ثقافة وفنون

«سدهارتا»… رحلة البحث عن الذات في عالم مضطرب

«سدهارتا»… رحلة البحث عن الذات في عالم مضطرب

نيجرفان رمضان

حين كانت الأزمات تدق أبواب أوروبا مستبشرة بقدوم حربٍ، قرر هرمان هسّه (1877 ـ 1962) الخروج في رحلة استجمام إلى الهند؛ ذلك البلد المكتظ بالأديان والمعتقدات والتعاليم الروحانية، لكن نيران الحرب العالمية الأولى أُضرِمت وتأثر بها تأثيراً بالغاً ولم يستطع أن يكون مثل صديقهِ الفرنسي الكاتب رومان رولان الذي وقف بمعزل عن الجماهير متأملاً الكارثة الكونية، التي لم ينجُ من آثارها المدمرة أحد، لذا سافر إلى سويسرا المحايدة وأخذ يكتب نداءً تلو الآخر ضد الروح العسكرية الألمانية والقومية، إذ أعتقد أنها السبب في هذا البلاء؛ تلك الرحلة أثمرت بعد ثماني سنين روايةً هي «سدهارتا» 1922.
تقع الرواية في 182 صفحة، مقسمة إلى اثني عشر فصلاً بعناوينٍ فرعية تبدأ أحداثها من الصفحة 15، مسبقة بكلمة المترجم عن الرواية والراوي، وتنتهي في الصفحة 178، وهي صادرة عن دار المعارف/ مصر ـ ترجمة وتقديم فؤاد كامل.
يغلب على النص الروائي مناخ الفلسفة الوجوديّة، التي اتخذت من الإنسان موضوعاً لها، ليس من خلال التفكير وحده، وإنما من خلال الفعل والشعور بأنها ترتبط بالإنسان كفرد حي، والوجودية متفقة في مبدأ أنه لا يوجد هدفٌ واحد أو حقيقة واحدة يعيش من أجلها الجميع، فكل فردٍ في الأرض له الحق والحرية الكاملة في اختيار ما يحلو له. بطل الرواية هو «سدهارتا» ابن عائلة ثيوقراطية من البراهمة، حاذقٌ في تعاليمها منذ زمنٍ بعيد، أتقن فن التأمل والتفكير وشارك في نقاشات مع علماء البراهمة، ويعرف جيداً كيف يلفظ «أوم»، وكيف يتعرف على «الأتمان»، لكنه قرر أن يبحث عن ذاتهِ في الوجود الحي، مرّ بمراحلٍ كثيرة ساعياً إلى الخلاص من زيف الواقع المبني على المظاهر الخادعة؛ ماراً بالمعرفة الحقيقة عن طريق التجربة الحية والانغماس في الوجود، لا عن طريق التجريد والجلوس على المقاعد الوثيرة في الحجرات المغلقة. إنها رحلة انطلاق إلى تذوق العالم، وإلى شم النسيم في الفضاء الواسع. وموقفه الوجودي كان لحظة التحاقهِ بجماعة «السامانا».
قرار سدهارتا في ترك المنزل والالتحاق بزهاد السامانا يذكرنا بالحكمة اليونانية «اعرف نفسك»، التي دُونت على جدارن «معبد ديلفي»، قواعدياً كُتبت العبارة بصيغة الأمر؛ أي يجب عليك القيام بنشاطٍ عملي وروحي يوصلك إلى معرفة ذاتك؛ وهي دعوة إلى الزهد أو الجلوس في الصومعة، ليست بالمعنى الديني للكلمة، لأن بناء الذات لا يمكن العمل عليه والإضافة إليه في العلن أمام العامة من الناس، إذ لكل نشاطٍ طقوسه الخاصة. ويقيناً بتلك الحكمة المدونة على جدار ديلفي يقول المعلم أوشو، إن العقل الإغريقي لديه شغف بالمعرفة، وإن ما في داخلك هو حقيقتك، فكيف يمكنك أن تخرج منهُ؟ كيف يمكنني أن أراقب نفسي من دون انفعال عاطفي؟ أنا المتورط بهذا وليس باستطاعتي الوقوف خارجها، وباستطاعتي مراقبة الحجر والصخر والنهر، من دون عواطف وانفعال لأني مفصول عنها، لهذا فإن العقل الإغريقي انتقل شيئاً فشيئاً باتجاه المادية، وقد أصبح هذا الشعار والحكمة مصدراً لجميع أنواع العلوم.
«ولكن أين هذهِ الذات .. إن هذه السريرة ليست اللحم والعظم، وليست الفكر أو الشعور.. هذا ما يعلمنا الحكماء.. أين هي إذن؟»، يتساءل السيد هارتا في نفسه صارخاً؛ نفهم أنها الأنا الفردية، أو الأنا الداخلية أو يمكن تسميتها الأنا الساعية أو الحالمة.
هرمان هسّه سويسريٌ، ذو أصول ألمانية، سليل عائلة دينية يغلب عليها طابع التقوى والورع، والده كان مبشراً وقسيساً بروتستانتي، ورغب أن يكون مصير ابنه كمصيره؛ رجل دين، لكن الابن ثار على التعليم الديني في سنواته الأولى، رغم إشادة معلميه بذكائه الحاد؛ فلم يمكث في دير مالبرن البروتستانتي طويلاً، وتمرد على التعليم الكنسي الصارم وعلى عائلته، وعلى التعليم المدني العلماني. كان كثير النفور من المدرسة؛ ذات مرة هدد أنه إن بقي في المدرسة سيقدِم على الانتحار، وهجر التعليم الإلزامي عاكفاً على القراءة الحرة، لكن قبل ذلك عمل في حرفة الميكانيك، ثم بائع كتب في مدينة «توبنجن»، ثم في مدينة «بال»، حيث استقر وبدأ مشوارهِ الأدبي. عمله بائعا للكتب أتاح له فرصة الاتصال بأوساط المثقفين والأدباء ومراسلة الصحف الأدبية ككاتب للمقالات والقصص.
سدهارتا هي كلمة سنسكريتية؛ ومعناها الرجل الذي بلغ هدفه.

كاتب وشاعر سوري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب