ثقافة وفنون

فضاءات التشكيل الأسطوري في أعمال خالد المبارك

فضاءات التشكيل الأسطوري في أعمال خالد المبارك

جاسم عاصي

التشكيل بنية صاعدة

خلال ما يجسده الفنان خالد المبارك في لوّحاته ومنحوتاته، تستوقفنا جملة رؤى فنية بتأثير تعامله مع ثيمة الواقع وعكسها على سطح جدار اللوحة، باتخاذ الجدار طُرسا لمدوّنة كبيرة يخط على سطحه مجموعة تمائمه ورموزه التي أنتجها عقله الباطن، ضمن علاقته بالطبيعة ومجرياتها. فهي رموز شائعة، لكن الصعب يتعلق في معالجتها في النص البصري بقوة وجمالية مبتكرة ومصاغة برؤى راكزة، كما لاحظنا ذلك في لوّحات كل من جواد سليم وشاكر حسن آل ياسين، أي ذات عطاء يُثير الجدل والحوار مع محتواها. ولعل الاختلاف في التعامل يكمن في الإبداع الفني ـ فالفنان المبارك يتعامل مع هذه المعارف بشكل متواز، وحسبما تقتضي الحاجة للإنتاج الفني. فالأساطير مثلا واحدة من تلك المتون التي وجدت لها متسعا في اشتغال المنتِج، التي يعدّها مُعينات ذات بُعد فكري أنتجت جملة من الرؤى والأشكال التي كان يمارسها الإنسان القديم من أجل إبقاء العلاقة مع الواقع.
وهي في مجملها علاقة إيجابية وتبادلية متوازنة، فقد كانت بمثابة القوانين الاجتماعية والنفسية التي أنتجتها الحضارات الأولى، وسجّلها عقل التاريخ كواحدة من الفعاليات المؤثرة والمنتجة. ولأنها زاخرة بالمعاني والرموز الدالة على ظواهر تتجدد في كل العصور بتجدد النظرة إلى حراكها الداخلي، الذي يكشف عن التاريخ والبنيات الإنسانية باستمرار. من هنا نرى الفنان يميل كثيرا إلى الرموز بسبب تقارب البُعد المعرفي للفنان مع هذه المعارف والمتون، وهو يصوغ موضوعه على أساس جمع بنيات المخيّال، عبر رصد مكوّنات قارّة معرفيا، وقادرة على استنهاض ملكته الفنية، سواء كان هذا التوظيف بدوافع قصديه لتصعيد المعنى، أو أنه استعمال عفوي تنتجه الذاكرة المعرفية، أو الجينات المعرفة، وهي التوائم بين العناصر، لغرض إغناء المعنى المراد التعبير عنه. إن هذا التوظيف إنما يخلق آليات خاصة ملزمة للفنان في الحفر في جانبها المضمر، ليكون فاعلا في إنتاج معاني تنهض بالمعنى المحكوم بالزمان والمكان. فهي لا تتوقف على نمط ثابت، بقدر ما تتحرك وفق النظرة الخاصة للفنان.


ومن هذه المتون المعرفية التي وجدناها تُشكّل السدة واللحمة في ما قرأناه بصريا في لوحات بعض الفنانين، لعل الفنان خالد المبارك واحد منهم. فهو يسعى إلى إحداث مقاربة نصية بين نصه البصري ونصوص الأساطير، خاصة أساطير حضارة وادي الرافدين والاستفادة من الرموز الأسطورية وفعاليتها في المتون، كما هو في ملحمة جلجامش. إذ كان الفنان متأثرا بها، عاكسا لرموزها توظيفا يعتمد التعشيق والإزاحة والاكتفاء بالإشارة باعتبارها علامة تؤدي إلى توسيع المعنى على سطح اللوّحة، وضمن العلاقات الداخلية التي تمتلكها الرموز دلاليا. وفي هذا حاول الفنان أن يُكيّف الرموز هذه حسبما تتطلب الظاهرة زمانا ومكانا، حيث لا تطغى على متشكل اللوّحة في تحويلها إلى نسخة لصورة الموروث، بل يمنحها مقاربة نصية مبتكرة ومتجددة.
إن مثل هذا التوظيف المحكوم برؤى ذاتية، يكون مرة بدوافع المعرفة والثقافة العامة، وهي قدرات دافعة وضاغطة لتمثيل مثل هذه المعرفة، ومرة تكون مبررا بسبب الضاغط السياسي والاجتماعي، فهي بذلك تُمثل مجموعة أقنعة فنية يُعبّر خلالها الفنان عن رؤيته للظواهر وسعيه لنقدها عبر العرض والحراك وتقصّي الظاهر والمضمر في اللوّحة. لعل الشائع في اللوّحات ظهور رموز الخصب والنماء، عبر تجسيد صوّرها الأسطورية الدالّة على مُعينات لتصعيد حراك اللوّحة في هذا المجال. وبعض هذه اللوّحات اقتربت في تشكّلها من البنية الفنية القديمة كالحفر والتجسيد والزخرفة والرموز الهندسية كالدائرة والمثلث والماثلة في جسد جدار الفنان ـ سطح اللوّحة ـ إلى ما هناك من رموز غدت تشكّل صيرورتها الرئيسية والأساسية فنيا، والآلية التي تكشف جوّانيتها. لقد عبّر الفنان عن جهده في خلق رموزه من الرموز القديمة وبحرية واضحة ومنعكسة في طبيعة المنجز الفني من خلال إضفاء الجانب الذاتي على تفاصيلها. إن هذا التماثل مع الأساطير يعني جوهر التعامل الفذ، غير أنه استطاع أن يطوّعها لما هو مطلوب بخصوص المعنى الجديد. فالفنان أخذ بمبدأ التقريب من خصائص هذا الرمز أو ذاك، بالاستفادة من دلالته العامة والقابلة للتطويع، والذاتية بما يختزنه من دلالة تجد مجالها الحيوي على السطح، مستفيدا أكثر من الرموز التي خلقتها الظواهر في التاريخ القديم. وقد حوّل الرمز من دلالة الموت والفناء إلى دلالة الولادة والنماء.
ولعل فن التجريد الذي كان منهجا فنيا لبعض الفنانين تم خلاله توظيف الرموز والحروفية، وهي رموز تقترب من حروفيات وأشكال ورموز الكتابة القديمة كالمسمارية والصوّرية، وظفت إلى جانب الأشكال والرموز الأخرى كرمز الشمس والقمر والأهلة، والأشكال الهندسية، كالمثلث والدائرة. وفي هذا ظهر لنا الجسد بعامّة كوحدة موضوعية ضمن مشغولية الفنان، لتأكيد العلاقة الثنائية وتجسيدها بين الذكورة والأنوثة، التي تُسفر عن صراع تاريخي معروف شهدته العصور، والتاريخ الميثولوجي على وجه الخصوص. وبهذا نرى أن الفنان أكثر جدية وهو يقترب من البنية الدالة في التاريخ، واتخاذها صورة من صوّر التصعيد البنيوي للنص التشكيلي. لقد حاول الفنان في هذا المضمار بذل الجهد في تفكيك المشاهد من أجل صياغتها، وفق رؤيته الذاتية، التي هي استجابة لرؤية جمعية. فذاكرة الفرد هنا منبثقة من ذاكرة الجماعة، التي عدّها الفنان الملاذ الذي يركن إليه، جرّاء ضغط الأزمنة المرّة والحافلة بالمتغيّر السلبي.
إن الفنان في ضرب آخر من التعبير، عمل على التوجه إلى الطبيعة، لعكس خصائصها ودلالات رموزها التي استنبتت منذ أقدم العصور. غير أنه تعامل معها على أنها من عناصر المكان وحافظة لأسراره. وما توجهه إلى تجسيد عناصرها سوى العمل للمحافظة على خصائصها المبهجة، فقد وجدنا ذلك في اللوّحات التي برز فيها المكان والبيئة المائية وفق صياغات فنية مشبعة برؤى المتخيل الفني.

اللحظات المخلـّقة في الفن

إن ما نعنيه هنا، ونحن بصدد رصد تجربة الفنان المبارك، التأكيد على أن تعامله المبكر والمتجدد مع أقدم نص ميثولوجي هو ملحمة جلجامش، قد أتاح له المجال الحيوي في تجديد العلاقة مع نص الموروث من جهة، وتجدد تلك العلاقة الدلالية بما يناسب المستوى المعرفي الإنتاجي من جهة أخرى، فهو قد عمل معتمدا على سيرة حياة ملك يُعد الخامس في سِفر ملوك أوروك ولسيرته أوجه متعددة، ابتداء من علاقته برعايا أوروك من جهة وآلهة المعبد من جهة أخرى، ثم تطور علاقته مع أنكيدو ورحلتهما إلى غابة الأرز، وتجدد ذهابه إلى أتونبشتم، بعد رحيل أنكيدو إلى العالم الأسفل، ومحاولته الفردية في بحثه عن عشبة الخلود، لذا فهذا التجدد شكّل لدى الفنان هاجسا في التعامل مع الأسطورة من أوجه مختلفة، ونعني بها جدلية تلك العلاقة وحيويتها، ثم حيوية القراءة المستندة إلى معرفة عامة وفنية خاصة. لقد أكد الفنان أن قراءته للأسطورة والميثولوجيا الرافدينية امتدت إلى ثلاثة عقود ونيف من الدراسة والتقصّي، التي أكدت في معانيها حول رقي الإنسان وفلسفته تجاه الحياة والموت والعالم الآخر.
من هذا نرى تعامل الفنان مع الأسطورة من باب خلق بانوراما جامعة للرموز، فكأنه بواسطة سرد الخطوط والألوان يشكّل مجموعة مشاهد تمنحنا معنى معينا، وتُحيلنا إلى متن أسطوري معين. وباجتماع هذه اللقطات نكون بمواجهة مشهد متكامل، يعتمد كثيرا على البنية السردية، مرَحّلا لها من سرد اللغة، موظفا إياها عبر أدواته الفنية. ولعل المحاور التي يشتغل عليها تُشير إلى الغنى الفلسفي للمشاهدة والجدلية الفكرية. فالفنان في هذا يتأمل الواقع والتاريخ، وحراك الحيوات، ما يولد لديه شبكة من المؤثرات يعكسها في عمل جمالي متفرد، يغتني بالحركة والإثارة الفكرية. ويمكن إجمال هذا في ما نراه واضحا ومؤثرا بصريا ونحن نراقب وندرس بنيات النماذج الفنية في أعماله.

الرموز القارّة

ونعني هنا الرموز الأسطورية المتعارف عليها، والتي غدت من علامات التوظيف في النص بشكل عام، لكن ما يميّز هذا عن ذاك؛ هو الكيفية التي توظف فيها هذه الرموز. كما لاحظنا الكيفية التي وظف بها جواد سليم رموزه، والكيفية التي تتوزع فيها الرموز وكيفية توظيفها في اللوّحة، سواء كان هذا في ملحمته نصب الحرية، أو مجمل لوّحاته الأخرى. والمبارك في هذا نجده يستدعي الرموز القارّة، أي التي تم التعارف على مدلولاتها. غير أن ما يؤكد التجديد في فحص وتفعيل هذه الرموز، هو خلق علاقات جديدة بينها. وهي في معظمها رموز دالة على الخصب استلها من الملاحم ورموز الآلهة. فمثلا يضع رمز الطير بشكل مواز لصورة المرأة، وبذلك يغني اللوّحة بهذا الرمز ويمنحه حيوية جدية ضمن طبيعة الأداء الفني، أي المجاورة مع بقية الرموز. وذلك بإيجاد علاقة بين هذا الرمز والأشكال التي تظهر خلالها وجوه الأطفال. فتعددها دال على الإخصاب في الحياة. هذه العلاقة البانورامية جسّدت وجددت فعالية الرمز بسبب وضعه ضمن مجاله الحيوي. فالفنان في هذا يُكثر من الأشكال التي تُحيل سطح اللوّحة إلى مجموعة منمنمات. وهو شكل فني يكشف تلك العلاقات القارّة ويعبر بها باتجاه دلالات جديدة. هذا من جهة، ومن جهة أخرى يخلق علاقات دلالية أخرى ففي مقطع من إحدى لوّحاته التي تشكّل بانوراما في التوظيف، نتوقف على مجموعة رموز ذات علاقات واضحة، وهي علاقات سردية، أي أنها غير موضوعة لذاتها، بقدر ما تشكل علامة مع مجموع العلامات مثل الطير، النباتات الأسطورية والسحرية، الأفعى، عشبة الخلود وقرص الشمس وخيوطه، ولنرى ما تعنيه العلاقات بين هذه الرموز. إذ نرى أنها بالتكرار دالة على توالي الأفعال. فالأفعى والعشبة تتكرر بهيئات متعددة، وهذه السردية في بنيتها تعني التوالي والظهور لمثل هذه الصراعات بين الأقطاب. فالعشبة هنا، كما هو معروف، دليل التجدد، لكن تربص الأفعى يأتي لاحقا لوقف فعلها العام عبر مصادرتها من قبل رمز الأنوثة هذا، ما يقودنا إلى أزلية الصراع بين الذكورة والأنوثة كنظامين مختلفين بنية وتشكلا، لاسيّما جانبهما السلبي. لكنه في الوقت نفسه يُحيل إلى بنية جديدة تؤثر على بنية الآخر في استحصال بنيات تستطيع بناء الحياة واقعيا، كما حصل لجلجامش بعد فقده للعشبة على شفة البئر. وهذا يعني بطبيعة الحال، إن العمل ضمن لوحة الفنان يعني تجسيد الجدلية القائمة في الحياة، وتفعيل حراكها بما يؤدي إلى إخصاب الحياة وليس موتها. وأرى أن هذا ما اعتمده الفنان وهو يتناول الملحمة في أكثر من محاولة فنية، أو كما ذكر الفنان نوري الراوي من أن الفنان استطاع أن يُمسرح لجلال الملك الأوروكي هيبته، وأن يُعيد رؤاه الإنسانية إلى عصر لا يؤمن بالأساطير. وهو بذلك إنما يقرأ الفاتحة من أعلى جبل في لبنان على روح همبابا حارس غابة الأرز، فيما هو يتنفس هواء كل التواريخ والدهور والعصور، من خلال ذاته السلالية وهذا ما نعنيه بخلق العلاقات الجديدة عبر رموز قارّة. كما أننا نجد أن مرويات اللوحة الأخرى وهي تنظّم إلى مجموع المرويات الكبيرة الظاهرة على سطح اللوحة. فمثلا الأفعى لا تظهر في مجالات غير ما ظهرت وهي تحاول التهام العشبة، بل أنها تحاول أن تتوارى وتختفي داخل أطر الحياة، دونما حيوية. وهذا يُشير إلى محاولات الإلهة عشتار لاستمالة جلجامش بعد عودته من غابة الأرز وقتله مع أنكيدو، وهذه الاستمالة هي محاول لشق عرى العلاقة بينهما، لأنها تُدرك خطورتها المستقبلية، على الرغم من حيازتها لعشبة الخلود بواسطة رمزها الأفعى، بإغرائه خلال وعودها بصنع سرير لهما من خشب شجرة الخالوب أو الخالوبا. لكنه وبمعاونة انكيدو صدها وأفشل مشروعها وضربها بالفخذ الأيمن للثور السماوي. وهذا الفعل ذو مساس بهيبتها الإلهية. وهو موقف حدي ومبدئي أوصل أنكيدو إلى الاغتيال من قبل مجلس الآلهة ـ حسب تحليل وقراءة الباحث ناجح المعموري. هذه المركبات في العلاقات هو ما عنيناه عبر عمل الفنان. ولم يقتصر هذا على هذه الرموز فحسب، بل تعامل مع غيرها بالمقدار والقوة الدلالية نفسها في لوّحات أخرى، كما هو مع السمكة باعتبارها دليل حيوية الإخصاب لعلاقتها بالماء، وتماثلها مع صورة المرأة التي تشكّل ثنائية دلالية في مجموع لوّحات الفنان.

 

كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب