جبار ياسين: كل كاتب حقيقي هو عالميٌّ بطبيعته

جبار ياسين: كل كاتب حقيقي هو عالميٌّ بطبيعته
حاوره: عاطف محمد عبد المجيد
لمْ يصادفني في حياتي أحد يحب مصر، بل يعشقها، كجبار ياسين. يحبها كمكان يدرك تماما فضل ريادته على الآخرين، ممتنّا للمعلمين المصريين الذين تعلّم على أيديهم هو وأقرانه قبل أن يغادر العراق، وكذلك لا ينسى فضل ثقافة مصر وأغانيها وبقية فنونها على العالم العربي، وكثيرا ما أحسده، ونحن نتحدث معا، على قوة ذاكرته التي لا تزال تحتفظ بالأغاني المصرية وأسماء الأفلام القديمة ومحتواها. كما يحب مصر بناسها، خاصة البسطاء منهم، الذين يعبّر دائما عن سعادته وهو يتعامل معهم، مستمعا إلى حكاياتهم، وهم كذلك يعبرون عن سعادتهم بالتعامل معه لرقيه في التعامل، ولمحبته التي يوزعها، دون مقابل، على الجميع.
ذات مرة سألته ماذا يعني أن تكون كاتبا، فقال لي أن تحتفظ بالأمل، فذات صباح قد تَحدث معجزة تجعلك تبتسم وتعيد الثقة بالعالم، وحينما سألته ما جدوى الإنسان أجابني: الإنسان الذي لا يناضل من أجل أخيه الإنسان لا يستحق الحياة، ولا يساوي إلا صفرا. وقبل أن ندخل إلى حواره هذا أذكر مقولته التي قالها لي ذات تواصل: لا شيء أبدي، لقد احتفظت الآلهة لنفسها بالخلود، والأبدية فراغ وملل. سعادتنا أبسط من الأبدية: خبز وماء، جمال وطمأنينة بلا جروح.
أبحث عن نفسي
* غادرتَ العراق وأنت شاب، وقضيتَ كل هذه السنوات في فرنسا/ المنفى، أخبرني عما فعلته كل هذه السنوات في جبار ياسين.
ـ أنت تحدثني عن قرابة نصف قرن. العالم دار على نفسه مرارا وتكرارا، وأنا كذلك، ولسنوات طويلة وأنا أبحث عن نفسي، عن تاريخي الشخصي والجمعي، عن معنى وجودي؟ أسئلة كثيرة نعيد صياغتها ونحن في الغربة، المنفى، الوحدة والعذاب. نعيد النظر في كل شيء بحثا عن معنى. في نهاية المطاف نكتشف ضعفنا أمام الحياة، العالم الأرضي، أنفسنا، نكتشف أن مصائرنا هي مصائر الآخرين نفسها، لكن بثياب مختلفة. نصبح أكثر رقة، أكثر تواضعا، أكثر فهما لمشاكل الآخرين، ونقول لأنفسنا بصمت «كم تغيرنا؟ «
* يحلم كثير من الكتاب العرب بفكرة العالمية، وأعرف أن لك وجهة نظر مخالفة بخصوص هذه الفكرة.. ما رأيك؟
ـ العالمية هي أن تكون في العالم، أينما كنت. كل كاتب أو فنان حقيقي هو عالمي بطبيعته. تبقى فكرة الشهرة التي يسميها بعضهم، خطأ، العالمية! بعض الأعمال الأدبية والفنية تتجاوز المكان، أحيانا، لأنها في صميمها تتوجه لجميع البشر، تسعد الكثير من الناس فتصير عالمية عبر الترجمة مثلا. إشرح لي لماذا بعض الأعمال البدائية في افريقيا أو آسيا أو أمريكا اللاتينية صارت عالمية؟ لأنها توقظ شيئا عند أغلب الناس. هناك فرقة موسيقية من صعيد مصر، اسمها الصعايدة، جابت نصف أوروبا وجعلت الآلاف يرقصون طربا. لماذا الفن الشعبي في واحة سيوة صار نموذجا للكثير من الرسامين؟ لماذا ألف ليلة وليلة عالمية؟ الصدق أولا، الصدق الذي يخلق العمق الإنساني.
طبعا هذا لا يلغي «عالمية مفروضة» مارسها الغرب لأكثر من قرن بسبب الهيمنة، وأيضا لثرائه الذي يسمح له بالانتشار، وكذلك سياسة الهيمنة المدروسة التي تُشعر الفقراء بالانبهار، حالها حال الكاتدرائيات الغوطية التي تُشعر فقراء الفلاحين في أوروبا بالضآلة أمام هذه الصروح الدينية.
* تكتب الرواية والقصة القصيرة، تكتب بالفرنسية وبالعربية أيضا، وتترجم بعض أعمالك.. حدثني عن هذه التجربة.
ـ أنا لا أؤمن بالحدود بين الدول، فكيف أؤمن بالحدود بين الأنواع الأدبية. الفن هو الحيز اللامتناهي الذي نمارس فيه حريتنا. لذلك لا حدود لي بين المسرح والرواية، القصة والمقالة، أكتب ما أشاء، طبعا مع مراعاة حدود الفن، قدر الممكن. أكتب بلغتين لأني بين لغتين، بين مكانين، بين زمنين، أنا مزدوج بطبيعتي الثانية بحكم ولادتي في مكان وعيشي أكثر من ثلثي حياتي في مكان آخر، بعيد عن الأول، مختلف عنه. أنا أكتب لقطبين صارا عصبا وجودي. الحنين للمكان الأول والرغبة في الانتماء للمكان الثاني الذي يحطيني ببشره وأشجاره وغيومه وبقصص الحب والصداقة.
الأدب الفرنسي في اضمحلال
*هل لك أن تقارن بين الأدب العربي والأدب الأوروبي، الفرنسي تحديدا؟
ـ لدينا في ما اصطلحنا عليه بالعالم العربي، أدب رفيع باستعارة عبارة ابن المقفع. أتابع أحيانا، وكل يوم أكتشف كاتبا جديدا بارعا. أدبنا القديم «الكلاسيكي» هو، ولا جدال، من أهم الآداب العالمية وهو تراث غني. بعد الفترات المظلمة، وهي كثيرة وطويلة، بزغ أدب جديد يضاهي آداب العالم. الأدب الفرنسي، ولقرنين من الزمن، وهب العالم كنوزا، في حقبه الرومانتيكية والرمزية والواقعية. قدم خلاصات رائعة للعالم، لكن، لا أخفي عليك، أن وجهة نظري الشخصية اليوم كالتالي: الأدب الفرنسي في اضمحلال، صار نمطيا، سهلا، يتبع الموضات مثل دور الأزياء، حدوده تتقلص، وصار منشغلا بما هو سطحي. ذلك انعكاس للمجتمع ولن أمضي أكثر من هذا.. انظر إلى أهم كتّاب فرنسا اليوم، أغلبهم من المهاجرين والمنفيين، آخرهم توفي منذ فترة، وأقصد ميلان كونديرا الذي خلق هزة أرضية في الأدب الفرنسي.
*أود أن تذكر لنا أسماء لكبار المبدعين الفرنسيين، ومَن مِن الأدباء العرب يمكنك أن تضعه في قائمة الكتاب العالميين.

الشاعر جبار ياسين مع الزميل عاطف عبد المجيد
ـ أنت تكلفني بما لا طاقة لي به. من أنا لأضع قائمة للكبار، فرنسيين أو عربا؟ أنا ما أزال عند كبار القرن الماضي: ألبير كامو، رونيه شار، سان جون بيرس، فرنسيّا، نجيب محفوظ، الطيب صالح، بدر شاكر السياب، عربيّا.
* ذات مرة قلتَ لي إننا لا نكتب ونحن سعداء.. هل لك أن تخبرني عن علاقتك مع الحزن؟
ـ ما زلت عند هذا الرأي. لكن الحزن أنواع وأصناف. أحيانا يكون الحزن وجها من وجوه السعادة، وهذا غالبا عند الكتاب والفنانين، لأنه مصدر من مصادر الإلهام.
* تُرجمت أعمالك إلى ما يقارب العشرين لغة.. هل أضافت إليك الترجمة قيمة أخرى؟
ـ لا أعتقد باستثناء السفر إلى كل البلاد التي تُرجمت إليها أعمالي. بالمناسبة لم أترجم إلى عشرين لغة، بل إلى 17 لغة فقط.
* بعيدا عن تخوم الكتابة، أود أن تحدثني عن جبار ياسين الإنسان؟
ـ جبار ياسين الإنسان يسعى إلى أن يحافظ على إنسانيته في عالم يتوحش كل يوم.
* بعيدا عن الكتابة.. ما الذي تحرص على فعله كل يوم؟
ـ أن أنظر في المرآة وأرى نفسي في المساء قبل النوم لأرى هل تغيرت، أم ما زلت الطفل الذي أعرفه. في الصباح أرسم يومي لأبقى متمسكا بالحلم.
أحب مصر
* على الكاتب أن يكون مثقفا ومطلعا على شتى العلوم والمعارف.. ما هي المجالات التي تحب أن تقرأ فيها؟
ـ لا أقرأ الأدب فحسب، بل أقرأ في الكيمياء، الطب، المياه، التصحر، والزراعة خصوصا. لديّ من الكتب في هذه المجالات أكثر من كتب الأدب ربما. قبل عشر سنوات حاضرتُ في جنوب إيطاليا عن مشكلة المياه التي بدأت كمشكلة كبيرة في أيامنا هذه.
* أعرف أنك تحب مصر كثيرا.. حدثني عن علاقتك بمصر.
ـ إنها من إرث الطفولة، أنا أحب مصر لأنني ما زلت طفلا يغني في وحدته أغاني مصرية. مصر علمتنا أشياء كثيرة من الغناء والأدب والسينما حتى النكتة، الحب هو رد جميل طبيعي لها.
* إنْ سألتك ماذا تريد الآن.. فبماذا تجيب؟
ـ الآن ودوما أريد من الحب كل بحاره، ومن الشعر بحر الرمل.
* ذات مرة قلت: من ترك امرأة من أجل كتاب، فهو لا يعرف القراءة.. ماذا تعني هنا؟
ـ نقرأ لنتعلم الحب، فإذا كانت المرأة قريبة فمعها نتعلم الحب، ونطوي الكتاب حتى وقت آخر للحب.
* ما جديد جبار ياسين؟
ـ أنجزت رواية بالفرنسية من 302 صفحة، عنوانها «خريف من الكريستال»، قصة حب طبعا، وفي الوقت نفسه رواية عن الغربة التي يعيشها إنسان من مكان آخر في بلاد غير بلاده، رواية تنتهي مأساويّا ككل الروايات.