ثقافة وفنون

عن أزمة الثقافة الجماهيرية

عن أزمة الثقافة الجماهيرية

إبراهيم عبد المجيد

أثار قرار وزير الثقافة بتعيين اللواء خالد محمد عوض اللبّان، رئيسا للهيئة العامة لقصور الثقافة، تعليقات بعضها صامت بنشر الخبر مع علامة تعجب، وبعضها يدين الوزير على تراجع في الثقافة في نواحٍ عديدة. كان مبرر الوزير للتعيين، أن الرئيس الجديد القادم من النيابة الإدارية، سيعمل على إنهاء الفساد الذي انتشر في الهيئة وكثرت الشكاوى منه. أثار الأمر تساؤلات عن التدهور في هذه الهيئة، التي بالمناسبة كان اسمها الأقدم عند نشأتها «الثقافة الجماهيرية» ويشير إلى هدفها، وهو نشر الثقافة بين الجماهير. سأقول شيئا مما عشته أنا في الثقافة الجماهيرية، وليس في الأمر دفاعا عن الوزير أو الرئيس الجديد للهيئة.

لقد عملت بها حين وفدت لأعيش في القاهرة عام 1974 حتى أحلت إلى التقاعد عام 2006 ورأيت كل ما جرى ذلك الوقت، رغم غيابي عنها سنوات طويلة للعمل في هيئة الكتاب أو السفر. حين بدأت العمل بها كانت قصور الثقافة في كل البلاد شعلة من النشاط الثقافي، ففيها جماعات للقصة وجماعات للشعر والمسرح والسينما والفن التشكيلي، وما تشاء من سائر الفنون. قصور الثقافة تصل إلى أكثر من مئة وخمسين قصرا، بينما بيوت الثقافة تزيد عن مئتي بيت تقريبا. في كل قصر للثقافة صالة للمسرح والسينما والفنون التشكيلية ومكتبة للاستعارة والقراءة، وكلها حافلة بالناس. كان هناك مهرجان المسرح السنوي يقام في القاهرة، تجتمع فيه الفرق المسرحية من كل المحافظات، يتم فيه عرض خمسين مسرحية أو أكثر. أما نوادي القصة والشعر فكانت فيها أسماء سطعت في حياتنا من كل البلاد. أنا مثلا من جماعة القصة في قصر ثقافة الحرية في الإسكندرية، ومعي أسماء مثل مصطفى نصر وسعيد سالم ورجب سعد السيد وغيرهم كثير، لمعوا في فضاء الثقافة معنا أو بعدنا. كانت تدير قصور الثقافة أسماء لامعة في سائر الفنون، كثير منها رحل عن دنيانا لذلك سأقتصد، حتى لا أقيم خيمة من الحزن حولي على أيام جميلة عشتها معهم أو بينهم. حين صارت هناك شكوى من الأدباء في الأقاليم، بسبب تهميشهم، دشن سمير سرحان الذي كان يدير الجهاز وقتها، مؤتمرا سنويا لأدباء الأقاليم، تغير اسمه في ما بعد إلى مؤتمر أدباء مصر ابتعادا عن كلمة الأقاليم، وما زال يعقد كل عام.
أتذكر ليالي رمضان بسبب اقتراب الشهر الكريم، وكيف كانت السهرات الفنية وطوابير الحضور في قصور الثقافة، وكيف كنا في القاهرة نقيم احتفالا ليليا في حديقة الدراسة، التي صار فيها مبني الأزهر الآن، يتم فيه تقديم مسرحيات أو غناء لفرق فنية شعبية أو لمغنين في بداياتهم. أتذكر طواف المسرحيات بكل المحافظات. أتذكر النشاط العظيم للمخرج أحمد إسماعيل ومشروعه «مسرح الجرن» الذي كان يقيم عروضه المسرحية في الريف ومن أبناء القرى.

التغير بدأ مع نهاية الثمانينيات إلى الخلف شيئا فشيئا، لكن ليس بقرار من أحد. أول مظاهره كانت تغير عقول بعض قيادات قصور الثقافة، وتلفعهم بعباءة الفكر الإخواني والسلفي، حتى إن بعضهم منع الفن التشكيلي لأن ذلك حرام. وقس ذلك على باقي الفنون. ثاني مظاهره ظهور القبضة الأمنية شيئا فشيئا. سأذكر واقعة دالة حدثت معي. في بداية التسعينيات وأنا أعمل مديرا لإدارة الثقافة العامة، كان من مشاريعنا تبادل الليالي الشعرية بين البلاد. بمعنى حضور شاعر من محافظة إلى محافظة أخرى والعكس. أذكر أني وجهت الدعوة للشاعر فوزي خضر، الذي هو الآن شاعر وكاتب للمسرح الشعري والرواية ومؤرخ، ويحمل لقب الدكتوراه، أن يأتي من الإسكندرية ليقيم ندوة شعرية في السويس. ولأن بيننا صداقة عمر، قررت أن أقابله في محطة قطار رمسيس في القاهرة، وأصحبه في سيارتي إلى السويس، وأمضي الليلة معه. على مشارف السويس توجد بوابة للعبور رأيت ضابطا شابا واقفا هناك، سألني «رايحين فين». قلت له باسما «السويس طبعا». قال «أعرف. لكن فين في السويس وليه؟» عرّفته بنفسي وبفوزي خضر فقال «هو أنتم؟ طيب اتفضلوا» اندهشت جدا. وصلت إلى قصر ثقافة السويس فوجدته محاصرا بقوات من جنود الأمن المركزي. سألت مندهشا مدير القصر، ما هذا الأمن؟ وهل الضابط الذي سألنا عن وجهتنا جاء من أجل ذلك، فقال لي «لا بد أن أخطر الأمن بأي نشاط. هذه هي التعليمات التي عندي ولا أستطيع أن أهملها»، كنا نعرف دائما أنه يمكن أن يكون من بين حضور أي نشاط، شخص مجهول مُرسل من الأمن ليكتب تقريره، لكن أن يصل الأمر إلى محاصرة القصر بقوات أمنية، كان أمرا لا يمكن استيعابه.

طبعا هذا لم يكن يحدث في كل قصور الثقافة، لذلك لا يمكن القول بأنها تعليمات من قيادات الثقافة العليا، لكنها في الأغلب تطوع من بعض العاملين، تماما كالتغير الفكري الذي لحق بكثير منهم. بعدها قررت عدم الاستمرار في العمل، فنقلت نفسي إلى هيئة الكتاب للعمل مع سمير سرحان، الذي كان قد انتقل لإدارتها. هذا الجو المحاصر بالأمن من جهة، وبالإخوان المسلمين الذي لم ينجُ منهم حتى وزير الثقافة فاروق حسني نفسه، حين انتقد الحجاب، كانا من الأسباب الرئيسية في تراجع هذه الهيئة. أما عن الفساد فسأضيف حادثة أخرى. عدت من هيئة الكتاب عام 2001 إلى الثقافة الجماهيرية لأتولى إدراة أطلس الفلولكلور، وهي إدارة أقيمت لجمع الحكايات التراثية الشعبية وأماكنها، وتقديم كتب بالصور لكل شيء. حين توليتها لم يكن قد صدر منها أيْ أطلس، رغم مضي سنوات على نشأتها. عرفت أن هناك فسادا فكتبت مقالة في جريدة «العربي الناصري» وقتها بعنوان «ليس بلاغا للنائب العام» تحدثت فيه عن الفساد الإداري ومظاهره، التي أخرت ظهور أي أطلس، رغم أن لجنة العمل من غير الموظفين هي من مشاهير الأساتذة في التراث والفولكلور قاموا بكل إخلاص بالعمل، وقلت أنا لا أقدم بلاغا، إلا إذا أراد النائب العام التحقيق، حتى إذا تركت مكاني لا أتحمل أي مسؤولية، ولم يحدث أي تحقيق. من المهم الإشارة إلى أنه منذ تعيين حسين مهران رئيسا للهيئة مع بداية التسعينيات وحتى محرقة بني سويف، تعاقب على الهيئة رؤساء بعيدا عن رغبة فاروق حسني وزير الثقافة نفسه، بتأثير جهات نافذة في الحكم. آخرهم مصطفى علوي الذي جاءت به لجنة السياسات، وحدث في فترة إدارته حريق مسرح بني سويف البشع عام 2005.

جاء لرئاسة الهيئة بعد ذلك، الفنان أحمد نوار الذي عملت معه سنة، كانت من أجمل السنين، أصدرنا فيها أول أطلس عن «الخبز»، ثم صدر أطلس آلات الموسيقى الشعبية، بعد أن تقاعدت من العمل، ثم لم أعد أسمع عن هذه الإدارة ولم يصدر منها شيء آخر، ولا أعرف السبب. إيقاف هذا المشروع يظل خطأ كبيرا. بعد ثورة يناير/كانون الثاني، صار من يديرون الثقافة الجماهيرية يتغيرون بسرعة مع تغير الوزارات، وكان آخرهم الكاتب والمترجم محمد عبد الحافظ ناصف صاحب الخبرات الكبيرة في العمل الثقافي، الذي قام مؤقتا بعمل رئيس للهيئة، ثم صار مساعدا للرئيس الجديد، بعد قرار الوزير، أعرف قيمتهم العلمية والثقافية، رغم بعدي عن هذا الجهاز وغيره منذ سنوات طويلة.
هذه الإطلالة على بداية تردي الثقافة الجماهيرية تحيلني إلى قضايا تخص الثقافة بشكل عام وهي كثيرة، منها توقف مؤتمر الرواية أو الشعر العربي، الذي كان يديره المجلس الأعلى للثقافة، وكان هذا من الانتقادات التي نالت الوزير، إذ لم يظهر له جهد في عودة المؤتمرين.. وزيرة الثقافة الأسبق الفنانة إيناس عبد الدايم دشنت مشروعا بعنوان «سينما الشعب» أرادت به إحياء قاعات السينما الخالية بقصور الثقافة، لكنها غادرت الوزراة بعدها بأسابيع، ولم نسمع عنه شيئا. في النهاية لا أقف عند من جاء ليدير الهيئة، لكن المهم أن يعود ما غاب عنها وعن الثقافة بشكل عام. أتمنى طبعا فلم يعد لي إلا الأمل.

كاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب