
مفارقات عربية: كيف واجهت أمم أزماتها الكبرى؟

حسام الدين محمد
تتألف كلمة أزمة في الصينية، كما يلاحظ جاريد دايموند، من مقطعين، الأول يعني «خطرا»، والثاني يعني «نقطة حاسمة، فرصة»، وهو ما يحضر أيضا في مقولة تشرشل: «لا تدع أزمة جيدة تضيع منك!»، ويبدو هذا مدخلا مناسبا لإدراك هذا «التعميد بالنار» للأمم التي تواجه تحديا هائلا فتحوّله إلى فرصة كبرى. يأتي كتاب دايموند، «اضطراب: كيف تأقلمت الأمم مع الأزمات والنزاعات»، بعد كتابين حظيا بانتشار واسع، «بنادق، جراثيم وحديد: تاريخ مختصر لكل شيء منذ 13000 عام»، و»انهيار: كيف تختار مجتمعات نجاحها أو فشلها؟»، ليتعمق في بحث ست أمم اجتازت أزمات كبرى. يسمح التنوّع الجغرافي والثقافي والسياسي الكبير للأمم المدروسة، واتساع مجال العلوم، التي يستخدمها الكاتب لمقاربتها (الجغرافيا والأحياء والتاريخ وعلم النفس الاجتماعي إلخ) تجعل من حالات تلك المجتمعات نماذج لأخذ تقاطعات، ولاكتشاف مفارقات، تهم العالم، كما تهمّ، بشكل خاص، الأمم العربية، التي تعاني من أزمات وجودية طاحنة. يحاول الكاتب، بداية استخدام آليات التعاطي مع الأزمات الفردية، ومحاولة توظيف بعضها في فهم الأزمات العامة، محددا إياها بـ: الاعتراف بوجود أزمة، والقبول بالمسؤولية عنها، وبناء خط حولها لتحديدها، والحصول على دعم مادي ومعنوي للمساعدة، واستخدام أشخاص آخرين كنماذج للحل، تقوية الذات، الصراحة في تقييم النفس، الخبرة المستقاة من أزمات أخرى، الصبر، المرونة، القيم، والحرية من العوائق الشخصية.
هل يمكن مقارنة غزة بفنلندا؟
يبدأ الكاتب من أزمة فنلندا عام 1940، التي كان عدد سكانها حينها 3.7 مليون نسمة، وتعرضت عام 1940 لاجتياح 4 فرق من الجيش السوفييتي بتعداد 500 ألف جندي، مدعومين بآلاف الدبابات قامت بعزلها بالكامل (تظهر خريطة فنلندا كونها شبه محاطة بروسيا بحدود طويلة جدا، مع حدود برية قصيرة مع السويد، التي كانت «محايدة» خلال الحرب). أوقعت القوات السوفييتية في الليلة الأولى لغاراتها الجوية قرابة 10% من عدد ضحايا الحرب، ونجحت في كسر خط الدفاع الفنلندي (مرتين)، لكن مقاومة الفنلنديين الهائلة، التي جيّشت سدس عدد السكان (بمن فيهم المراهقون والعجائز)، ونجحت في استعادة أراضيها المحتلة، وصارت البلد الأوروبي الوحيد الذي تمكن من منع احتلال بلاده خلال الحرب العالمية الثانية، إضافة إلى درس المقاومة شبه الانتحارية (التي يمكن أن تسمح بقراءة لنموذج تاريخي لمقاومة الفلسطينيين لإسرائيل؟) رغم الظروف شبه المستحيلة التي حُشر فيها الفنلنديون، فهناك درس آخر، سياسيّ، يجب عدم الاستهانة به، وخلص إليه الفنلنديون لمنع حروب أخرى، وهو القيام بتسوية مجحفة مع الاتحاد السوفييتي حكمت بالسجن على بعض قادتها الكبار، ودفع «جزية كبيرة». أعيد القادة لاحقا لمناصب كبيرة، وكانت العقوبة المالية حافزا لنشوء صناعة ثقيلة ساهمت في نمو اقتصاد البلاد بعد الحرب.
تشيلي: أشجان اليسار واليمين!
تمثّل اليابان نموذجا مذهلا للتغير الاجتماعي الانتقائي، الذي استمر لنصف قرن، والذي شمل تبنّي نماذج أمم أخرى، بعد تعرّضها لخطر خارجي تمثّل بتهديد مباشر من الولايات المتحدة الأمريكية عام 1853، ما أدى لتغييرات عميقة أدت في النهاية لسقوط حكم 225 عاما لسلالة من «الشوغن» (ديكتاتور عسكري يحكم أمراء حرب ـ إقطاعيين يتقاسمون إدارة مناطق البلاد)، وظهور إصلاحات الميجي، التي جعلتها أول دولة حديثة غير أوروبية تناظر المجتمعات الأوروبية (أمريكا، كندا، أستراليا ونيوزيلندا) في مستوى العيش، التصنيع، والتكنولوجيا، والنظم السياسية والاجتماعية، مع الاحتفاظ بالفرادة المميزة لثقافتها.
يثير مثال تشيلي، المبحوث في الكتاب، أشجانا سياسية عربية، ولكن التعمّق فيه يسمح بتغيير بعض الأفكار التقليدية عن حدث الانقلاب العسكريّ الشهير، الذي وضع الجنرال أوغوستو بينوشيه على رأس السلطة. يرى الكتاب أن حكومة سلفادور الليندي، كانت تمثّل خط اليسار المتطرّف (على يسار الحزب الشيوعي التشيلي)، وأنها استعدت ضدها الجيش، والطبقات العليا والوسطى، وأضرّت حتى بالعمّال، الذين زعمت تمثيل مصالحهم، عبر قرارات لا يمكنها الدفاع عنها، ما جعل فكرة الانقلاب تزداد شعبية وتصبح ظرفا محتوما. لكن خيار الانقلاب العسكري الذي جرى عام 1973، من جهة أخرى، أغرق البلاد بالدماء، وأدخلها مسارا متطرّفا معاكسا استغرق 17 عاما، فرض فيه الديكتاتور حكما قتل عشرات الآلاف ومارس الاعتقالات والتعذيب والاغتيالات في الداخل والخارج (كانت حكومة بينوشيه مسؤولة عن أول اغتيال إرهابي أجنبي في الولايات المتحدة الأمريكية). أدى نضال القوى السياسية التشيلية ومظاهراتها، وتكشّف فضائح فساد متعلقة ببينوشيه شخصيا، وتغيّر الموقف الأمريكي الرسمي، إلى قناعة داخل مؤسسة الجيش، بعدم إمكان مواجهة هذه الوضعية بالطريقة الدموية نفسها، مما أنتج تسوية أطاحت ببينوشيه، لكنّها أبقت مفاتيح عديدة للسلطة والثروة بيد الجيش، حتى الآن، وهو أمر جدير بالتفكير حين نقارنه، حاليا، بما حصل في سوريا من سقوط حكم عائلة الأسد بعد 54 عاما. لم يعد السوريون، مثل التشيليين بعد سقوط بينوشيه، محكومين بتسوية تبقي سيطرة الجيش على الحكم (وعلى الثروة: 10% من دخل مناجم النحاس التشيلية تحوّل للجيش)، وهذه ميّزة كبرى، لكنّها تبيّن أيضا المسؤولية الكبرى الواقعة على النخب السورية المؤثرة التي تفرض عليهم النضال لمنع إمكانية الوقوع في ديكتاتورية جديدة.
إندونيسيا: من الإبادة إلى الديمقراطية؟
تقدّم تجربة إندونيسيا، مجالا أيضا للتفكّر والمقارنة وإجراء التقاطعات مع الأزمات السياسية العربية. بعد محاولة فاشلة لوحدات عسكرية مؤيدة للشيوعيين عام 1965، للقضاء على قادة الجيش، أدت إلى مقتل 7 منهم، بدأت المؤسسة العسكرية عمليات تطهير وإبادة جماعية تقارب الأعداد الرسمية لضحاياها 500 ألف شخص (وتصل حسب أرقام غير رسمية إلى مليوني شخص)، وهذه أحداث، مع الفارق الكبير في التفاصيل والسياقات التاريخية، تعيد تذكيرنا، في مآلاتها، بالحدث الفلسطيني الحالي، لكنّها تُحيل أيضا إلى سلسلة تاريخية طويلة للقمع الوحشي، يمكن إدراج ضحايا الاستعمار الفرنسي للجزائر فيها، وكذلك الإبادة الأسدية للسوريين، ووقائع عربية قد يكون عدد ضحاياها أقلّ على سلّم مقاييس الإجرام، لكنّها تدخل في السياق نفسه.
أنهت أحداث 1965 مسيرة زعيم الاستقلال سوكارنو، الذي كان يحاول استغلال قوة الشيوعيين للحد من قوة الجيش، وفي مصادفة مشابهة لاختيار الجنرالات التشيليين غير المحسوب لبينوشيه، وفّرت أحداث إندونيسيا الصعود لجنرال مغمور يدعى سوهارتو، وهو ما يذكرنا بوقائع عربية عديدة مشابهة، وفي سياقات سياسية متعددة. قاد سوهارتو إندونيسيا في اتجاهات سياسية واقتصادية مخالفة لاتجاهات سلفه، لكن موازنة الجيش بقيت فيها تعادل موازنة الدولة، واستمر في الفوز بدورات الانتخاب، وانغمست عائلة سوهارتو وأبناؤه في أشكال من الفساد الهائل (في تذكير أيضا بأحوال عربية معلومة)، وجعلت البلاد في طليعة الدول الفاسدة في العالم، لكنها، على المقلب الآخر، أعطت البلاد هوية، ودولة صناعية حديثة، وأعطت التطوّرات قوة سياسية متعاظمة للمجتمع، ما أدى، كما حصل في تشيلي، إلى اقتناع الجيش، عام 1998، أنه لن يستطيع احتواء الاحتجاجات، وقاد سقوط سوهارتو إلى أول انتخابات ديمقراطية «نسبيا» منذ 40 عاما، مرورا بانتقال سلمي للسلطة أفضى عام 2014 لانتخاب رئيس مدني معارض في مواجهة جنرال.
توفّر هذه القراءات المعمّقة لحالات جغرافية ـ تاريخية ـ سياسية تتوزّع على مدار الكرة الأرضية مجالا واسعا لإمكانيات المقارنة، والتعلّم، وملامسة المفارقات والتقاطعات من اتجاهات متعددة تغني الرؤية في قضايا يبدو أننا في أمس الحاجة إلى إعادة التفكير فيها، المرة، تلو المرة.
كاتب من أسرة «القدس العربي»