مقالات

غزة لم تغرق في البحر ولن تغادر شاطئ المتوسّط

غزة لم تغرق في البحر ولن تغادر شاطئ المتوسّط

سليمان أبو ارشيد
قبل أن يتسنّى استيعاب تدمير قطاع غزّة وقتل سكّانه بأيدي حكومة إسرائيل وجيشها، فإنّ وصمة عار تتفشّى وتكبر، ليس لتخيّم على حاضر إسرائيل فقط، بل على ماضيها ومستقبلها أيضًا…

بعد أن فشلوا في تحويلها إلى “ريفييرا” الشرق، وتحطّمت أحلام ترامب ونتنياهو على صخرة صمودها، هناك في إسرائيل من يتوقّع أن تغرق غزّة في البحر، أو أن تتحوّل في أحسن الأحوال إلى منطقة عائمة أشبه بمدينة فينيسيا الإيطاليّة (البندقيّة) التي تتألّف من 118 جزيرة صغيرة محاطة بالمياه، وربّما تكون غير صالحة للعيش بسبب غمر مياه البحر لمصادر المياه الجوفيّة الصالحة للشرب، وذلك وفق نبوءة الاستخبارات العسكريّة الإسرائيليّة “أمان”، في تقرير كانت أعدّته قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وكشف عنه مراسل معاريف العسكري، آفي أشكنازي، الذي أشار إلى أنّ ارتفاع درجة حرارة الأرض وتغيّرات المناخ سيؤدّيان إلى ارتفاع سطح البحر، الذي سيؤدّي بدوره إلى إغراق غزّة، وفقًا للتقرير.

هذا السيناريو ربّما هو ما سيحقّق أمنيّة رابين، الذي دعا أن تغرق غزّة في البحر بعد أن عجز عن إخضاعها. وربّما هو عودة للّجوء إلى الدعاء والتمنّيات، بعد الفشل المتجدّد في تركيع غزّة بعد سنتين من حرب الإبادة، التي وظّفت فيها إسرائيل كامل قدرتها العسكريّة المزوّدة بأضخم وأحدث ترسانة أسلحة أميركيّة، أو بتعبير المحلّل العسكري الإسرائيلي، أمير أورن، فإنّ “كلّ عظمة دولة إسرائيل لم تكن كافية لأن تجعل الأضعف من بين أعدائها، ‘أصحاب الشحاويط والتنادر’، يلقون سلاحهم ويخرجون إلى المنفى ويحرّرون المخطوفين”.

أورن يقول إنّه رغم كلّ محاولات أعوان نتنياهو تجميل الوقائع، فإنّ الحقيقة المجرّدة هي أنّ حرب غزّة انتهت باتّفاق فُرض على نتنياهو… والنتيجة، مرّة أخرى، أنّ إسرائيل لم تستطع إنهاء حرب بانتصار منذ عام 1967، حيث انتهت جميع حروبها التي أعقبت تلك الحرب، حسب رأيه، بالتعادل. وإن كان قد فاته، في هذا السياق، أنّ الحرب على غزّة تختلف عن كلّ تلك الحروب، ليس في كونها فشلت في تحقيق انتصار ضدّ أضعف أعداء إسرائيل فقط، كما قال، بل في أنّها كانت أيضًا أطول حروب إسرائيل وأشدّها وحشيّة من حيث القتل والتدمير، وتسبّبت بتجريم إسرائيل بتهمة “الإبادة الجماعيّة” من قبل المحكمة الدوليّة، وإصدار أوامر اعتقال ضدّ قادتها من قبل محكمة الجنايات الدوليّة بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانيّة، وإدخال إسرائيل في عزلة دوليّة غير مسبوقة.

ومن الجدير الالتفات، في هذا السياق، إلى ما كتبه يورام هربيز، أستاذ التربية في كلّيّة بيت بيرل، الذي أشار إلى تسبّب هذه الحرب بانهيار روايتين أو ركيزتين أساسيتين قامت عليهما دولة إسرائيل؛ الأولى كونها ملجأً للشعب اليهودي، والثانية أنّها، بصفتها دولة الشعب اليهودي الذي وهب العالم الوصايا العشر وأخلاق الأنبياء، الشعب الناجي من المجازر والمحرقة، على حدّ وصفه، ليس بإمكانها ارتكاب جرائم حرب، وبالتأكيد ليس إبادة جماعيّة.

هاتان الروايتان، سقطتا في حرب السابع من أكتوبر، كما قال؛ الأولى انهارت في اليوم الأوّل للحرب، وحتى قبله، في حين أنّ الرواية الثانية، التي أتاحت للناس البقاء في إسرائيل حتى بعد انهيار الرواية الأولى، فإنّ انهيارها يجعل تحدّي البقاء في الدولة (إسرائيل) ليس فقط ماديًا، بل أخلاقيًا أيضًا، إذ إنّ ما يصفه بـ”الجرح الأخلاقي” سيزداد اتّساعًا في أوساط الإسرائيليين، الجنود والمدنيين، ويبرز بشكل خاص عندما يصل المراسلون الأجانب إلى غزّة، ويكسر الجنود الصمت، وينشر الباحثون استنتاجاتهم، وتتوضّح الصورة أكثر فأكثر؛ إذ إنّه فقط مع مرور الزمن سيتاح استيعاب حجم الكارثة، أو كما كان يقول مرشدون في متحف “ياد فشيم” عن “المحرقة”، إنّها كلّما ابتعدت تصبح أكبر.

علمًا أنّه قبل تشكّل مثل هذه المسافة الفاصلة التي تتيح رؤية أفضل، وحتى قبل أن يتسنّى استيعاب تدمير قطاع غزّة وقتل سكّانه بأيدي حكومة إسرائيل وجيشها، فإنّ وصمة عار تتفشّى وتكبر، ليس لتخيّم على حاضر إسرائيل فقط، بل على ماضيها ومستقبلها أيضًا. وبلغتنا، فإنّ لعنة غزّة ستطاردهم كلّما نظروا إلى أنفسهم في المرآة، وستبقى تحاصرهم فلسطينيًّا وعربيًّا ودوليًّا، على طريق تحويلهم إلى دولة معزولة ومنبوذة من قبل جميع شعوب العالم ودُوله.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب