
كلمة الطليعة :
الوحدة … اولاً واخيراً
في الثاني والعشرين من شباط عام ١٩٥٨ ، كانت الامة العربية على موعد مع حدث تاريخي . في ذاك اليوم اعلن عن قيام وحدة مصر وسوريا في لحظة فوران شعبي عربي تشكلت معطياته على وقع المعارك الكبرى التي كان الوطن العربي مسرحها منذ حصول النكبة القومية الكبرى التي تمثلت باغتصاب الحركة الصهيونية مدعومة باوسع تحالف استعماري لفلسطين .
لقد تم الاغتصاب في لحظة تحولٍ جوهري في المواقع الدولية المقررة في السياسة الدولية استناداً لما افرزته الحرب العالمية الثانية من نتائج ، ومن ابرز تلك التحولات ، تراجع مواقع التأثير الدولي لما سمي لاحقاً بدول النظام الاستعماري القديم بقطبيها الرئيسيين بريطانيا وفرنسا ، وحلول الموقعين الاميركي والسوفياتي على قمة النظام الدولي الجديد الذي استمر يضبط الايقاع الدولي على قاعدة التوازن الردعي بينهما حتى نهاية الثمانينيات لحظة تفرد الموقع الاميركي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك منظومة دُوَلِه القارية.
لقد كان اغتصاب فلسطين ، واقامة كيان غريب عن النسيج القومي للامة العربية في قلب الوطن العربي بمثابة الزلزال السياسي الذي احدث هزاتٍ ارتدادية نتج عنها تصدعاً في بنى العديد من الدول القطرية المرتبطة عميقاً بفالق فلسطين ، من كان قريباً جداً منه وعلى تماس جغرافي معه، ومن كان بعيداً بالجغرافيا لكنه قريب جداً وحتى الالتصاق بانتماء الهوية الجامعة لكل الخواص التي تجعل من المكون البشري القاطن مشرق الوطن العربي ومغربه ووسطه امة واحدة تربطها وحدة الارض والتاريخ والمصالح المشتركة وكل مقومات الترابط والتقدم والوحدة .
في الموقع الابعد ، وجدت جماهير المغرب العربي في كل اقطاره ، ان خلخلة بنى النظام الاستعماري القديم ،وتراجع تأثيراته الدولية ، هو فرصة يجب التقاطها لطرد الاحتلال الاجنبي الجاثم على ارضها وخاصة الفرنسي منه واستدراكاً من ان تتمكن قوى الا ستعمار الجديد من ترتيب اوضاعها لاعادة الامساك بما تعتبره مناطق نفوذ لها وتقدم نفسها وريثة لمن انهت حياته افرازات الحرب الكونية الثانية.
لقد انطلقت في المغرب العربي مقاومة سياسية وشعبية شاملتين للاحتلال الفرنسي ، وكان اهمها ثورة الجزائر التي كانت واحدة من ابرز الثورات التحررية في العالم ، كونها لم تواجه احتلالاً على ماجرى التعارف عليه ، بإنه استعمار تقليدي لنهب خيرات البلد المحتل والاستفادة من موقعه الاستراتيجي ، بل كانت تواجه استعماراً لايسعى للسيطرة على مقدرات البلاد وحسب ، وانما اسقاط الهوية الوطنية لشعب الجزائر “بفرنسته،”، واعتبار الجزائر امتداداً “للوطن الفرنسي”. ولهذا اتسمت ثورة الجزائر بميزتين ، ميزة مقاومة الاحتلال بكل شخوصه وتجسيداته ، ومقاومة اسقاط الهوية الوطنية ،وبما يقارب الى حد بعيدٍ البعد الذي تنطوي عليه اهداف الثورة الفلسطينية .
وفي الموقع الاقرب ، موقع التماس الجغرافي مع فلسطين ، كان وقع الهزات الارتدادية للزلزال الذي ضرب المنطقة من فالق فلسطين قوياً الى الحد الذي اسقط نظماً عربية جرى تصنيفها في خانة العاجزة والمتخاذلة وحتى المتواطئة مع القوى الاستعمارية بقديمها وجديدها والتي كانت تعاند اسلاس راية الهمينة على الوطن العربي لبعضها البعض وهو الذي حصل لاحقاً باعتماد سياسة الجزرة تارة والعصا تارة اخرى.
ففي مصر ، استطاعت كوكبة من الضباط الاحرار ان تسقط النظام الملكي وتقيم نظاماً جديداً لم يتأخر الوقت طويلاً حتى أماط اللثام عن هويته السياسية ببعديها الوطني الداخلي والقومي العربي.
وفي سوريا حيث كان وقع النكبة القومية سريع التفاعل في اوساطها السياسية والشعبية ، تميز شارعها بحيوية لم ترتقِ اليه ساحات اخرى لارتفاع نسبة الوعي القومي وتجذره لدى القاعدة الشعبية العريضة من ناحية ، ولبروز حركات سياسية تسيدّت حركة الشارع وعبأته حول الشعارات الوطنية والقومية من ناحية اخرى .
واذا كان جمال عبد الناصر ، شكل رمزية سياسية وشعبية جاذبة ، نظراً لما امتلكه من كارزيما قيادية ، ولما كان يعلنه من مواقف تتناول القضايا الوطنية بكل مضامينها والقضايا القومية بكل ابعادها ، فإن حزب البعث في سوريا وهي موطن التأسيس والانطلاق الى الرحاب القومية ، شكل رافعة للنضال الجماهيري لكل مايتعلق ايضاً بالقضايا الوطنية والقومية. وفي كل موقف كان يعلنه عبد الناصر من القاهرة ويتناول القضايا القومية من فلسطين الى ثورة الجزائر كان صداه يتردد فوراً في دمشق وعلى وقع بلاد العرب اوطاني.
قبل ان يتم التلاقي السياسي على مستوى الاشخاص والمؤسسات بين عبد الناصر والبعث ، كان الطرفان
يلتقيان على اهدافٍ جُمِعَتْ في ثلاثية واحدة وان اختلفت تراتيبتها . فالوحدة والحرية والاشتراكية التي حددها البعث اهدافاً لنضاله لتحقيق الانبعاث المتجدد للامة وتحقيق وحدتها القومية ، كانت هي ذاتها عند عبد الناصر مع اعادة ترتيبها بدءاً بالحرية . والبعث اذا قدم الوحدة على الهدفين الاخرين ، فليس لان النغم الموسيقي فيما اعتمده من ترتيب للثلاثية فيه انسيابية سلسة ، بل اعطاها هذه الارجحية المعنوية نظراً للاهمية التي تنطوي عليها بالنسبة للامة العربية.
من دمشق ، التي كان البعث يملأ شارعها حراكاً ويمسك بناصية مدارسها ومعاهدها وجامعاتها ، رُفِعَ طلب تحقيق الوحدة مع مصر بقائدها عبد الناصر. وعلى وقع تسارع الاحداث ، تحقق الانجاز الكبير وتم تلاقي الارادات واعلن عن قيام وحدة سوريا ومصر تحت مسمى الجمهورية العربية المتحدة بقطرها الجنوبي ( مصر) وقطرها الشمالي ( سوريا) ، واندمج البلدان في دولة واحدة وتحت علم واحد بنجمتين على ان يبقى مفتوحاً لاضافة نجمة جديدة كلما انضم قطر جديد الى دولة الوحدة، وهو الذي لم يحصل.
الوحدة التي كانت توقاً دائماً لجماهير الامة ، لم تعمرّ دولتها طويلاً بعد أن إئتلف وتحالف ضدها كل المتضررين من الانجاز الوحدوي ، بدءأ من “ذوي القربى”( وظلم ذوي القرى اشدُّ ايلاماً ومضاضة ) ومروراً بقوى الاقليم غير العربية وانتهاءً بالتحالف الصهيو – الاستعماري بمظلته الاميركية وقاعدته الارتكازية “اسرائيل ” .
واذا كان قيل كثير في هذه الوحدة بما لها وما عليها ، فإنه في حلول الذكرى السابعة والستين لقيامها لابد من استحضار بعض حقائقها .
الحقيقة الاولى ، ان هذه الوحدة تحققت نتيجة تلاقي عاملين ، توق شعبي عارم لقيامها وارادة سياسية صادقة لدي صانعيها.
الحقيقة الثانية ، ان دولة الوحدة لم تَسْقط لخلل في انتظام عمل مؤسساتها وغياب الديموقراطية عن مجرى الحياة في اجتماعها السياسي ، وان كان ذلك شكل ثقوباً وثغرات نفذت منها الرياح العواصف المضادة لها ،الا أن الذي اسقطها هو حجم الاصطفاف المعادي لها الذي انضوى اطرافه في “حلف غير مقدس” من قوى الرجعية العربية الى المواقع المقررة في النظام الدولي .
الحقيقة الثالثة ، ان هذه الوحدة ورغم قصر عمرها السياسي على مستوى قيام الدولة الواحدة التي تجمع بين قطرين محوريين في الوطن العربي ، لم يسلّط الضوء كفاية على انجازاتها القومية التي دفعت مسيرة التحرر العربي خطوات متقدمة في مقاومة الاستعمار ،وفي مقاومة الاحلاف الاجنبية التي أُنشئت وسارعت خطواتها التنفيذية تحقيقاً لمبدا ايزنهاور بملء مايمىس بالفراغ الناجم عن انكفاء قوى الاستعمار القديم بطرفيه الاساسيين ، البريطاني والفرنسي. ولعل اهم انجازين لعبت الوحدة في دوراً في تحقيقهما ، هو توفير الحاضنة الشعبية العربية والرافعة القومية على المستويات التعبوية والسياسية والمادية لثورة الجزائر ، والتصدي للحلف المركزي الذي سمي “حلف بغداد”، وهو ضم دول اقليمية اساسية قوامها باكستان وايران وتركيا وطبعاً العراق الذي اتخذت بغداد مقراً له.
ان هذين الانجازين ، ثورة الجزائر واسقاط “حلف بغداد” ، كافيان لان يمنحا لدولة الوحدة حقها في ما استطاعت تحقيقه من توفير مناخات شعبية على مساحة الوطن العربي بعدما ساهمت في تجذير الوعي السياسي والشعبي وهو ماجعلها اكثر انشداداً الى وطنيتها التي تسعى لاستيلاد اوضاع سياسية جديدة لاحداث تغيير وطني يلبي الطموح الشعبي باقامة نظمٍ سياسية تحاكي قضايا الوحدة والديموقراطية والتحرر وكل ما من شأنه ان يوفر شبكة امآن قومي ومجتمعي. وهنا تجدر الاشارة ان الجنين الثوري الفلسطيني كانت بداية تشكله في رحم دولة الوحدة حيث كانت الامة العربية تجسد الحضن الدافئ لهذا المولود الذي بلغ الرشد السياسي في سني مبكرة يوم اعلن عن انطلاق ثورة فلسطين في ال ٦٥.
ان القوى المعادية للامة، التي تعي جيداً اهمية العمل الوحدوي في استنهاض الامة وتقدمها ، بنت أُسس استراتيجيتها ضد كل توجه وحدودي حتى لو كان على مستوى الموقف عبر رفع العوائق امامه بدءاً بالموقف وانتهاء بالاجراء العملاني ، وهذه الخطط التنفيذية لم تقتصر على تناول الاطر السياسية سواء كان متجسداً في شكل بنية دولة او في شكل حركات واحزاب تدعو للوحدة وحسب ، بل اتخذ بعداً خطيراً بتناول البنى الفكرية التي تؤّصل الفكر الوحدوي وتقدمه عبر مميزاته التي تشكل طريق خلاص للامة على مستوى الكل القومي او على مستوى التكوين المجتمعي .
فالوحدة التي هي طريق الخلاص الوحيد للامة العربية مما تواجهه من تحديات قومية ووطنية وسياسية ،وهي لو لم تكن هكذا ، لما كانت عرضة لاستهداف متعدد الاطراف والمواقع فإنها بما تنطوي عليه من ابعادٍ حقيقة ليست حاصلَ جمعٍ للامكانات المادية المتوافرة في الامة ، بل هي حاصل تفاعل العوامل الاساسية للتشكل القومي العربي وتلاقي الارادات السياسية في نطاق هذا التشكل . واذا كانت المعوقات الكثيرة من الداخل القومي والخارج تحول دون تحقيق انجاز وحدوي على مستوى البناء السياسي وهذا هو الحد الاقصى الذي يسعى اليه اعداء الامة ، الا انه ليس ما يحول دون تحقيق الحد الادنى المطلوب عربياً ،الا وهو وحدة موقفٍ ، في مواجهة التحديات التي تواجه الامة على مستوى الكل القومي او على مستوى الجزء القطري.
إن أخطر مايواجه الامة من تحديات خطيرة في هذه المرحلة هو استنفار الحلف الصهيو – اميركي ومن يتقاطع معه من دول الاقليم غير العربية لكل قدراته وعوامل تأثيراته لاعادة تشكيل المنطقة وفق ماتقتضيه مصالح هذا الحلف ومن يتماهى معه مرحلياً واستراتيجياً. وهذا التشكيل المزمع قيامه يستبطن دَفْع الواقع العربي نحو انشطارات جديدة في البنيان القومي ، والمستهدف الاول فيه هو البنى الوطنية القائمة حتى ولو كانت نظمها السياسية تستمرئ الواقع الكياني الحالي وتعطيه في دساتيرها طابع النهائية.
هذا الانقسام الكياني القائم اثبتت سياقات الاحداث وتطوراتها أنه ما حمى يوماً -حتى المستفيدين منه – من خطورة الهجمة المعادية المتعددة المصادر والمواقع ضد الامن القومي العربي . وعليه ، فان رفع شعار القطرية اولاً واعتباره ملاذاً امناً حتى للمنادين به لا يمكن اعتباره كذلك ، الا اذاكان ينظر اليه بأنه مجرد هدف مرحلي في خدمة هدف استراتيجي ،هو الوحدة اولاً واخيراً والا كان الوقوع في المحظور .