ثقافة وفنون

«لا خيار آخر»: بارك تشان ووك يرسم كوميديا سوداء عنفها بقدر إنسانيتها

«لا خيار آخر»: بارك تشان ووك يرسم كوميديا سوداء عنفها بقدر إنسانيتها

نسرين سيد أحمد

كاتبة مصرية

فينيسيا ـ  يعود المخرج الكوري الجنوبي بارك تشان ووك، صاحب «أولد بوي» و»الخادمة»، في فيلمه الجديد «لا خيار آخر» No Other Choice، المشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان فينيسيا الثاني والثمانين، ليقدّم عملاً يمزج بين القسوة والفكاهة، بين السخرية المدوية والمرارة العميقة، وليضعنا أمام حكاية بسيطة في ظاهرها، لكنها مشحونة بالدلالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية عن عالمنا الحالي.
القصة مقتبسة عن رواية الكاتب الأمريكي دونالد ويستليك The Ax (1997)، التي سبق أن قدّمها كوستا غافراس سينمائياً عام 2005. لكن بارك لا يكتفي بإعادة صياغة الرواية، بل يخلق من مادتها عالماً خاصاً به، منضبطاً في فوضاه، ساخراً في مأساويته، وكأننا أمام نسخة كورية معاصرة من الكوميديا السوداء الكلاسيكية، لكن الممهورة بلمسته البصرية التي لا تخطئها العين.
يفتتح الفيلم بمشهد مفعم بالراحة والسكينة والرخاء: مان- سو (لي بيونغ- هون، في أداء مذهل) يجمع أسرته الصغيرة في حديقة منزله الريفي، الذي يضم زوجته ميري (سون يي-جين)، ابنه المراهق، ابنته الصغيرة، وحتى كلبي العائلة، في لحظة عناق جماعي خاطفة. تحت زهور تتساقط في الهواء، يهمس مان- سو: «لديّ كل شيء». يبدو المشهد كحلم بورجوازي بسيط، كإعلان عن اكتمال السعادة. لكننا نعرف، منذ اللحظة الأولى، أن هذه السعادة لا بد أن تنهار، وأن بارك يستخدم التمهيد العذب كسلاح ساخر ضد بطله وضدنا كمشاهدين.
أمضى مان – سو 25 عاماً في العمل في مصنع للورق، متدرجاً حتى منصب قيادي بارز في الشركة، يفتخر بجوائزه ومكانته، وبالهدايا القيمة التي يحصل عليها من قبل أن يُفاجَأ بالاستغناء عنه مع قدوم المالكين الأمريكيين الجدد. هنا تبدأ رحلة يشعر فيها مان – سو بالإذلال، حيث يحضر جلسات التنمية البشرية التي يُجبر فيها الموظفون المطرودون على ترديد شعارات جوفاء، ويضطر للعمل في وظائف مؤقتة مهينة. وبدلا من العمل في منصب إداري في مكتب أنيق، يعود ليصبح مجرد عامل بسيط. هذه التفاصيل ليست عابرة، بل تشكل جوهر الفيلم، الذي يفضح العنف الصامت للرأسمالية، حين تحول الأفراد إلى أرقام قابلة للاستبدال. ومع تراكم الضغوط، تتبدى هشاشة مان – سو. تشتعل غيرته من مدير منافس (بارك هي سون) يسخر منه ويرفض توظيفه، ومن طبيب وسيم يعمل في عيادة زوجته، التي تعمل ممرضة في عيادة للأسنان.
وهنا تتولّد الفكرة في عقل مان- سو وتتبلور: إذا اختفى المنافسون الذين قد يشكلون تهديدا له في الحصول على منصب مرموق في شركة من شركات الورق، فسيفتح ذلك الطريق أمامه للحصول على عمل لائق. يبدأ الأمر بنكتة، ثم هوس يتغذى على الإهانة والخذلان. وسرعان ما يشرع مان – سو في رسم خطط للتخلّص من كل من يقف في طريق الوظيفة المنشودة، لكن محاولاته لا تسير أبداً كما يتخيل.


بارك، الذي طالما اشتُهر ببناء مشاهد عنف قاسية في أفلامه السابقة، يقلب هنا المعادلة: القتل يتحوّل إلى مصدر للفكاهة. فمان- سو قاتل مرتبك، يسقط في الطين، يُفاجأ باتصال فيديو من زوجته في أسوأ لحظة، أو يُربك مخططاته تفصيل تافه. كل محاولة قتل تنقلب إلى مسرحية عبثية، تفضح هشاشته أكثر مما تثبت قوته. هنا يكمن ذكاء بارك: هو لا يسخر من البطالة بقدر ما يسخر من خرافة الرجل القوي الذي يُفترض أن يحمي أسرته مهما كلف الأمر. يحتل المنزل، الذي ولد فيه مان – سو، ثم أعاد شراءه وترميمه بحب ليعيش فيه مع زوجته وابنه وابنته، موقعاً مركزياً في السرد. يمثل هذا البيت، الذي ما زال مان – سو يسدد أقساطه، أهم ممتلكات الأسرة، ورمز مكانتها المادية، وتشهد حديقته الغناء والصوبة الزجاجية بالحب الذي يوليه مان- سو للحديقة وزرعها. المنزل هنا ليس مجرد خلفية، بل استعارة عن الاستقرار المفقود، عن الحلم الذي يتهاوى مع كل قرار اقتصادي.
من السهل أن نقارن «لا خيار آخر» بـ»طفيلي» Parasite لبونغ جون-هو، ليس فقط لوجود البيت كرمز طبقي، بل أيضاً لحدة السخرية من النظام الاقتصادي، لكن «لا خيار آخر» أكثر عبثية. إنه أقرب إلى هجاء مرير، حيث يتحوّل الرجل العادي إلى قاتل تسلسلي بدافع البقاء. وفي الوقت ذاته، يمكن أن نرى في «لا خيار آخر» أوجه الشبه بين بطل «أولد بوي» ومان- سو، فكلاهما رجل عادي، تنقلب حياته رأساً على عقب، فيجد نفسه يشهر السلاح في وجه العالم. لكن يوجد فرق رئيسي كبير، فهنا، لا يوجد انتقام دموي صرف، بل عبث كوميدي يفضح المأساة. رغم قسوة الفكرة، ما يميز الفيلم هو حسّه الإنساني. بارك لا يجرّد بطله من تعاطفنا، بل يتركنا نراه كضحـية بقدر ما هو جلاد. منافسوه، الذين يخطط لقتلهم، ليسوا أشراراً بالمفهوم التقليدي، بل وجوه أخرى له، فهم موظفون فقدوا وظائفهم، وآباء يحاولون حماية أسرهم. إنه يحاول أن يقتل انعكاساته، نسخاً أخرى من نفسه. وفي هذه المرايا يكمن البعد الفلسفي للفيلم: إلى أي مدى يمكن للإنسان أن يتخلّى عن إنسانيته كي يحافظ على دوره الاجتماعي ومكانته والمتطلبات المادية لأسرته؟
بارك يبرع في تقديم تفاصيل تبدو جانبية لكنها تثري الحكاية: دروس التشيلو للابنة الصغيرة، ألم الأسنان الذي يداهم أحد الشخصيات، حفلة رقص تنكرية. هذه الاستطرادات ليست زخارف، بل تعكس فكرة محورية: الحياة تستمر رغم كل شيء. حتى في خضم القتل، هناك عزف موسيقي، هناك وجبة عائلية، هناك لحظات عابرة من الطرافة.
إهداء الفيلم إلى كوستا غافراس، الذي سبق أن اقتبس الرواية، ليس تفصيلاً عابراً، بل إشارة إلى انتماء بارك إلى تقليد سينمائي عالمي يُعنى بالنقد السياسي عبر الفن. لكن بينما ركّز غافراس على المباشرة، يذهب بارك إلى بناء لوحة بصرية تمزج الرعب بالضحك، لتكشف بذكاء عن عبث النظام الاقتصادي الكوري والعالمي حيث يُختزل الإنسان في وظيفته. ليس «لا خيار آخر» مجرد أكثر أفلام بارك طرافة وسخرية، بل لعله أكثرها إنسانية أيضاً. فهو يذكّرنا دوماً بأن بطله لم يكن سوى رجل عادي، أراد أن يعمل ويؤمّن لأسرته حياة مستقرة. وفي النهاية، يتركنا الفيلم بضحكة، ضحكة لا تنفي الألم، بل تفضحه.

«القدس العربي»:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب