ثقافة وفنون

اقتلَعوا شجرة وزرعوا غابة

اقتلَعوا شجرة وزرعوا غابة

سهيل كيوان

يبدو أنّ البلدية في بلدة عنبتا الجميلة في محافظة طولكرم في الضفة الغربية، أبقت شجرة زيتون معمّرة في مكانها رغم توسعة الطريق وجعلتها داخل دوّار في وسط الشّارع، وربّما أنّها أحضرتها من مكان قريبٍ جرت فيه توسعة لشارع أو لبناء، وزرعتها في الدوّار.
جرّافة احتلال عملاقة تتقدّم من الزّيتونة المعمّرة وتُنشِبُ مخالبَها الفولاذيّة في جذعها.
خليط من المشاعر تحوي تاريخاً وسياسة وعلاقات إنسانية، ألمٌ ودموع وذكريات وحتى نظرة تأمّل إلى المستقبل.
تأتي أشجار وتمضي أشجارٌ مثل صرعات الموضة، من أقصى الشّرق والغرب، استوائية وغيرها، كأنّها أمم وشعوب، ثم تضمحل وتختفي أهميتها وتبقى الزّيتونة.
لا يمكن لشجرة أخرى أن تشغل مكان الزّيتونة في هذا الشّرف الرّفيع، طبعاً جنباً إلى جنب مع التّينة، وهذا منذ ألوف السّنين.
هنالك أصناف كثيرة من الأشجار الجميلة، للّوزيات سحرُها، في الرّبيع تضفي على الجبال والأودية والحواكير والرُّبعان جمالاً وبهجةً بألوان أزهارها البيضاء والوردي بـأطيافه الكثيرة، وبنكهات ثمارها اللذيذة، لكنّها لا تبلغ مرتبة الزيتونة ولا تقترب من قدسيتها، ولا تعمّر مثلها، بحيث تعاصر أجيالاً عديدة.
كتب كثيرون عن الّلوز كرمزٍ للتجدّد، منهم حسين البرغوثي «سأكون بين اللوز»، ومحمود درويش «كزهر اللوز أو أبعد»، وإميل حبيبي في قصة «وأخيراً نوّر اللوز»، وسميح القاسم في رثائه لمعين بسيسو، ورضوى عاشور في روايتها الطنطوريّة وغيرهم.
جميل ورائع، ولكن الزّيتونة حكاية أخرى، إنّها ملحمة، هي ملهمة ليس للشعراء والكتاب والمبدعين بمختلف ألوانهم فقط، بل إنّها إلهام للحياة والقدرة على الصّبر والبقاء والتجدّد، ولا أظنُّ أنّه يمكن العثور على مبدعٍ فلسطيني لم يتطرّق في لوحة أو قصّةٍ أو قصيدة أو نحتٍ إلى الزّيتونة.
الجرافة تهزّ جذعها بعنف، كأنّما تقول «أنا الجرّافة الأمريكية، قادرة أن أقتلعَك من جذورك لتذبلي وتجفّي ولن تصلُحي بعد هذا إلا للنّار».
تهتزُّ أغصانُ الزّيتونة كالجدائل المُعذّبة، تتراجع الجرّافة بضعةَ أمتار، ثم تنقضُّ بعزيمةٍ أقوى، ترتطم بالجذع، تتكسّر فروعٌ وتنسلخُ أغصان وتتألّم الجذور العتيقة المنغرسة عميقاً في الأرض.
الجرافة الأمريكية لا تيأس، تتراجع وتعود لتضرب بتصميم وقوّةِ دفعٍ أكبر، تُنشِبُ أنيابها في الجذع، يُسمع أنينُ الجذورِ التي تتكسّر في عمق التّربة، كأنّين بطلٍ أسير يقترب من لحظة استشهاده في مسالخ التّعذيب.
بعد محاولات عديدة وتحايل على الشّجرة، أخيراً تنجح الجرّافة الأمريكية العملاقة بمهمتها لتضطجع الشّجرة ولترتاح راحتها الأبدية بعد اغتيالها.
على الأرجح أنّ قائدَ الجرَّافة فرِح بإنجازِه العظيم، لقد أنجز عملاً يوجع الفلسطينيين.
وربما قال لنفسه «الآن سيحتاجون إلى سنين طويلةٍ كي يعوّضوا هذه الخسارة، سيغرسون غرسة في مكانها، وسوف يستغرقها سنوات لتصبح مثمرةً من جديد، ولكن سنقتلعها مرّة أخرى، لا ننتظر حتى تصبح شجرة كبيرة وعنيدة تحتاج إلى جرافة، ممكن إحراقها وهي شجيرة صغيرة، أو سكب مادّة كيماوية على جذعها وقتلها، وممكن تركها لتنمو بضع سنوات حتى يفرح بها الفلاح، وحينئذ يأتي قطعها أشدَّ ألماً وقساوةً.
عندما صُمّمت الجرّافات الأمريكية العملاقة، لم يكن هدفها الأساسي اقتلاع الأشجار وتجريف الشَّوارع وشبكات المياه والكهرباء والهاتف وبسطات الخضار، وأكشاك بيع السّكاكر والألعاب والملابس والفلافل والورشات الصغيرة، ودهس السّيارات المدنية على جوانب الطرقات، وتتويج هذه الجرائم بتجريف المقابر ونثر الجثث وعظام الموتى.
لم أعثر في ذاكرتي على صفة تليق بمشهد جرّافات الاحتلال وهي تمارس جرائمها.
هنا نرى دناءة وضِعَة وحقارة، كذلك نرى خساسة ورُخصاً ونذالة وقذارة وبشاعة ووحشية وهمجية وبهيمية. تقول العربُ إنّ اللؤم صفة جامعة لكثير من الصّفات الرّديئة، ولكنها لا تفي الجرائم التي يراها العالم حقها، ولا حتى جريمة اقتلاع زيتونة واحدة.
في الآن ذاته، فلهذه الجريمة إيجابيات، شاءوا ذلك أم أبوا، فهي تذكّرنا بعَظمَة رسولنا محمد (ص) وصحبه الكرام، وتنبّهنا إلى عَظَمة ديننا الحنيف.
دين مُحمّد عليه الصّلاة والسّلام الذي أوصى المحاربين الأوائل «لا تقطعوا شجرةً ولا تقتلوا امرأةً أو صبيّاً ولا وليداً ولا شيخاً كبيراً ولا مريضاً، ولا تمثّلوا بالجُثث ولا تسرفوا بالقتل، ولا تهدموا معبداً ولا تخرّبوا بناءً عامراً ولا تذبحوا بهيمة إلا للأكل». كذلك أوصى بإطعام الأسير والوفاء بالعهد وعدم إجبار أحد على الإسلام.
هنالك مبادئ صلبة، هي نورٌ في تاريخ البشريّة كلِّه، وليس في تاريخ الإسلام والمسلمين فقط، وهي مصدر فخر لكلِّ أتباع هذه الملّة ومنهم الفلسطينيون.
من روائع القرآن الكريم في التعامل مع الأسرى تلك الآية من سورة التّوبة التي استشهد بها الأمين العام للأمم المتّحدة السّيِد أنطونيو غوتيريش في إحدى خُطَبِه «وإنْ أحدٌ من المشركين استجارك فأجِره حتى يسمعَ كلامَ الله، ثم أبلغه مأمنَه، ذلك بأنّهم قومٌ لا يعلمون».
ما أوسع الهوّة بين أولئك الذين يتواصون بالرّحمة والإنسانية مع الأعداء في زمن الحرب، وبين أولئك الذين يسمِّمون المزروعات والمواشي ويقتلعون الأشجار، بل وذهب بعضهم إلى تحليل قتل الأطفال، وأعلن عن كلَّ نساء ورجال وأطفال قطاع غزة هدفاً مشروعاً للقتل.
يحقُّ لكلِّ مسلمٍ أن يفخرَ بنبيِّه وصحابته الذين سبقوا معاهدات جنيف بأربعة عشر قرناً في حفظ حقوق المدنيين خلال الحرب، والنّهي عن العقوبات الجماعية.
نتذكّر مبادئ ديننا الحنيف عندما نرى ونسمع ما يفعله الآخرون من قتل للأطفال وتجريفٍ للمقابر واقتلاعٍ للأشجار وهدمٍ للبنيان وتنكيلٍ بالأسرى حتى الموت، بكلِّ بساطة يقولون لنا إنّ ما جاء به دينكم هو أفضلُ ما قدّمته ديانات وقوانين وضعية، ونبيّكم محمّد هو أشرف ما أنجبته البشريّة.
لا يعلم أصحاب قرارات التجريف والاقتلاع ومن ينفذون هذه الأوامر كم يبدون صغاراً وتافهين.
طبعاً، هم ينظرون إلى أنفسهم كأبطال.
أحد قادة الجرّافات العملاقة تحدّث لإحدى قنوات إعلام الاحتلال، بفخرٍ، كيف هدم بجرافته مئات الأبنية السّكنية في قطاع غزّة.
لا يفهم الغزاة عُمق الجراح التي يتركونها في أرواح ملايين من البشر بجرائمهم المتكرّرة على البشر والحجر والشّجر.
لا يفهم الغزاة أنّ لكثيرٍ من الأشجار أسماء مثل البشر والعائلات.
من يعتدي على الشّجرة أو يقتلعها يعلن بهذا أنّه ليس ابن هذه الأرض، وبأنّه غريب ودخيل.
علاقة الفلسطيني بشجرة الزيتون علاقة قربى دم وشيجة، ولها رهبة.
كان عندنا زيتونة اسمها «الدّيك»، وذلك لأنّ جذعها وفروعها كانت تشبه ديك الدّجاج، وكان لنا في هذه الشّجرة شريكٌ، هكذا منذ وعيي، نعرف أنَّ هذه الشّجرة ليست ملكنا وحدنا، بل هي لنا ولقريب بعيد من جهة جدّة والدي، قد لا نلتقي طيلة العام، ولكن في الموسم كانت تتفق الأسرتان على يوم لقطف «الدّيك»، فتوفد كلُّ أسرةٍ ممثِّلا عنها للمشاركة في عملية القطاف كي يقسموا الثمار بالتّساوي والعدل، والأهم أنّ هذه الشّجرة «الديك» كانت إثبات دليل قربى الدّم ولو من بعيد، بين أسرتنا وأسرة الشُّركاء.
يا قادة الجرّافات الأمريكية، وأصحاب الأوامر، أنتم تزرعون الحقد لعقود وربما لقرون، لن ينسى الفلسطينيون أولئك الذين اقتلعوا أشجارهم المقدّسة وهدموا بلادهم، لقد اقتلعتم أشجاراً وزرعتم غابات من الحقد والكراهية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب