لويس صليبا في «فؤاد شهاب ما له وما عليه»: كان رئيساً لبنانياً إصلاحياً أنشأ دولة المؤسسات المبالغة في التشدد الأمني

لويس صليبا في «فؤاد شهاب ما له وما عليه»: كان رئيساً لبنانياً إصلاحياً أنشأ دولة المؤسسات المبالغة في التشدد الأمني
سمير ناصيف
في ضوء تأليف حكومة لبنانية جديدة برئاسة الدكتور نواف سلام، وبعد انتخاب رئيس جمهورية من خلفية عسكرية إصلاحية للبلاد، وهو الرئيس جوزف عون، ولكون المسؤولين الأثنين الجديدين هما من المؤمنين بالإصلاح ومكافحة الفساد وبإنشاء دولة المؤسسات، فإن هذا التطور يطرح سؤالاً حول إلى أي مدى بإمكان هذه الدولة المفترض أن تنشأ أن تتأثر وتستفيد من الاختبار الذي تحقق في لبنان تحت قيادة الرئيس الراحل الجنرال فؤاد شهاب، الذي ترأس الجمهورية اللبنانية بين عامي 1958 و1964 ووضع الأسس لدولة المؤسسات آنذاك واستمر بعد ذلك، حتى وفاته في عام 1973، مراقباً ذا نفوذ في فترتي رئاسة شارل حلو 1964 ـ 1970 وسليمان فرنجية في الفترة التي عايش شهاب هذه الرئاسة بين عامي 1970 -1973 علماً ان عهد رئاسة فرنجية استمر حتى عام 1976.
صدر مؤخراً كتاب للباحث في الشؤون اللبنانية وفي العلوم السياسية وعلوم الأديان الدكتور لويس صليبا تحت عنوان «فؤاد شهاب: ما له وما عليه، قراءة في تجربة حكم رائدة في تاريخ لبنان المعاصر» استند فيه صليبا إلى مجمل ما كُتب ومقالات وأطروحات أشرف عليها مع آخرين في دوره كأحد المشرفين على أطروحات الدكتوراه في هذه الشؤون في جامعة القديس يوسف في بيروت (لبنان) في السنوات الماضية.
المقاربة الأساسية في هذا الكتاب هي أن معظم الأطراف السياسية في البلد أيدت شهاب في سنتي حكمه الأولى وكانت إيجابية إزاء خطواته الإصلاحية التي تمخض عنها إنشاء مجالس ومؤسسات دولة لضبط التعيينات في المناصب الحكومية والإدارية ومكافحة الفساد وتعزيز التطور الاجتماعي والتلاحم بين أبناء الطوائف اللبنانية المختلفة. إلا أن كثيرين من السياسيين ورجال الإعلام البارزين الذين أيدوه في فترة حكمه الأولى انقلبوا عليه وأصبحوا خصوماً له بسبب ممارسات الأجهزة الأمنية والاستخباراتية التي أنشأها وعززها شهاب وفي طليعتها جهاز سمي «المكتب الثاني» ارتكب عددا من التجاوزات في مراحل مختلفة وخصوصاً خلال الانتخابات الاشتراعية في البلد التي كان يتدخل فيها لمصلحة المرشحين المؤيدين للرئيس شهاب ويمارس ضغوطاً ضد المرشحين من خصومه وأنصارهم وصلت إلى حد التعدي عليهم.
وتفاقمت الخصومة بين شهاب ومعارضيه بعد مناسبتين أساسيتين حدثتا آنذاك هما اغتيال النائب نعيم مغبغب في 27 تموز/يوليو عام 1959 وعلى إثر محاولة الانقلاب التي نفذها «الحزب السوري القومي» في 31 كانون الأول/ديسمبر من عام 1961، علماً ان مغبغب كان من كبار وأرباب مؤيدي وحلفاء الرئيس الذي سبق شهاب كميل شمعون والذي ترأس لبنان بين عامي 1952 -1958 وخرج على إثر انتفاضة شعبية ضد التجديد له لدى انتهاء ولايته. كذلك يذكر المؤلف أن بعض الجهات اتهمت شمعون ومقربين منه وعدداً من حلفائه بدعم انقلاب «الحزب السوري القومي» بالتحالف مع دول عربية مجاورة سراً.
ونشأ خلال تلك الفترة تحالف معارض لشهاب ضم شمعون ونائب جبيل ريمون أده ورئيس حزب الكتائب بيار الجميل شكل قوة فاعلة ضده.
وبالتالي، تشدد «المكتب الثاني» في «محاولاته لتخويف خصوم الرئيس شهاب إلى درجة الاعتداء الجسدي على بعضهم كالصحافي ميشال أبو جوده وهدفها كان الترهيب وليس القتل لمن تسول له نفسه معارضة النظام الشهابي» حسب ما اعترف به أحد كبار مسؤولي المكتب الثاني كابي لحود في مقابلة مع الصحافي غسان شربل أجريت في عام 1998 ونُشرت في مجلة «الوسط». وقد أورد صليب ما ذُكر فيها في الصفحة 346 من كتابه.
وهذه الممارسات الأمنية بالإضافة إلى تطورات سياسية أخرى بينها استقالة شهاب من الرئاسة وعودته عنها في تموز/يوليو عام 1960 دفعت بعض الصحافيين والسياسيين النافذين إلى تعديل مواقفهم المنددة بشهاب بحيث شبهه الصحافي ميشال أبو جودة آنذاك بالجنرال الفرنسي ديغول وطالبه بعض خصومه، وبينهم النائب ريمون أده، بالعودة عن الاستقالة، ففعل ذلك. ولكن شهاب رفض التجديد في رئاسة الجمهورية في عام 1964 الذي كان متاحاً له، وفضّل اختيار دعم سياسي مقرب منه ولكن لا يهدد نفوذه في البلد، فاختار دعم الرئيس شارل حلو الذي انتخب رئيساً، ولكن تحالفه مع شهاب تبدل خلال منتصف ولايته وذلك (حسب قول الكاتب) بسبب سخطه إزاء التدخلات المكثفة لـ«المكتب الثاني» في شتى الشؤون الرئاسية. وعندما أُجريت الانتخابات الاشتراعية في أواخر الستينيات في لبنان، لم يعارض حلو عودة انتخاب بعض كبار قادة الحلف الثلاثي كنواب في المجلس النيابي ما أغضب شهاب الذي شعر بأن حلو قد خان الدور الذي أوصله إليه شهاب.
بيد أن شهاب استمر في دفع مؤيديه في السلطة اللبنانية إلى اتخاذ المواقف المتجاوزة لمواقف حلو في بعض المناسبات الهامة ومنها توقيع قائد الجيش اميل البستاني على اتفاقية القاهرة مع الرئيس جمال عبد الناصر في عام 1969، التي كان حلو متردداً بشأنها فيما كان رئيس الحكومة رشيد كرامي ونواب النهج الشهابي ما زالوا على ولائهم بشأنها للرئيس شهاب. علماً ان اتفاقية القاهرة ألغيت في 15 حزيران/يونيو عام 1987 في عهد الرئيس أمين الجميل.
ويشير الكاتب أن جريدة «النهار» وبشخص رئيس تحريرها الراحل غسان تويني لعبت دوراً هاماً في منع إعادة انتخاب فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية في عام 1970، فيما تقول الأوساط الشهابية (حسب المؤلف) إن الرئيس شهاب لم يكن يرغب بالترشح لذلك المنصب آنذاك ولكنه ندم على ذلك بعد المعاملة السيئة التي تعرض لها وتلقاها ضباط «المكتب الثاني» في عهد الرئيس سليمان فرنجية الذين اضطروا إلى مغادرة لبنان تجنباً للمحاكمة وربما الزج في السجن ومنهم مَن لجأ إلى سوريا لسنوات قبل عودتهم وصدور قرار التراجع عن محاكمتهم وإعادتهم إلى الجيش.
كما أنه وحسب ما يذكر الكاتب في الصفحة 363 فإن «سكوت شهاب عن أخطاء (المكتب الثاني) دفعت غسان تويني وجريدة (النهار) لمعارضته وشن حملة ضده فامتدحت سليمان فرنجية ضد المرشح الشهابي الياس سركيس لمنصب الرئاسة عام 1970. وقد فاز فرنجية آنذاك بفارق صوت واحد عن سركيس، وكاد مؤيدو شهاب أن يطالبوا بإلغاء النتيجة لولا قبولها من شهاب نفسه تجنباً لإحداث اضطرابات أمنية في البلد». غير أن علاقة تويني بفرنجية تبدلت، فقد مرت بفترة جيدة أولاً حيث عُين تويني نائباً لرئيس الحكومة ووزيراً للتربية ولكنها ساءت لاحقاً إثر خلافات بين الجانبين وكاد تويني أن يسجن لدفاعه عن مدير تحرير صحيفته الذي أوقفته الأجهزة الأمنية لفرنجية بسبب مقال كتبه اعتبرته مخلا بالأمن.
إذن، فحكومة الرئيس نواف سلام عليها، بالإضافة إلى معالجة الشؤون الحياتية والاقتصادية والسياسية التي تعهدت بمعالجتها، أن تحذر من تقلبات سياسيين وصحافيين وأمنيين قد يؤيدونها في مراحل ثم ينقلبون عليها في مراحل أخرى، إما لاهداف سياسية أو مادية أو بسبب ارتباطاتهم بجهات خارجية قد تقرر دفعهم باتجاهات متعاكسة في مراحل مختلفة.
فالرئيس فؤاد شهاب كان أكثر استقامة ونزاهة من كثير من الرؤساء والمسؤولين اللبنانيين السابقين وكان مقرباً من القيادات العربية القومية والدولية وخصوصاً الرئيس جمال عبد الناصر، الذي كان في فترة الستينيات ذا شعبية كبيرة في بلدان عربية عديدة ولدى شعوبها خصوصاً. وآثر شهاب إقامة علاقة متوازية يكتنفها الاحترام المتبادل بين الجهتين اللبنانية والعربية. كما فعل شهاب الأمر نفسه (حسب المؤلف) بالنسبة إلى العلاقة بالدول الكبرى، فكانت علاقته طبيعية مع أمريكا وفرنسا وأوروبا من الجهة الغربية وغير سلبية مع الاتحاد السوفييتي وحلفائه من الجهة الشرقية.
ومن الأمور الهامة جداً لدى الرئيس شهاب حسب صليبا وكما ورد في الصفحة 397 في الكتاب، أن هذا القائد الراحل حرص على الإصلاح الاجتماعي بهدف تقليص الفوارق الاجتماعية والطبقية في لبنان التي كانت من أسباب الحرب الأهلية التي وقعت في البلد بين عامي 1975-1990 والتي أدت إلى الانهيار الاقتصادي والمالي الحالي في لبنان وإلى معاناة الطبقات الفقيرة والمتوسطة وإلى الشرخ الكبير بين الأغنياء ومتوسطي الحال في البلد الآن.
ومن حسنات الكتاب أنه من الواضح بأن المؤلف قام بأبحاث معمقة قبل أن يتوصل إلى استنتاجاته وأن صفحات كتابه تشمل حواش مفيدة ومفصلة عن خلفيات الشخصيات التي يتحدث عنها. كما أنه يحاول أن يعتمد الموضوعية في تقييم الفترة التي برز فيها اللواء شهاب كرئيس أو كشخصية فاعلة في السياسة والاقتصاد والتنمية الإدارية والاجتماعية في لبنان، ولكن ذلك الأمر لا ينفي كون صليبا من المعجبين بالرئيس شهاب ومن الذين يدركون أن حسنات عهده تفوق سيئات ذلك العهد.
ويكفي أن يشير المؤلف إلى أن شهاب كان نزيهاً وغير فاسد من الناحية المادية والمالية وأن خليفته الرئيس الياس سركيس استمر في هذا المسار وأن هذين المسؤولين الإثنين خرجا من السلطة وجيوبهما شبه فارغة بالمقارنة مع مسؤولين آخرين حاليين سرقوا خزائن دولتهم وخرجوا مدججين بالأموال وما زال بعضهم يمارس هذا الانحراف من دون محاسبة على حساب شعبهم.
ويتمنى اللبنانيون أن ينجح العهد الجديد في بلدهم في الاستفادة من النواحي الإيجابية من عهد الرئيس شهاب وان يتفادوا سلبياته وأن يحذروا من الممارسات «التبدلية» لمن يؤيدونه في فترة ثم ينقلبون عليه بسبب مصالحهم الشخصية والمادية وليس لمصلحة البلد.
يشمل الكتاب الكثير من الأمور التي لا يتسع المجال للتطرق إليها في هذه المراجعة المختصرة وخصوصاً في خلفيات العلاقة الجيدة التي استمرت حتى النهاية بين الرئيس شهاب والقائد كمال جنبلاط.
صليبا لويس: «فؤاد شهاب ما له وما عليه»
دار ومكتبة بيبليون، جبيل 2025
520 صفحة.