«أنورا» سينما المهمشين تحصد جوائز الأوسكار وتكشف زيف الحداثة

«أنورا» سينما المهمشين تحصد جوائز الأوسكار وتكشف زيف الحداثة
فايزة هنداوي
القاهرة ـ :في ظل عالم يزداد قسوة، ويستمر في سحق الفئات الأكثر ضعفًا تحت عجلات الرأسمالية المتوحشة، يأتي فيلم «أنورا» للمخرج الأمريكي شون بيكر ليعيد تسليط الضوء على المهمشين، أولئك الذين يجدون أنفسهم على الهامش في مجتمعات تدّعي الحداثة والانفتاح، لكنها في الواقع تغذي التفاوت الطبقي والاقتصادي بشكل صارخ. فبيكر هو مخرج السينما المستقلة الذي كرّس مسيرته لاستكشاف حياة الشخصيات التي لا تأخذ مكانها في الواجهة، والآن، مع «أنورا»، ينتقل بنقده إلى مستوى أكثر عالمية، حيث يفضح الوجه الحقيقي للرأسمالية المتوحشة التي لم تعد تخص مجتمعًا واحدًا، بل أصبحت نظامًا عالميًا يخترق كل الحدود.
منذ بداياته، وحتى فوز فيلمه بخمس جوائز أوسكار من بينها جائزة أحسن فيلم، التزم المخرج الأمريكي شون بيكر برسم ملامح شخصيات تعيش على هامش المجتمع، بعيدًا عن الأضواء، في أعمال تتسم بالواقعية الشديدة والأسلوب البصري المتفرّد.
عبر أفلامه المتنوعة، استطاع بيكر تسليط الضوء على فئات غير ممثلة في السينما السائدة، مقدمًا أعمالا تتسم بالحميمية والصدق، وتعتمد على مزيج من الطابع الوثائقي والدراما الاجتماعية.
في فيلمه «تانجرين» (2015)، استخدم كاميرا هاتف آيفون 5 ليحكي قصة امرأتين متحولتين جنسيًا تعملان في الدعارة في لوس أنجلوس، وحمل الفيلم طابعًا بصريًا مميزًا يجسد طاقة الشارع ويعكس البيئة التي تدور فيها القصة.
بعد نجاح «تانجرين»، واصل بيكر اهتمامه بالشخصيات التي تعيش في أطراف المجتمع بفيلمه «مشروع فلوريدا» (2017)، حيث سلط الضوء على الطفولة المهمشة عبر قصة الطفلة موني، التي تعيش مع والدتها في فندق رخيص بالقرب من منتجع ديزني الشهير في فلوريدا. استخدم بيكر في هذا الفيلم ممثلين غير محترفين إلى جانب نجوم معروفين مثل ويليم دافو، ليخلق توازنًا بين الأداء التلقائي والطابع الاحترافي.
ثم جاء فيلم «ريد روكيت» (2021)، ليؤكد مجددًا قدرة بيكر على تقديم شخصيات غير تقليدية، حيث تدور القصة حول ممثل إباحي سابق يعود إلى بلدته الصغيرة في تكساس، محاولًا إعادة بناء حياته وسط رفض المجتمع له. يعتمد بيكر هنا على مزيج من الكوميديا السوداء والدراما الواقعية، ليكشف عن هشاشة الحلم الأمريكي من زاوية غير مألوفة.
حكاية المهمشين في قلب نيويورك
في «أنورا»، يواصل بيكر رحلته مع المهمشين، حيث يأخذنا الفيلم إلى برايتون بيتش، الحي الذي تسكنه جاليات مهاجرة من أوروبا الشرقية في نيويورك، لنتابع قصة أنورا ميخيفا، راقصة شابة وبائعة هوى تحاول شق طريقها وسط حياة تفتقر إلى الأمان والاستقرار، تتزوج أنورا من فانيا زاخاروف، ابن رجل أعمال روسي فاحش الثراء، لتجد نفسها فجأة داخل عالم لم تكن جزءًا منه يومًا، عالم يزدريها ويرفض وجودها بسبب خلفيتها الاجتماعية.
لكن بيكر لا يقدم الحكاية في صورة الميلودراما التقليدية، بل يعتمد على أسلوبه البصري الواقعي الذي يجعل المشاهد جزءًا من هذه الحياة، حيث يرصد بالكاميرا اللحظات الصغيرة التي تكشف الفجوة الهائلة بين الطبقات، بين أنورا التي تحلم بتغيير واقعها، وعائلة زوجها التي تنظر إليها كدخيلة. في هذه التفاصيل، يكمن جوهر النقد الاجتماعي الذي يميز أعمال شون بيكر.
الرأسمالية المتوحشة
إذا كان بيكر قد ركّز في أفلامه السابقة، مثل «مشروع فلوريدا» و«ريد روكيت»، على تفكيك الحلم الأمريكي وكشف زيف الوعود التي يُغدق بها النظام الرأسمالي على الأفراد، فإن «أنورا» ينقل هذه الرؤية إلى نطاق أوسع، حيث يوضح أن التوحش الاقتصادي لم يعد مقصورًا على الولايات المتحدة، بل بات سمة عالمية، تتحكم فيها قوى المال التي لا تعترف بالحدود.
عائلة زاخاروف في الفيلم تمثل طبقة جديدة من رجال الأعمال والمستثمرين الذين يفرضون سطوتهم أينما ذهبوا، مدعومين بنظام اقتصادي يمنحهم السلطة على حساب الفئات الأكثر فقرًا. أنورا ليست الوحيدة التي تُسحق في هذه المعادلة، بل تمثل ملايين البشر حول العالم الذين يجدون أنفسهم مجرد أدوات في لعبة اقتصادية لا ترحم.
أسلوب بصري ومقاربات فنية
يعتمد بيكر في أسلوبه السينمائي على تقنيات تجريبية، مثل التصوير الرقمي البسيط، والإضاءة الطبيعية، والاستعانة بممثلين غير محترفين في أدوار رئيسية، ما يمنح أفلامه طابعًا وثائقيًا يقربها من الحقيقة. كما يمتاز بقدرته على المزج بين الجوانب القاسية لحياة المهمشين واللحظات التي تحمل حساسية ودفئًا إنسانيًا، وهو ما يجعل أفلامه تكسر الصورة النمطية للشخصيات التي يصورها.
في «أنورا»، يستخدم بيكر التصوير الوثائقي ليخلق إحساسًا بالواقعية المطلقة، مثلما فعل في مشاهد العلاقة الحميمية بين أنورا والشاب الروسي الثري، وإن كان يمكن تقليلها بعض الشيء فيما يلعب التصوير دورًا جوهريًا في إبراز التناقض بين عالم الفقراء وعالم الأثرياء، فهناك تباين بصري واضح بين المشاهد التي تصور حياة أنورا في بروكلين، حيث الإضاءة الخافتة والكاميرا المهتزة التي تعكس العشوائية، وبين المشاهد داخل عالم الأثرياء، حيث التصوير أكثر ثباتًا والإضاءة العالية. هذا التناقض يعكس التباين النفسي الذي تعيشه البطلة بين الحرية الزائفة التي تمتلكها في عالمها القديم، والانضباط القسري الذي يُفرض عليها في عالمها الجديد.
أداء يعيد للأذهان بطلات بيكر السابقات
كما هو الحال في أفلامه السابقة، يُقدّم بيكر شخصية رئيسية نسائية قوية لكنها ليست خالية من العيوب. في مشروع فلوريدا، رأينا الأم الشابة «هالي» التي تكافح من أجل ابنتها رغم أسلوب حياتها غير المستقر، وفي الصاروخ الأحمر، تابعنا شخصية «رايلي» التي تحاول التمرد على واقعها. في «أنورا»، تتجسد هذه الثيمة، فعلى عكس الصور النمطية التي تضع المرأة إما في دور الضحية أو المستغلة، تأتي شخصية أنورا متحررة من هذه الثنائيات، فهي تدرك تعقيدات العالم الذي تعيش فيه، وتعرف كيف تتفاوض على مكانها فيه.
حصول ماديسون على جائزة الأوسكار كأفضل ممثلة لم يكن مفاجئًا، فهي نجحت في نقل التناقضات الداخلية لأنورا بواقعية شديدة، بدون اللجوء إلى أداء ميلودرامي مبالغ فيه. نشاهدها تضحك وتعيش بحرية في النصف الأول من الفيلم، قبل أن يتحول وجهها إلى مرآة للخوف والارتباك مع تصاعد الأحداث، ونجحت في إبراز أنورا كشخصية متناقضة بين القوة والهشاشة، وبين الاستقلالية والرغبة في الأمان، وتحولت تدريجيا بالأداء من فتاة مفعمة بالحياة إلى امرأة تصارع للتشبث بحلمها وسط عالم يُعيد تعريف الحب وفقًا للمصالح والقوة الاقتصادية.
إعادة تعريف الحب في عصر الرأسمالية
في جميع أفلام بيكر، هناك عنصر مشترك: شخصيات تعيش على الهامش لكنها تواجه لحظة صدام مع السلطة، المال، أو الأعراف الاجتماعية. في «أنورا»، يتكرر هذا الصدام، لكن بأسلوب مختلف، إذ تصبح العلاقة العاطفية بين البطلة وابن الملياردير رمزًا لصراع أكبر بين الرومانسية كفكرة مثالية، والواقع الرأسمالي الذي لا يعترف إلا بالمصالح.
الحوار في الفيلم يعكس هذه الفكرة بذكاء، حيث لا يعتمد على التصريحات المباشرة، بل على التلميحات والنظرات والتفاصيل الصغيرة. الشخصيات الغنية تتحدث بلغة تحكمها المصالح، بينما تعبر الشخصيات المهمشة عن مشاعرها بتلقائية لكنها تُسحق تحت وطأة السلطة. هذا التناقض يخلق طبقات من المعاني تجعل الفيلم يتجاوز كونه قصة حب غير متكافئة، ليصبح مرآة لمجتمع يعيد تعريف العلاقات الإنسانية وفقًا لموازين القوى الاقتصادية، حيث يعيد «أنورا» رسم حدود العلاقات الإنسانية في السينما، ليغوص في تعقيدات الهوية، والطبقات الاجتماعية، والسلطة، والاختلافات الثقافية. واستطاع بيكر أن يوازن في «أنورا» بين السرد البصري والسيناريو الحي الذي ينبض بالحياة، ليصل به إلى منصة التتويج كأحد أهم الأعمال السينمائية في 2024.
«القدس العربي»