
«ابعد عن الأحمق وغني له»

د. ابتهال الخطيب
استكمالاً لموضوع المقال السابق حول التفاهة الآخذة في سيادة العالم والتي تنتج غباء خطيراً سيقود البشرية، بلا أدنى شك، لهلاكها المحقق؛ أقدم هنا ترجمة لمقطع مهم جداً من كلمة حاكم ولاية إلينوي جي. بي. بريتزكر، التي قدمها في حفل تخرج دفعة سنة 2023 من جامعة نورث وسترن، ملمحاً من خلالها تجاه الرئيس الأمريكي. يربط بريتزكر في كلمته بين الغباء والفشل في الحياة، مؤكداً على الشباب والشابات الجالسين يستمعون له، أن إذا أردتم تحقيق النجاح فعليكم بتمييز الأغبياء أو العنصريين، بحسب إسهابه اللاحق في التوصيف، بغرض تجنبهم وآثارهم السامة على الحياة. وبحسب تحليل بريتزكر في كلمته، فإن الغباء ينتج عن الخوف من المختلف والحكم عليه مسبقاً، وهو ما يشكل جزءاً من عملية التطور التي ساعدت الإنسان الأول على البقاء. إلا أن الاستمرار بهذا المنحى بصبغته العنصرية والاستسلام للغريزة الأولية الحيوانية في أنفسنا سيبقينا في حالة بدائية ويعطل تطورنا كبشر. يقول بريتزكر (وكل الترجمة الواردة في المقال هي لي): «إذا أردت أن تكون ناجحاً في الحياة، عليك أن تطور نظاماً لكشف الغباء خاصاً بك. أفضل طريقة لالتقاط الشخص الأحمق هو معرفة الشخص القاسي غليظ القلب. دعوني أوضح: عندما نصادف أحداً لا يبدو على مظهرنا أو لا يتحدث مثلنا أو لا يتصرف مثلنا أو لا يحب مثلنا أو لا يحيا مثلنا، فإن أول فكرة تخطر على بال الجميع تقريباً تكون متجذرة في الخوف أو الحكم المسبق أو كليهما. هذا منحى تطوري. نحن نبقى ونستمر كجنس بشري عبر كوننا مرتابين بالأشياء غير المألوفة لنا. لكي نكون رؤوفين، يجب علينا أن نعطل هذه الغريزة الحيوانية ونجبر العقل على المضي في طريق مختلف.
هذه العملية التطورية تدخل في الواقع في تشكيل دقائق حياتنا اليومية، بل وتتداخل وتشكيل قيمنا وأخلاقياتنا وسلوكياتنا، التي يتطلّب تطويرها مقاومة الحالة البدائية وغريزة البقاء والدفع بالحالة الذهنية إلى مقاومة الخوف من والحكم على المختلف. يكمل بريتزكر في هذا السياق قائلاً: «التعاطف والرحمة هي حالات متطورة من الوجود. هي تحتاج إلى القدرة الذهنية للذهاب لأبعد من أقوى نزعاتنا البدائية. قد يكون ذلك تقييماً مفاجئاً؛ لأنه في مرحلة ما من المسير، إبان السنوات القليلة السابقة، اتجه مجتمعنا للاعتقاد بأن القسوة المسلحة جزء من خطة رئيسية ما جيدة الإعداد. ينظر للقسوة أو الغلظة من قِبل البعض على أنها هراوة متقنة الصنع تساعد على اكتساب القوة. التعاطف والدماثة ينظر لهما على أنهما علامتا ضعف. ينظر الكثير من الناس المهمين للضعفاء فقط على أنهم درجات على سلم الصعود للقمة. أنا هنا لأخبركم أنه حين يوسم طريق أحدهم في هذه الحياة بأفعال قاسية، فهم بذلك رسبوا في أول اختبار للمجتمع المتطور. هم لم يجبروا عقولهم الحيوانية على التطور لأبعد من غريزتها الأولية. هم لم يشكلوا طرقاً ذهنية جديدة للتغلب على مخاوفهم الغريزية، ولذلك فإن تفكيرهم وطرق حلهم للمشاكل سوف تفتقد إلى الخيال والإبداع التي يمتلكها بوفرة أكثر الناس رحمة ورأفة. إبان سنواتي الكثيرة في مجالي السياسة والاقتصاد، وجدت شيئاً واحداً يشكل حقيقة عالمية: أكثر الأشخاص رحمة ورأفة في القاعة هم أكثرهم ذكاء».
حقيقة، نرى تجلي هذه البدائية رضوخاً لغريزة البقاء الأولية في منطقتين بشريتين أكثر من غيرهما: في الملعب السياسي حيث تتبدى أسوأ صور التمييز محمية بأكثر الأدوات بدائية، وفي التجمعات الرقمية الضخمة المتمثلة في وسائل التواصل حيث تتوافر مساحات مفتوحة على إطلاقها دون غربلة أو تمييز. وهكذا نجد أن حاكماً مثل ترامب، على سبيل المثال، موصوم بالغباء باستمرار؛ ذلك أنه لم يستسلم لغريزته البدائية في الكراهية والنفور من «الآخر المختلف» فحسب، بل إنه لم يخجل من التعبير الصريح والمريع عن ذلك. وهكذا انقلب ترامب في زمن قصير على مكتسبات قضت البشرية سنوات مطولة في بنائها، سواء كانت مكتسبات حقوقية، أم جندرية، أم مدنية، أم سياسية. ورغم أن ترامب يبدو الآن على قمة النجاح، لكن الحقيقة أنه ينزلق في منحدر خطر ساحباً معه المجتمع الأمريكي بأكمله بحسب كلمة المؤثر على وسائل التواصل، إزرا كلاين، التي ينذر من خلالها بفشل ترامب القادم وبأسلوبه الإعلامي الغريب والخطير الذي يوهم من خلاله الناس بأنه ناجح، ومؤثر، وذو سلطة هو فعلياً لا يملكها. كل دكتاتور في العالم لا بد أن يتصف بالغباء شكلاً وموضوعاً، لا يبدو أن هناك مفراً من ذلك. ولأن ليس كل ما يعرف يقال، فكروا بعض الشيء معي بسياسيي العالم الذين يقودون بالحديد والنار، الذين يكممون الأفواه ويخوفون الناس ويفتحون المعتقلات ويؤذون الشعوب. تذكروا أشكالهم وتذكروا أقوالهم، ما الذي ترونه مرسوماً على جباههم؟
أما وسائل التواصل، فلربما هي منبع الغباء كله حالياً باحتضانها كل مشاهد التعنصر والقسوة والتنمر. يفتخر الكثيرون ببذاءتهم وقسوتهم على منصة إكس على سبيل المثال، بل ويعرفون أنفسهم بها في صفحاتهم التقديمية، وهم نوعية لا يمكنك أن تخطئها: عنصرية كارهة للمختلف، عندها شعور بفوقية عرقية أو قومية أو أصولية، متمسكة حد البله الخالص بالأفكار القديمة تجاه الأصل والجنس ومقاوِمة بوحشية وبلادة كل فكرة تطورية بشرية، متشفية دائماً في آلام الآخرين، غير قادرة على التواصل العاطفي مع مآزق ومتاعب وأحزان المنكوبين إذا ما كانوا مختلفين. غلاظ القلب قبيحو اللسان هم هؤلاء، يرشون الملح على الجرح ولا يتوانون عن إيلام الآخرين بكلمات قد تحرق قلوبهم أو تفسد سمعاتهم أو تؤذي أرواحهم في أعماقها، هم عنصريون حد نخاع، لم يطالهم أي تطور بيولوجي أو سيكولوجي، حيث تتجلى عنصريتهم في كل منحى من الحياة: عرقياً، قومياً، لسانياً، لغوياً، جنسياً، جندرياً، تجاه الأجانب في مجتمعاتهم، وتجاه الفقراء، بل وحتى تجاه الأقل حظاً في الشكل أو من يعاني مرضاً أو إعاقة. هم أشخاص كريهون، غليظو اللسان، تنزلق عنصرياتهم وغباؤهم على وجوههم فتزيدها فوق قبحها قبحاً.
الخلاصة: من يرد أن ينجح في الحياة، فعليه أن يتجنب هؤلاء الأغبياء، وطبعاً من باب أولى أن يتجنب غباء نفسه بحد ذاتها، وأن يقاوم نزعته البدائية بالخوف من والحكم على المختلف، وأن يفتح قلبه وعقله لمنحى تطوري يأخذ البشرية من حيوانية بدائية إلى إنسانية تطورية تضم الجميع وترحب بالجميع وترحم الجميع. تطورنا النفسي والعقلي هذا، الرحمة والرأفة بالآخر والقبول بالمختلف والتخلي عن فكرة الاستقواء الجسدي أو اللفظي، هو ما سيساعدنا على تجاوز غريزتنا البدائية، فيبعدنا مسافة آمنة عن العنصرية وعن الأحمق الذي لا يزال يمارسها. وبالتالي ربما، أقول ربما وأنا لا أعتقد حدوث ذلك، سينجو جنسنا من الغباء وعنصرياته، ثم من الفناء.