياج النص.. فأول ما تبدأ به الرواية هو الواقعية الرقمية، والواقعية الإعلامية وكلتاهما من الواقعيات الثقافية، ولم تخل الرواية من الواقعية القذرة، حيث الشتائم والكلمات البذيئة الموجهة لسلطان أو للبغايا، اللواتي أغلبهن ضحايا القوة والمال. قبل بداية الرواية أو بعد نهاية كتابتها، هناك توضيح كتبته المؤلفة بعد انتهائها من كتابة الرواية، وهو الذي يواجهه القارئ في بداية الرواية، وهذا التوضيح تعلن فيه الكاتبة براءتها من كل شخصيات الرواية، بما في ذلك الرواة وكل الشخصيات رواة وسلطان هو المروي عنه الوحيد، والتوضيح يقول: (إن أسماء الأفراد والعائلات الواردة في الرواية هي وليدة الخيال والحبكة الروائية، ولا تمت بصلة إلى أرض الواقع)، كأنها بذلك تريد القول، إن النص الذي بين أيديكم ليس حقيقيا، وإن كنتم قد عشتم أو شاهدتم بعض أحداثه، فهو رواية مدججة بالتخييل وليست سيرة. ثم تستعين الكاتبة بابن خلدون لتوصل لنا طريقنا في ملاحقة سلطان فكان تصدير الرواية مقولة ابن خلدون، (إذا فسد الإنسان في قدرتِه ثم في أخلاقه ودينه فسدت إنسانيته وصار مسخا على الحقيقة. ابن خلدون). وهي مقولة أشبه بالباسورد لمن يود دخول عالم هذه الرواية، بل لنا أن نسميها (المقولة القامعة) وهي في النقد الثقافي لها أن تهيمن أو تجعل المؤلف يهيمن على القارئ هيمنة مطلقة. هو سلاطين وليس سلطانا واحدا.. هو كل السلاطين.. كما أن سيولة الواقع منحت البطل اسم سلطان وهنا تمت سيولة الزمن والمكان معاً.. فالسلطان هو رتبة عثمانية عليا، بل أعلى رتبة.. ثم ذهبت بنا الواقعية السائلة الى أن صار سلطان سيد الدولار (حين هرب الأموال من العراق ولم تعتقله القوة الأمريكية التي تسيطر على التفتيش في مطار بغداد).. والسلطان العثماني حكم العراق ومصر والشام والجزائر.. وكلمة بيك وباشا وبيه متداولة حتى الآن في بعض الدول على الشخصية الغنية.. على الرغم من دخول بريطانيا للعراق ثم أمريكا (سيد الدولار) وفي بقية الدول التي احتلها العثمانيون كان الاحتلال الفرنسي بعد العثمانيين.
الطلاق بين الدال والمدلول
في زمن الهيمنة الإعلامية، لن تستقيم العلاقة بين الدال والمدلول، بل هناك دلالات ثقافية مهيمنة، فمهما كان وضوح القصدية من الدال نرى اضطرابا بعلاقته بالمدلول؛ وهذا الاضطراب تتحكم به وتفعلّه وتغذيه الواقعية الرقمية؛ فلقد بدأت الرواية بإعلان في اليوتيوب.. وحاز الإعلان أعلى نسبة مشاهدات.. وهنا ندخل في مرحلة الطلاق بين الدال والمدلول.. حيث تركنا علاقة الدال بالمدلول وانشغلنا بالنتيجة التي يتحكم بها عدد المشاهدات؛ فليس لنا أن نقول، إن المطر ينزل من السماء إذا كانت المقولة تنص على أن المطر يوزع للبيوت عن طريق ساعي البريد، وتحصل هذه المقولة على أعلى نسبة من المشاهدات، وهو نسق العرض والطلب الرقمي.
كل من التقتهم زهية ابنة أخ سلطان بحثا عن عمها، وقد عثرت عليهم في هاتفه المهمل منذ عام، كانوا شهودا، وكانت أسماؤهم مثبتة في هاتف عمها، وهنا تتجلى الواقعية الرقمية، لكن كيف للشاهد أن يسأل ويجيب.. وأنا وجدت براعة في هذا النسق الحواري، وهو إظهار المقموع او المضمر في داخل الشاهد.. لنطلع عليه نحن لا زهية.. فأغلب الشهود حين يسترسل أحدهم في سرد صفات سلطان السيئة، يستدرك وينقل لنا بطريقة البث المباشر، ليقول لها: أزعجتك ؟ آسف لكنها الحقيقة، وهذه الحيلة الحوارية أجادتها الروائية، لتنتج لنا أسلوبا حواريا شيقاً، فأغلب الشهود هم يمثلون مراسلين صحافيين ينقلون لنا حكاية (سلطان) لحين اكتمالها.
هذا يؤكد ما أذهب إليه بأن الرواية تنتمي للواقعية السائلة، فحضور نادي الريال مع كل الأحداث الصاخبة ليتجلى لنا سلطان سلطانا على الجمهور في الملعب ويقبل إحداهن وترقص له.. هكذا كانت سيولة الواقع، وكانت الواقعية الشعبية بدءا من أسماء الرواة وظروف الحياة التي نراها بالمألوف.
هناك نسق التذويت؛ فقد تم تذويت سلطان على أكثر من شخص، فضلا عن أن تسميته، وأن والده أستاذ تاريخ يعود بنا إلى أبي العلاء المعري، فأبو العلاء يكره النساء وينظر لهن نظرة منبوذة بقوله:
خصاؤك خير من زواجك حرة
فكيف إذا اصبحت زوجا لمومس
وكأن هذا البيت وصية العرف المجتمعي أو وصية والد سلطان بأن جميع النساء بغايا.
الخلاصة: الرواية هي استطلاع صحافي يختبئ خلف الحوارات السردية. فاليوتيوب، الجرائد، وسائل الاعلام، واقعية اعلامية ورقمية في آن واحد.
الرواية تحكي عن قواد وضحايا.. فالسلطان مارس القوادة والبغايا كن ضحيات وكن زوجاته، فهن لم يطلبن البغاء، بل وقعن فيه تحت التخدير، أو بالقوة، (أما زوجاته الست، فهن الصورة النمطية عن النساء الخاضعات لمزاجه وأقدارهن، المعنّفات اللواتي رسم لهن مستقبلهن، من دون أن يبدين ثورة أو تمردا، على تنوع قصصهن، باستثناء الأخيرة التي أحبها كثيرا ربما لأنه وجد فيها مرآته في حقاراته واستغلاله، ما جعله يعيد النظر في سواد ماضيه، فينتهي كما انتهى أبوه، ممحو الذاكرة. وقد تكون الذاكرة عند الشخصيات كافة من دون استثناء هي البطلة، هي الذاكرة التي تريد أن تغفر لذاتها خطاياها وزلاتها، لتكتب بداية جديدة في صفحة جديدة) ، هذا ما قالته ناتالي الخوري غريب، وهي تكتب تقديما للرواية، وفي الوقت الذي أثمن رأيها الكريم وقراءتها الفاحصة، لكن بطل الرواية الحقيقي هو المتلقي، هكذا أراه، بدلالة طريقة الحوار التي جاءت بها هدى عيد، فقد مررت علينا بطريقة مشوقة تحقيقا صحافيا جعلت كل ابنة أخ تئن تحت سياط الشهود، الذين يجلدون عمها المختفي! لتكسر نسق (أذكروا محاسن موتاكم)، وقد جعلت كل زوجة انتهك شرفها بطلة للمأساة، وقد سحبت جمهور ريال مدريد، ليشارك في الرواية ويترك متعة المباراة وينشغل بالفتيات على المدرجات، كما يفعل السذج من معلقي مباريات كرة القدم، حين يسيل لعابهم للفتيات نصف العاريات في مدرجات الملعب.
تبدأ الرواية بمشهد رقمي يجلب التعاطف بعدد المشاهدات، وهو ما أطلقت عليه: الطلاق التام بين الدال والمدلول، وهو الذي جلب التعاطف والتشويق للدخول لعوالم هذه الرواية: (حقق فيديو منشور عبر مواقع التواصل الاجتماعي أعلى نسبة مشاهدة في اليومين الفائتين. ويصور الشريط Youtube سيدة لبنانية ثلاثينية تعلن عن اختفاء عمها الملياردير اللبناني الشهير سلطان بك زعتر، الذي انقطعت أخباره منذ ما يزيد على خمسة أشهر، ولا أحد يعرف عنه شيئا، فالرجل خرج من قصره ليلا بملابس نومه، بيجاما حريرية زرقاء اللون، لم يعلم أحدا بوجهته، ولم يترك خلفه سوى هاتفه النّقال الذي لم يستخدمه منذ أكثر من سنة؛ هذا وقد أبكت السيدة الرقيقة الكثيرين، وهي تنتحب بحرقة لغياب عمها، راجية باسم الإنسانية ممن يعرفه، أو يعرف عنه أي معلومات إخطارها بشأنه، حيا كان أو ميتا عبر العنوان الذي أعلنته، والذي تم تعميمه عبر الصحف في اليوم التالي، مع الإشارة إلى مكافأة مالية ضخمة لكل من يدلي بأخبار وافية عن قريبها المذكور. سلطان بك زعتر من بلدة عين الفجور، منطقة السهوب، محافظة الغروب، ابنة أخ المفقود السيدة زهية عاصم زعتر المعنية الأولى بالإخطار والمقيمة حاليا في العاصمة: فيلا رقم 18، شارع 090/ عدلي باشا، هاتف 777777) ؛ هكذا أثارت الكاتبة الشجن والترقب وشدت القارئ لروايتها، وقد وفرت لها الواقعية الرقمية نسق اصطياد القارئ:
عدد المشاهدات
تعاطف الجمهور مع امرأة تبحث عن عمها
وبعيدا عن الإنسانية التي لا تعرفها الرقمية، فإن المكافأة المالية لها أن تجعل المجرم نبيلا إذا كان من يطلبه من عامة الناس، والبريء مجرما إذا كانت تبحث عنه الجهات الأمنية؛ لأن المكافأة هي معيار الإنسانية الرقمية والصفحات الممولة.
هكذا أدخلتنا هدى عيد إلى روايتها من شاشة اليوتيوب، لتؤكد براءتها من جميع شخصيات الرواية. (نعم، أنا هي، ماذا تريدين يا سيدة؟ نعم، ما هو اسمك تقولين؟ أها، أنت من عائلة سلطان زعتر حقا، هكذا إذن، ولم تسألين عنه في منزلي؟ زوجته الشابة اقترحت الأمر، هي قالت لك إنه كان يذكرني كثيرا في الآونة الأخيرة، ابن حرام يعني حتى في آخر أيامه، طبعا طبعا من كانت عجينته فاسدة ستصلح وهي تودع الدنيا؟! أكبر حمار من يقول لك ذلك. زعلت؟ لا يا عيني أرجوك إياك أن تزعلي، ماذا تكونين له؟ ابنة أخيه الأصغر عاصم، والله له أخ واسمه عاصم كذلك؟ لم يذكر لي هذا الأمر ولا مرة، أصلا هو لم يكن يجد وقتا ليذكر أي شيء، دائما كان هائجا كثور مصارعة إسباني، يبحث عن المستحيل يناطحه، ويركل كل ما فيه.
لم تذكرينني الآن بما مضى؟ إنه زمن بعيد لا أريد تذكره.. لكن أنت تريدين؟ تبحثين عن أي شيء، أي خبر قد يوصلك إليه، تبحثين عن الشيطان إذن هاهاها، عدنا للزعل، لا أريد إغضابك) ؛ هكذا يتم جلد زهية بعد نشوة التريند والتعاطف مع الفيديو، فالرقميون ليسوا كمن عايش الحقيقة، إذ كل همّ الرقميين، أن يتصدروا التريند ويحصدوا الأموال بقمار الواقعية الرقمية.
كاتب عراقي