باليه آنيوتا: من قصص أنطون تشيخوف
مروة صلاح متولي
من قصص أنطون تشيخوف التي تم تحويلها إلى باليه، قصة «قلادة آنا» أو «آنا حول العنق» ويحمل الباليه اسم «آنيوتا» الذي هو أحد أسماء بطلة القصة التي تدعى «آنا». الباليه من عروض فرقة البولشوي الروسية، صممه فلاديمير فاسيليف ويستغرق عرضه ساعتين وربع الساعة تقريباً، ويعد من العروض الرفيعة ذات الروح الأدبية الطاغية، حيث يترجم رقصاً المعاني والمشاعر التي صورها أنطون تشيكوف ببراعة في قصته.
نشرت قصة «قلادة آنا» للمرة الأولى سنة 1895، وهي من القصص الرائعة التي كتبها القصاص الروسي، الذي يعد من الآباء الخالدين لهذا الفن الأدبي. آنا التي تدعى كذلك آنيوتا، شخصية من شخصيات تشيخوف العديدة التي رسمها بمهارته المعتادة، وبأسلوبه الفريد الذي يجعل من الشخصية الأدبية شخصية حية لا تنسى، بآلامها وأحزانها وتناقضاتها وبكل الجوانب المعقدة في أعماقها.
يتميز هذا الباليه إلى جانب قيمته الأدبية بموسيقاه الجميلة، الخفيفة رشيقة النغمات في أغلب مقاطعها، وبالرقصات المستوحاة تماماً من أجواء القصة، والأسلوب الحركي المعبر عن كل شخصية من الشخصيات، كما رسمها تشيخوف بدقة، حتى الأجزاء الواردة في القصة التي لم يكن ممكناً التعبير عنها بالرقص والحركة في الباليه، تم الاعتماد في معالجتها على الأداء التمثيلي الصامت، وفي هذا المقاطع التمثيلية الصامتة قد يشعر المرء بأنه أمام صفحات مفتوحة من قلب قصة تشيخوف.
يبدأ الباليه بالجناز الكنائسي لأم آنيوتا التي توفيت وتركت آنيوتا مع أبيها وأخويها الصغيرين، كانت آنيوتا في الثامنة عشرة من عمرها عند وفاة أمها، أما أخواها اللذان يصغرانها بعدة سنوات فكانا لا يزالان في طور الطفولة. تخلو بداية الباليه من الرقص تقريباً، حيث يتوسط المسرح التابوت، الذي في داخله الأم المتوفاة، يحيط به كل من الأب وآنيوتا وشقيقاها، وعلى جانبي المسرح نرى مجموعتين تمسكان بالشموع بينما تتلى الصلوات وتؤدى الترانيم الجنائزية، ثم يأتي القسيس حاملاً مبخرته ويرفع البخور ويقيم الطقوس اللازمة.
ينتقل الباليه بعد ذلك إلى بيت الأسرة الذي يخيم عليه الصمت والحزن الشديد، والوحشة والكآبة والفراغ ومرارة الفقد، تضم آنيوتا شقيقاها إلى أحضانها وتحاول أن تصير أماً صغيرة لهما، وفي الوقت نفسه تعمل على تضميد جراح قلبها واستعادة توازنها، ويغلب عليها الشعور بالمسؤولية تجاه الجميع، على الرغم من حداثة سنها.
أما الأب فيبدو مصابه عظيماً وألمه غير محتمل، فيلجأ إلى الفودكا التي تخدر آلامه بعض الشيء وتذهب بعقله وتؤدي به إلى الكثير من الدمار الأدبي والمادي. يفرغ المسرح تماماً إلا من الأب الذي يبقى وحيداً يناجي صورة زوجته المتوفاة المعلقة على الحائط، والأب هو من يفتتح الرقص في هذا الباليه، حيث يرقص أولى رقصاته بخطوات خفيفة بينما يلف ذراعيه حول جسده، متخيلاً أنه يلفهما حول جسد زوجته، يظل يرقص ويدور متخيلاً أنه يراقص زوجته ويضمها بين ذراعيه. بعد رقصة الأب الحزينة الخفيفة ينتقل الباليه إلى المزيد من الرقص بحركات أشد ثراء وحيوية، حيث يمتلئ المسرح بمجموعات من الشباب والفتيات يجمعهم الحب والمرح والحيوية، وتأتي آنيوتا لترقص مع شقيقيها وتكون حركاتهم مستوحاة من الرقصات الشعبية الروسية، ثم تتطلع آنيوتا إلى حبيبها الشاب الذي لا يزال طالباً يستكمل دراسته، وتستأنف الرقصة بشكل فردي وبعد ذلك تغادر المسرح ويتبعها الحبيب الشاب. ثم يظهر الرجل الخمسيني الذي سيصير زوجها في ما بعد، ليؤدي رقصته الفردية التي يعلن فيها من خلال الحركة عن صفاته الشخصية التي ذكرها تشيخوف في القصة، ويلاحظ أن تصميم الأداء الراقص لهذه الشخصية كان يغلب عليه الطابع الفكاهي إلى حد ما، ويثير الضحك في بعض اللحظات، كما أن الموسيقى المصاحبة للرقصة كانت توحي بشيء من الكوميديا أو على الأقل توحي بعدم أخذ هذه الشخصية على محمل الجد، على الرغم من أنه ليس شخصاً ساذجاً، بل هو شخص يسعى وراء مصلحته ومنافعه الخاصة، بغض النظر عن أي اعتبارات أخلاقية أو أي أمور تمس الشرف والكرامة، وتم التعبير عن ذلك حركياً من خلال خفة الحركة ولغة الجسد المنافقة، خصوصاً أمام صاحب السمو، كما نراه شكلاً كما وصفه تشيخوف أيضاً بلا شارب وبسالفين كثين.
نتعرف على قصة حب آنيوتا والطالب الشاب من خلال أول رقصة ثنائية في العمل، وهو حب لا أمل فيه، فأوضاع والدها آخذة في التدهور والانهيار، والحبيب الشاب لا يزال فقيراً لا يستطيع الزواج، تعكس هذه الرقصة أيضاً مدى براءة آنيوتا من خلال ملابسها وحركاتها، وهو ما سيتغير تماماً إلى النقيض في نهاية القصة، تنتهي الرقصة بحركة شديدة الصعوبة يؤديها الراقصان بمهارة، من بعدها يفترقان ويذهب كل منهما في طريق، وتتزوج آنيوتا من موديست أليكسيتش الذي يكبرها بسنوات كثيرة تحت ضغط ظروف معينة وسوء أحوال عائلتها، لكنها وجدت نفسها بعد الزواج أكثر حرماناً من المال والعاطفة والسعادة والحياة وكل شيء.
يبدأ الفصل الثاني من الباليه بالحفل الراقص الذي تذهب إليه آنيوتا مع زوجها، وتختبر عالماً جديداً للمرة الأولى في حياتها، حيث صفوة المجتمع وكبار الرجال من أصحاب الشأن والسطوة والنفوذ، وتكتشف جمالها ومدى تأثيره على الرجال الذين أحاطوا بها من كبار النبلاء والضباط. ترقص مع أرتينوف الرجل الوسيم الجذاب، بينما زوجها يراقب الأمر بهدوء، ثم يؤدي أرتينوف بعض الحركات الفردية مستعرضاً جماله وقوته أمام آنيوتا، وترقص هي رقصة تارنتيلا، حيث تشعر بقوة جمالها وأنوثتها، ثم ترقص رقصة أخرى بينما يركع أمامها الرجال، وتجمع الكثير من النقود لأغراض خيرية. تظل آنيوتا ترقص حتى يأتي صاحب السمو ويراقصها، ثم يذهب بها إلى الداخل بينما ينتظرها زوجها ويراقبها أرتينوف من بعيد، هكذا تكون آنيوتا محاطة بثلاثة رجال تتبادل الرقص مع كل منهم، ثم تعود متعبة إلى البيت مع زوجها فيحملها ويضعها في فراشها.
تحلم آنيوتا بحبيبها الطالب الشاب وترقص معه رقصة رومانسية جميلة، بعد ذلك وفي حفل آخر يمتلئ المسرح بالرجال الراغبين في التقرب إلى آنيوتا، ومنهم صاحب السمو وأرتينوف ومجموعة من العسكريين، يبدو زوجها خائفاً أمام صاحب السمو الذي ينعم عليه بقلادة آنا، التي تعد وساماً رفيعاً وخطوة في طريق المجد والنفوذ الذي يسعى إليه موديست أليكسيتش، يرقص الزوج رقصة الزهو والفرح بهذا التطور متطلعاً إلى تحقيق المزيد من وراء جمال زوجته الشابة آنيوتا. بينما تنغمس آنيوتا في حياة اللهو والعبث والسهر يفلس الأب وتتم مصادرة أثاث منزله، ويجد نفسه مع طفليه في الشارع تحت الثلوج المتساقطة، بينما ترقص آنيوتا وتنتقل من رجل إلى آخر غير عابئة بأبيها وشقيقيها.
كاتبة مصرية