مقالات
العرب وإسرائيل ومنطق العصر-مراجعة تاريخية بقلم الدكتور رياض العيسمي
بقلم الدكتور رياض العيسمي

العرب وإسرائيل ومنطق العصر-مراجعة تاريخية
بقلم الدكتور رياض العيسمي
إذا كانت الفلسفة هي نتاج الطبيعة، فالفكر هو نتاج العقل. حيث تقوم الفلسفة على مبدأ صراع إلأضداد الموجودة في الطبيعة منذ فجر الخليقة. أما عملية تفسير ظواهر هذا الصراع لم تبدأ إلا بعد أن خلق الله الإنسان العاقل. وبهذا يكون الفكر هو استخدام العقل في توظيف الفلسفة في مختلف نواحي الحياة الإنسانية والاستفادة منها. يقول المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي إن الصراع كان موجودا بين عوامل الطبيعة المتضادة قبل ميلاد الإنسان. وهو محق في ذلك. وهذه الظواهر كثيرة ومتعددة. فعلى سبيل المثال، إن الصراع بين موج البحر ورمال الشاطئ كان موجودا في الطبيعة قبل أن يخلق الإنسان. ولكن الإنسان هو الذي فسر ظاهرة المد والجزر التي تنتج عن هذا الصراع. ومن ثم فكر في توظيفها للاستمتاع بالسباحة في البحر والتشمس على الشاطئ الرملي في الأيام المشمسة. وهكذا تم تفسير العديد من الظواهر الأخرى الموجودة في الطبيعة بالأساس. ومنها ما استغرق اكتشافه وقتا. وعلى سبيل المثال ظاهرتي الجاذبية والنسبية في الكون. ولو لم يكتشف كل من اسحاق نيوتون قانون الجاذبية وألبرت أنشتاين قانون النسبية، لكان اكتشفهما لاحقا أشخاص غيرهما. وهناك العديد من الظواهر الموجودة في الطبيعة ماتزال غير مكتشفة حتى اللحظة. وذلك ليس لأنها غير موجودة، وإنما لأن عقل الإنسان لم يدركها بعد. ولهذا تعتبر الفلسفة هي أم العلوم. وكان علم المنطق هو أول علم ينفصل عن الفلسفة. وهو علم نسبي يعتمد على المحاكمة العقلية للإنسان في التعامل مع مناحي الحياة المختلفة، وكان أرسطو،الذي ولد عام ٣٨٤ قبل الميلاد، أبرز الفلاسفة الذين استخدموا علم المنطق. وهو الذي أوجد المنطق الاستدلالي الذي يعتمد على استخدام الدلالات السببية لتراكم الأحداث في الاستدلال على النتائج. وبحسب منطق أرسطو ، كل النتائج الموجودة في الحياة لها مقدمات معروفة. وبحيث لا يوجد شيء في الحياة بالصدفة. فالصدفة بالنسبة لمنطق أرسطو هي نتيجة موجودة لمقدمة غير معروفة. وبهذا يكون أرسطو قد سلك منحى جديدا في الفلسفة والتفكير متميزا به عن أستاذه أفلاطون فيلسوف المثل والقيم الأخلاقية العليا عند الإنسان. وأفلاطون هو صاحب نظرية المدينة الفاضلة التي صور من خلالها شكلا للدولة المثالية في خياله. والتي عرفت بجمهورية أفلاطون وأصبحت فيما بعد مرجعية للعديد من الساسة والمفكرين المثاليين منذ المئوية الثالثة قبل الميلاد وإلى يومنا هذا. حيث سادت مفاعيلها في عصري النهضة والتنوير في أوروبا مع أفكار جان جاك روسو وجان بول سارتر في فرنسا وفريدريك نيتشه في ألمانيا. كما وأقتبس منها مفكرون عرب في عصر النهضة الإسلامية في مصر كرفاعة الطهطاوي ومحمد عبده مع نهايات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين. وأيضا اعتمدتها أفكار ما عرف باليقظة العربية مع مفكرين مسيحيين أمثال شبلي شميل وألبرت حوراني من لبنان. وقسطنطين زريق من سورية. والتي جميعها مهدت لظهور الأفكار القومية في المشرق العربي، والتي برزت في عقد الثلاثينيات من القرن العشرين مع أنطوان سعادة من لبنان. وفي الأربعينيات مع ميشل عفلق في سورية. ومع سعادة وعفلق تشكلت الاحزاب التي اتخذت من أفكارهما القومية مرجعية سياسية. حيث شكل أنطوان سعادة الحزب السوري القومي الاجتماعي عام ١٩٣٢. وأسس عفلق حزب البعث عام ١٩٤٧. وحل الحزبين نفسيهما في مطلع هذا العام، ٢٠٢٥، بعد سقوط النظام السوري.
إن سقوط النظام السوري يمثل انتهاء حقبة سياسية مهمة في تاريخ العرب الحديث، والتي بدأت بعد الاستقلال، بدءا باستقلال لبنان عام ١٩٢٠ ومرورا باستقلال سورية عام ١٩٤٦. والتي تميزت بالشعور الوطني والقومي العارم الذي بلغ ذروته في خمسينيات القرن الماضي مع استقلال مصر عام ١٩٥٢. والموجة القومية الطاغية التي أعقبتها وتصدرها جمال عبد الناصر. وتوجت في وحدة مصر وسورية عام ١٩٥٨، والتي حل حزب البعث نفسه من أجلها. وتراجعت هذه الموجة مع قيام الانفصال عام ١٩٦١. وانحسرت إلى حد التلاشي بعد هزيمة العرب عام ١٩٦٧. وانهار ما بقي منها بسقوط بغداد عام ٢٠٠٣. واليوم يدخل العرب حقبة سياسية جديدة بعد انحسار بريق الأفكار القومية التي رافقتهم لما يقارب القرن من الزمن، كما حصل في أوروبا من قبل. ولكن جمهورية أفلاطون ستبقى، ولو لحين، حلما مثاليا في خيال العرب، كما كانت في خيال أفلاطون. أما إسرائيل، التي كانت هي محور هذه الحقبة منذ بدايتها وحافزها، قد اقتربت هي الأخرى من نهايتها. وهي قد لا تنتهي بقوة العرب، وإنما سيلغيها منطق العصر. وهذا ما كان قد توصل إليه بالاستنتاج محمد حسنين هيكل. وضمنه في كتابه خريف الغضب الذي صدر قبل أكثر من أربعين عاما. وهذا ما يمكن تأكيد استنتاجه اليوم وفقا لمنطق أرسطو الاستدلالي. فالبرغم من قوة إسرائيل المطلقة التي تفرضها على المنطقة، إلا أنها تذهب عكس منطق دارون للتطور. والذي الاستمرار فيه ليس للأقوى، وإنما للأكثر قدرة على التأقلم مع الواقع المحيط. فبدلا من أن تغير إسرائيل من واقعها ليتأقلم مع محيطها، هي تحاول أن تغير محيطها لينسجم مع واقعها. وهذا بحد ذاته معاكس لقوانين الطبيعة ويتنافى مع جدلية هيغل للتطور التاريخي. آن حرب نتنياهو اليوم لم تعد كما كان في السابق لتثبيت وجود إسرائيل، وإنما لتثبيت وجوده في الحكم. وهدف حكومته هو صراع اليمين مع الأكثر يمينية، وليس أمن إسرائيل. وبالنتيجة إسرائيل هي ليست دولة، وانما كيان مصطنع يحمل بذور فنائه بداخلة. ووفقا لمنطق أرسطو: “المقدمات تدلل على النتائج”.
كل الأمبراطوريات في العالم انهارت عندما حاولت أن تتوسع خارج نطاق حدودها، وإسرائيل لن تكون استثناء.