مفهوم “السلف الصالح”

مفهوم “السلف الصالح”
- الكاتبد. أحمد الحطاب
-
السلفية salafisme حركةٌ فكرية دينية ينتمي أعضاءُها للإسلام السُّنِّي، ولها هدفٌ يتمثَّل في العودة إلى الممارسات الدينية والدنيوية التي كانت سائدةً في عهد الرسول (ص) وفي عهد الخلفاء الراشدين. والسلفيةُ، كحركة دينية، تقترب شيئاً ما من الوهابية التي تتبنَّى طريقةَ ابن حنبل في تفسير النصوص الدينية. وأحمد بن حنبل كان ينتمي إلى مدرسة التَّقليدانية école du traditionalisme. والمدرسة التَّقليدانية كانت تعتمد، في تفسير النصوص الدينية، وخصوصا القرآن والسُّنَّة، على التَّفسير الحرفي le littéralisme. والتَّفسير الحرفي عبارة عن وسيلة يلجأ لها الحنبليون (السلفيون) لقراءة نصٍّ ديني أو تفسيره حرفيا littéralement، أي حسب المعاني المتداولة للكلمات، في الأوساط الدينية العلمية. ولا يمكن الحديث عن الحنبلية le hanbalisme دون الحديث عن ابن تيمية الذي تأثَّر بالمذهب الحنبلي وأثَّر فيه. والمعروف عن ابن تيمية أنه كان شديدَ التَّطرُّف très extrémiste وكان ينتمي للمدرسة التَّقليدانية ويتبنَّى التفسير الحرفي للنصوص الدينية. بل كانت فتواهُ تنتهي أغلبيتُها بالقتل. ويجب أن لا ننسى أن الوهابية، كحركة دينية، تأثَّرت بفكر وفقه ابن تيمية، ومن خلاله، تأثَّرت بفكر ابن حنبل.
ولهذا، فالسلفية، كحركة فكرية دينية، مُتوارثة بين فئة من علماء وفقهاء الدين. بل إن السلفية تَعتبِر كلَّ تجديد tout ce qui est nouveau dans la pratique religieuse دخل على رؤيتِهم الفكرية للدين الإسلامي، هو بِدْعَةٌ hérésie. والسلفية تَعتبِر رؤيتَها للدين هي الصحية، وهي التي يجب أن يستندَ لها كلُّ المسلمين. ولهذا، أُطْلِقَ على أعضاء السلفية اسمُ “السلف الصالح”، أي كل الناس المتمسِّكون بعقيدة الإسلام كما مارسها الرسول (ص) والصحابة وأتباعُهم.
و”السلف الصالح” كان أعضاءَه، في عهد الرسول والخلفاء الراشدين، يُحسبون بالآلاف، إن لم نقل بالملايين، إذا اعتبرنا أنهم موجودون إلى يومنا هذا. لكن ما يثير العجبَ والتَّعجُّبَ والغرابةَ والاستغرابَ، أن هؤلاء الأعضاء كانوا كلهم، حسب التراث الديني المتوارث، صلحاء ومستقيمين أو كانوا يتَّصِفون كلُّهم بأخلاق سامية. علما أن تابعي الصحابة لم يُعايشوا الرسول (ص). ولماذا أُطْلِقَ عليهم اسم “السلف الصالح”؟
لأنهم يَعتَبِرون أنفسَهم قدوةً لباقي المسلمين الذين من واجبِهم اتِّباعُهم في كل ما له علاقة بالعبادات والمعاملات. والسلفية تضمُّ في صفوفِها، بالطبع، الصحابة الذين عايشوا الرسول (ص) وتعاملوا معه في الأمور الدينية والدنيوية. ويشمل “السلفُ الصالحُ”، كذلك، التَّابعين الذين ساروا على نهج الصحابة، وأتباعَ التَّابعين، وخصوصا، في الأمور الدينية. هذا هو ما يشتمِل عليه “السلف الصالح”.
والمعروف أن طبيعةَ البشر تتأرجح بين الخير والشر، وذلك لأن الإنسان يتأثَّر بالآخرين ويُؤثِّرون عليهم. بمعنى أنه لا يوجد، على الإطلاق، بشرٌ محتفظون بنفس الحالة النفسية، منذ ولادتِهم إلى أن يلتحقوا بالرفيق الأعلى. وحتي النبي (ص)، كنبي، كان يخطئ. والإنسان، كإنسانٍ عاقلٍ، يتأثر بالوسط (المجتمع) الذي يعيش فيه ويُؤثِّر عليه. والإنسانُ، منذ نعومة الأظافِر، ينشأُ في وسطٍ فيه الخير وفيه الشر. فطولَ حياته يتعلَّم الطُّرقَ المؤدِّية إلى الخير ويتعلَّم، كذلك، الطُّرق المؤدية إلى الشر. وعقلُه هو الذي يدفعُه إلى هذا الطريق أو ذاك.
وفي هذا الصدد، لماذا قال اللهُ، سبحانه وتعالى في الآية رقم 8 من سورة الشمس : “فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا”؟
قالها اللهُ، عزَّ وجلَّ، ليبيِّنَ للناس، أنه، عندما خلق الإنسان وسواه، أي خلقَه في أحسن صورة، منحه، فِطرياً، القدرةَ على ارتكاب المعاصي، أي اتِّباع طريق الشر، وفي نفس الوقت، منحه القدرةَ على أتباع طريق الخير. لكنه، جلَّ عُلاه، منحه، كما سبق الذكر، العقلَ ليميِّزَ بين الطريقين، أي اختيار أحد هذين الطريقين.
إذن، فكيف للنفس البشرية التي زرع فيها اللهُ، سبحانه وتعالى، فطرياً، الميولَ إلى الخير أو الميولَ إلى الشر، أن تبقى طولَ حياتِها إما فاجرة وإما تقِية؟ والتَّجربة تُبيِّن لنا أن كثيرا من الفُجَّار رجعوا إلى الصواب. وكثيرٌ من المؤمنين انحرفوا عن الصواب. علما أن الحياةَ الدنيا أو المجتمعات مليئة بالخير، وفي نفس الوقت، مليئة بالشر. بل مليئة بالشهوات والملذات والإغراءات. ومن بين الشهوات والملذات والإغراءات ما هو محرَّم كالزنا والخمر، وما هو مذموم اجتماعياً وأخلاقيا كالسرقة والكذب والنفاق.
فهل النفس البشرية، المُلهَمَة بالفجور والتقوى والتي تُصِيب وتخطئ، قادرة على الصمود أمامَ هذه الشهوات والملذات والإغراءات؟ لا أظن. لماذا؟ لأن اللهَ، سبحانه وتعالى، يقول: “إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا” (المعارج، 20) “وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا” (المعارج، 21).
في هاتين الآيتين، كلام الله موجَّه للإنسان الذي تارة يصيبه الفزعُ عندما يُصاب بشرٍّ من الشرور ويمتنع عن العطاء عندما يُصيبُه خيرٌ من الخيرات. أليست هاتان الآيتان دليلٌ على أن الحالةَ النفسيةَ للإنسان غير مستقرة؟
ثم لماذا اللهُ، سبحانه وتعالى، يغفر الذنوب؟ لأن الإنسانَ ليس دائما فاعلَ خيرٍ. بل يميل، أحيانا، إلى ارتكاب المعاصي، فيتوجَّه إلى العليِّ القدير ليغفرَ له ما صدر عنه من معاصي. ثم لماذا يقول، سبحانه وتعالى، في الآيتين رقم 7 و 8 من سورة الزلزلة : “فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ” (7) “وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ” (8)؟
لأنه، سبحانه وتعالى، على علمٍ بأن الدنيا فيها الخيرُ وفيها الشر. والناسُ هم الذين يختارون، بعقولهم، أحدَ الطريقين.
بعد هذه التوضيحات، فهل من الممكن أن تقبلَ عقولٌ نيٍِِّرة ومستنيرة أن السَّلفَ كان كلُّه “صالحا”؟ فهل كانوا كلُّهم مستقيمين؟ وهل كانوا كلُّهم معصومين من الخطإ؟ فهل كانت لهم نفس النظرة عن الدين الإسلامي؟ فهل كانت لهم نفسُ النَّظرة عن الخير وعن الشر؟ فهل كانت لهم مُميِّزات تجعلهم مختلفين، خُلُقاً، عن باقي الناس؟…
واللهُ، سبحانه وتعالى، يقول في كتابه الكريم : “وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ۚذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ” (الشورى، 10). “وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ…”. هذا الجزء من الآية يُبيِّن بأن الاختلافَ سنةٌ من سُنَن الله في الكون، وبالتالي، فرؤية الأشياء، فكرياً، تتغيَّر من شخصٍ إلى آخر. وعندما يقول، سبحانه وتعالى، “مِن شَيْءٍ”، فهذا دليل على أن كل الأشياء التي خلقها الله لا يراها الناسُ، فكرياً ودائما، بنفس النَّظرة.
ولهذا، عندما يُقالُ لنا إن السلفَ كان أعضاءُه كلُّهم “صلحاء” ومعصومين من الخطأ، فهذا شيءٌ غير مقبول، عقلياً ومنطقياً. قد تكون الأغلبية منهم صلحاء، فهذا شيءٌ نقبول.
وإذا نظرنا إلى كلمة “صالِح” لغويا وبحثنا عن مرادِفاتِها، فسنجد أن “الإنسانَ الصالحَ”، هو الإنسان الجيِّد، الطَّيِّب، الأمين، التَّقي، الشريف، الصادق، الصِّديق، الطَّاهر، العفيف، المُخلص، المستقيم، النَّزيه، الوفي…
فهل يُعقل أن تجتمعَ هذه الصفات الحميدة في الشخص الواحد وفي نفس اللحظة؟ وهل يُعقَل أن تجتمع هذه الصفات في الشخص الواحد طولَ حياته؟
إذا كان الأمرُ هكذا، فهذا الشخص غير عادي. بل هو بشرٌ يعيش في مجتمعٍ غير الذي يعيش فيه جميع الناس. وهذا يعني أن هذا النوعَ من البشر استثنائي ولا يتأثَّر بالوسط الذي يعيش فيه.
ولهذا، أن يُقَالَ لنا أن السلفَ كان أعضاءه كلُّهم “صلحاء”، فهذا القولُ نسجته العاطفةُ المبالغ فيها ونسجه الخيالُ.