
حكاية البكري وجِنين في أثينا… حرب الرواية الشرسة

أمل حويجة
استقبلنا في حي أثيني عتيق، كان قد أقامَ فيه لعدة أيام فقطْ بعد وعكةٍ صحيةٍ عابرة، ومن طلتِه الأولى تشعر بأنك مع صديقك أو واحد من أفراد عائلتك، بيجاما وشعر منكوش، ثم فخرٌ بطبق المعكرونة المخبّص الذي حضّره لنا رغم الاحتجاج المرح اللطيف من رفيقة العمر السيدة ليلى التي تزيدُه طيبة ومحبة. ما كنّا قد التقيناه من قبل أنا وزوجي الفلسطيني، ولكن للفلسطينيين ميزة عظيمة، يبحثون عن بعضهم، يهتمون بخيط الحياة الجميل الذي يجمعهم مهما فرقتهم السياسة والأفكار أو الحدود.
النية زيارة اطمئنان قصيرة، لكن الساعات عبرت بحميمية، تنقّلنا من صحته إلى أفلامه ومسرحه، من محمود درويش وأبي النحس المتشائل إلى أحفاده، من أخبار الثورة السورية إلى النزوح الغزاوي، ومن مجزرةِ – جِنين- إلى مقاضاة إسرائيل وملاحقة فيلم «جِنين جِنين» لأكثر من عشرين عاما، ومن فيلمِ «جِنين جنين» في 2002 إلى فيلم «جَنين جِنين» في 2023. قال: تعمدتُ أن أسميَ الفيلم الثاني «جَنين جنين» حتى يعرف الإسرائيلي بأني أنجزت فيلماً آخر عن مجزرة 2023 في جِنين. هو التحدي المشحونُ بعاطفةٍ محمومة يشبه تحدي الطفلة نجوى بعد مجزرة جنين 2002:
-هوه صحيح هدّوا المخيم. رح نرد نبنيه من جديد ومش رح نهتم بيهم، بالمقاومة رح يبقى طول حياته شارون يحسب حساب لمخيم جِنين.
للبكري فرادة، نلمسُها فوراً، نقرؤوها في وجههِ المزين بخطوط حكايته وفي صوته الرخيم الدافئ الشبيه بالبحر وبإيقاعات الدُّفِّ في تجليه.
يقول: أنا لا أعتلي المنصة المسرحية إلّا برجلي اليمين أولاً، وقبل العرض أنعزل في عتمةِ الكواليسِ وأنا أردّدُ في قلبي، يا الله كن معي، ثم يشرح لنا مستحضراً نشوةَ الممثل التي اختبرها كثيراً في حياته المسرحية، إن تجلّى الممثلُ في الدقيقةِ الأولى من العرضِ، نجا طيلةَ العرض، وإن لا، فلا.
البكري، يهتمُ بالطلةِ الأولى، والطلةُ الأولى في لقائنا كانت مدهشةً، كما كانتْ مدهشةً وهو يعبُر الجمهور إلى المنصةِ بعد عرضِ الفيلمين (جِنين جنين وجَنين جنين) مع تصفيق يونانيٍ وعربيٍ، بدا أنه لا يريدُ أن يتوقف. مقياسُ الضغطِ في جيبه اليسار وجهازُ قياس الأوكسجين في جيبه اليمين، وإجابات فيها إصرار على كشف الحقيقةِ للجمهورِ اليوناني الذي حضر حكايةَ الحكايتين (جِنين جِنين وجَنين جِنين) حكايةَ مجزرتين يفصل بينها 21 عاما. في الأولى حملَ كاميرته إلى جِنين بعد انتهاء المجزرة مباشرة، وفي الثانية بعد أن أصيبت الفنانة فالنتين أبو عقله في ذراعها، وهما في مظاهرة سلمية من أجل إيقاف العدوان على مخيمِ جنين القريب من مدينته، فأسرع إلى كاميرته الملاحَقة من قبلِ الاحتلال وتسلل بها إلى المخيم.
ما بين جِنين والجَنين وما قبلهما وما بعدهما، وإلى الآن وحتى الآن الحرب المطحنة ليست على الأرض والكرامة فقط كما يقول، بل على الرواية.. حرب الرواية الشرسة كما يسميها المخرج الفلسطيني محمد البكري.
بحث بقلبه وعينيه عن أبطاله، وجدَ رضّعَ الفيلم الأول شباباً والأطفالَ آباءً وأمهات والرجالَ عجائز، والعجائز رحلوا وقبوراً جديدةً تزينت بالورد لشباب استشهدوا كانوا أطفالاً مرحين في الفيلم الأول. الطفلة نجوى التي عبرتْ كأم مكلومة في 2002 (لا يزال نساء فلسطين يلدن، وستنجب دائما الرجالَ الأكثر قوة وشجاعة)، أصبحت في 2023 أما لأربعة أولاد وتروي بحماسةِ طفلة. الفتى الأخرس الذي صوَّر مجزرة في بيته بكلّ ما يملك من طاقة للتعبير بيديه وجسده، صاراً أباً يروي مع أبنائه وقائع المجزرةِ الجديدة. الأبُ الذي كان يدور بولديه التوأم ليجد لهما مكانا آمنا في خيمةٍ فارغة نراهما الآن وقد أصبحا شابين لطيفين يرويان لكاميرا جَنين جِنين الحكاية كما لو كانت قدراً.
سأل البكري الطفلَ الذي يحملُ وردة جوار قبر أبيه منذ21 سنة
– وين أبوك؟
– في الجنة.
وهكذا أجاب أيضاً وهو شاب في 2023.
يأخذ محمد البكري شهيقَه ويزفرُه على المنصةِ بعد عرض الفيلمين للجمهور اليوناني، الذي تابع باحترام وصمت حكايةَ الحكايتين، حكاية العدالة، العدالة التي تُرجمت على لسانِ الطفلة ذات السنوات التي لا تتجاوز أصابعَ الكفين المرفوعتين إلى السماء.. (صحيح أنا طيبة وبحب الناس، بس هدول مابينحبوا، نحن ندافع عن أرضنا، هاي أرضنا، هي إبنّا وأمنا وكلشي عنا).
طائرةٌ وطبول وأبواق تستغيث، طفلٌ ينادي من بعيد، جرافات، إسعاف وديك يصيح..
القطة هي الشاهد على كلِّ الجرائم، تبحث عن أصدقائها بين الركام من حيوانات وبشر. يقول أكرم أبو سباع في 2002 الرجلَ الذي كان ساخراً من كلَ ما يجري ثم استشهد:
– يطخون كلَّ شيء، القطط، الأطفال، الشيوخ. معاقون استشهدوا عنا.
نقراتُ قيثارة يتلفت معها شاب بعيون مرتابة، تائهة، غير مستقرة، ينفث الدخان، ويترقب أمراً مبهماً. صغيرتان بلباس مدرستهما تضحكان للكاميرا الضيفةِ الآمنة، يمازحُهما الجد:
تتصوروا؟
وتعنُّ الكمنجا مع دخان سجائر الرجال الصامتين أمام خراب منازلهم.
يقول البكري:
إسرائيل ديمقراطية لليهود ويهودية للعرب
بحةُ ناي وهمهماتُ مغنية، أشبه بصوت اليونانية أيرين باباس في الأوديسة، ولن يَصعب على الجمهور اليوناني، ولا علينا أن نربطَ ما بين حربين تراجيديتين وإن فصل بينهما بحرٌ وبعضُ قرونٍ من التاريخ. تتلاحقُ غصاتُنا المجبولة بالغضبِ أمام الشريط السينمائي، ونحن نتابع الشهاداتِ والأسئلة الوجودية.
– الاحتلال الوحيد في العالم الآن هو احتلال فلسطين
– والله كنا قادرين أن نعيش معهم
ويكمل البكري: ولكن بعد كل هذه المجازر ماذا نقول؟؟!!
لقد تقصد البكري أن يستحضر أغلبَ الآلات الموسيقية في فيلمه مع ترنيمات بشرية لا تناجي الضمائر الغافية فقط بل تناجي الكون.
-هناك قمر، ليذهبوا إلى القمر ويعيشوا هناك
الأدلة على أن هذه الحرب غير أخلاقية هي الهدف والرسالة من مغامرتَي البكري، وهذا ما أفقد محاكمَ العدو صوابَها وجعل رئيسَ إسرائيل السابق يستدعي المخرج ويطلب منه أن يحتفظ بالفيلم الثاني في الأدراج..
طبيب:
ـ أنا الدكتور الوحيد هنا، أسعفت الكثير من الأهالي، وعندما قنصوا طفلي لمْ أستطع اللحاق به لأسعفه.
سيدة
ـ طخوه ودارت الدبابة فوقه حتى التصقَ بالأرض
أم
ـ كنت حاملاً وأستعد للولادة لكنني أنجبت الولد بقيصرية لأن العدو أطلق على قدميَّ الرصاص وأنا واقفة أمام باب داري..
مسن:
أطلق الجندي النار على كفي هذه وأنا أعتلي الدرج، ثم على قدمي لأنني لم أتمكن من مغادرة المكان فورا بعد إصابتي.
جار
– أرادوا جرفَ المنزلِ وفيه معاق عاجزٌ عن إنقاذِ نفسه
رجلٌ قبلَ أن يكون شهيداً:
– هم لا يريدون معاملتنا كالبشر، ولا حتى كحيوانات، الحيوانات تعوي عندما تسجنها نحن ممنوعون حتى من العواء..
ويقول البكري متذكرا شهداءَ الصحافة:
ـ يضربون الكاميرا لأنهم لا يريدون للعالم أن يعرف ما يجري
يلعب الأولاد مع الموت في فيلميه، بلا خوف، تعوّدوا على حضوره اليومي، يقفزون على – سطارة- الموتِ الخشبية بدلاً عن الأراجيح، ويتبادلون تمثيل دورَ الشهيد وهم يكركرون ويضحكون.
الشهيد:
-لقد صار الأولاد أقوياء في وجه الموت
ويضيف البكري للجمهور الأثيني:
ربما يجدون فيه خلاصا، صارت الجنة هي أقصى أحلامهم لأن لا وجود لوحش الاحتلال فيها.
ويضيف: الأطفال يحلمون بالحرية وبدلاً من أن يكونوا ممثلين على خشبات المسارح يدفعُ بهم الاحتلال دفعاً إلى المقاومة.
تقرعُ الدربكات والطارات، ويحاكي الطبل نبضاتِ القلب ويزفرُ هورن الكنائس ويهزٌّ التشيلو أوتارَ الروح، يرتب النملُ بيتَه ودروبَه وتسجلُ الكاميرا الرواية، كما هي بلا زينة، نقراتُ بيانو وقمرٌ شاحب، صرخةُ طفلةٍ غاضبة وكلب يعوي وياه ياه ياه بصوت البكري كما لو كانت رعداً مقبلا من سابع سماء.
همست ليلى عندما شعرت بضيق في تنفسه وهو على المنصةِ وهي بين الجمهور قالت (ضع الأوكسجين) وكيف يسمعها وهو يتورَّد مع من يسمع ويصدقُ كامل الرواية!
ـ إن ما رأيتموه في غزة خلال هذين العامين يحدث في فلسطين منذ 1948
ثم يؤكد البكري، أن حرب الاحتلال مع فلسطين هي حرب الرواية.
في 1948 قالتْ إسرائيل للعالم أتينا إلى أرض لا شعب فيها، وكانت كاذبة.
لقد أتوا أرضا فيها مجتمع مدني وفلاحي مزدهر جدا، مدينة يافا كان فيها سبع دور سينما ومسارح وثلاث صحف وأربع مجلات وكانت مركزا ثقافيا واقتصاديا بفضل مينائها، حربنا مع الاحتلال هي حرب الرواية. وفي لحظةٍ مؤثره أشبع رئتيه بالهواء ورفعَ إصبعي النصر وصاح: تحيا فلسطين
وهدرتِ الصالة بالتصفيق، سأله أحد الحضور اليونان عن محاكمة إسرائيل، وعن الغرامة الكبيرة التي دفعها، أخذ نفساً عميقاً وأجاب:
ـ لن أتكلم.. فما يجري الآن على شعبي في غزة أهم مما جرى معي بكثير.
محمد البكري خفيفُ الظلّ، المرح، لم يفته نقلَ هذه الروحِ إلى الفيلم رغم مافيه من وجع، يقول للطفلة التي تحدت شارون:
هل تستطيعين أن تتغلبي على شارون إنه أكبر منك
تبتسم:
نعم..
وتمد طفلة أخرى لسانها للكاميرا ثم تكركر مع رفيقتها، يسألها البكري:
– لو توفر لك مبلغ كبير من المال ماذا ستفعلين به؟
ويكون الجواب:
ـ سأشتري دماً للجرحى، لأن أنا ما عندي دم لأتبرع به
يمازحها
ـ ما عندك دم؟
تبتسم
-عندي، بس مش كتير..
يقول: نحن خلقنا كي نعيش وليس كي نستشهد.
يسخر الأهالي من الصمت الدولي، يستبدلُ أحدهم التلفون بالحذاء ويتصلُ برجالات العالم المتخاذل.. ويضحكون
البكري: لو وضعت الكاميرا في الساحة وتركتها من دون أي سؤال لوقفوا أمامها وتحدثوا ليرووا روايتهم.
وهذا ما نلحظه من راوي أحداث الفيلم الثاني، الفنان أحمد الطوباسي، يتدفقُ معه الكلام وهو وحيد على المنصة مسرحِ الحرية في جِنين، يسابقُ الزمن في نقلِ الحقيقة بفراسةِ الفنان الذي يدرك أن هذا المسرح سينالُ من القصف ما نالَه الحجرُ والبشر، وهذا ما حدث بالفعل.
طلب فتى غزاوي أثناء الحوار مع المخرج تصوير فيلمٍ عن غزة وطالبت صبية أخرى بعد زغردات فلسطينية فيلماً عن كلّ فلسطين..
فأجاب:
– في كل بيت في غزة عشرات القصص ومهما حاولنا مارح نقدر نغطي 10 بالمليون مما حدث، الله يعطيني القوة وما منعمل فيلم عن غزة فقط، بل عشرات الأفلام.
يصفقُ الجمهور اليوناني تضامناً ليس مع الفيلمين فقطْ بل مع القضية الفلسطينية التي طالما عبر الشعب اليوناني عن تضامنه معها، فلقد تذوق هذا الشعب الحي في تاريخه طعم الاحتلال ومقاومةَ الملكية والديكتاتورية. لهذا لم يتوقف اليونانيون عن التظاهر أمام السفارتين الأمريكية والإسرائيلية منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، استنكاراً لما يحدث في غزة من إبادة جماعية منظمة.
قال البكري ممازحا:
اليونانيون فلسطينيون لكنهم يتحدثون اليونانية.
ودوت الصالة بالتصفيق من جديد
توافدَ المعجبون إليه بعد الانتهاء من الحوار، هناك من يريدُ أن يضمّه ومن يريدُ أن يأخذ صورةً تذكارية معه، ومن يريدُ أن يهديه رمزاً فلسطينيا، لمْ نكن راغبين بتركه بعد الفيلم، ولا هو راغبٌ بالعودة من دون محبيه، وضع جهاز الأوكسجين ثم اقترحَ أن نتشارك العشاء وحدد الوجبة (بيض وفِقيع وفليفلة). واجتمع المحبون، وكنا خليطاً من فلسطين ولبنان وسوريا واليونان وحضرنا العشاء مع ليلى، المشكلة ليست في الشعوب كما عبرّ مرة، الشعوب محبة ومتضامنة. سمعنا حكايات طفولته في عكا، تعلقه بالمسرح وهو شاب، دراسته الأدب والتمثيل في تل أبيب «يافا» وتخرجه 1973، حبه ليلى بالبساطةِ والظرافة ذاتها التي يروي فيها كلّ حكاياته في أفلامه ومسرحه، بالروح نفسها التي يمثّلُ فيها. السرُّ اللغز في هذه الموهبة، أن البكري يعيشُ فنه، لا يمثل.
نودعُه ولسنا راغبين والوعد بلقاءٍ قريبٍ كان أملَنا، نلوّح له وهو على باب البنايةِ وصدى صوتِه يتردّدُ في صدورِنا:
تحيا فلسطين.
كاتبة سورية