
عبء الذاكرة وهندسة المنفى في فيلم «البروتالي»

عبد السلام دخان
فيلم «البروتالي» ( The Brutalist) للمخرج برادي كوربيت ليس مجرد عمل سينمائي يسرد قصة مهاجر ناج من ويلات الحرب العالمية الثانية، بل هو تأمل فلسفي عميق في إشكالية الوجود الإنساني، ضمن سياق حداثي يحاول التخلص من ثقل الذاكرة وضغوط التغريب، لتتحول الهجرة من حدث جغرافي إلى استعارة لأنطولوجيا التشظي، حيث يفقد الفرد مرجعياته في رحلة البحث عن ذاته بين أنقاض الماضي ووهم الحاضر.
فيلم «البروتالي» تجربة سينمائية معقدة تتداخل فيها عناصر السرد الدرامي مع الدقة البصرية والتقنيات السينمائية المبتكرة، لتقديم خطاب فلسفي حول علاقة الإنسان بالفضاء المعماري والوجود. يروي الفيلم قصة لازلو توث، المهندس المعماري اليهودي المجري الذي نجا من أهوال «الهولوكوست» وهاجر إلى الولايات المتحدة ليبدأ حياة جديدة، في ظل ترقب وصول زوجته «إيرزيبيت» التي بقيت في أوروبا الشرقية مع ابنة أخته بعد الحرب. هنا، لا يُعد «لازلو» مجرد شخصية، بل يتحول عمله وإنجازاته إلى مرجع أسلوبي يُعيد تشكيل توقيت الفيلم عبر تناغم دقيق بين اللقطات الطويلة المتقطعة والفواصل الحادة، مما يعكس التوترات النفسية والتاريخية المتراكمة في حياته.
من الناحية البصرية، يتجلى اختيار الكادر السينمائي في استخدام تقنيات تمنح العمل رؤية واسع ومساحة أكبر. لتبرز العمارة ليس بوصفها مجرد خلفية مشهدية، بل شخصية فاعلة تساهم في نمو السرد البصري وتوتره. ويتجاوز فيلم «البروتالي» حدود التصوير التقليدية، من خلال تنوع أساليب الكاميرا؛ إذ ينتقل التصوير بين اللقطات الثابتة ذات التكوين الرسمي والحركات المحمولة باليد بطريقة جريئة، كما يتجلى ذلك في تسلسل واحد معقد ينتقل فيه التصوير بسلاسة بين تقنيات مختلفة، ما يعكس استعداد صناع الفيلم الروائي لإيجاد حلول إبداعية للتحديات الفنية. ويخلق المونتاج الذي يعتمد على تقطيع زمني غير متوازن إحساسا بالاغتراب والانفصال، حيث تتناوب اللقطات الطويلة التي تنقل ثقل الزمن مع مشاهد سريعة تعكس هشاشة الأمل، ما يجعل الزمن عنصرا مساهما في الإدراك والفهم، وتأويل إبدالات المعنى.
وتستخدم الإضاءة القاسية ذات الظلال الحادة داخل المباني لإبراز كآبة المكان وجموده، في حين تُستعمل الإضاءة الطبيعية الخافتة في الفضاءات الخارجية كرمز للهروب المؤقت من قيود المبنى. وتندمج في الآن نفسه الموسيقى التصويرية المسجلة مسبقاً على يد البريطاني دانييل بلومبرغ مع البيئة الصوتية المحيطة؛ إذ تشكل إيقاعات صناعية وأصوات خرسانية (كطرق وصرير) نسيجا سمعيا يُحرك الذاكرة ويعيد بناء الفترات الزمنية، دون الحاجة إلى عناوين نصية صريحة على الشاشة. ويقدم فيلم «البروتالي» هذه رؤية بصرية مركبة عبر تشابك ثلاث طبقات رمزية: الجسد، الغريب، العمارة، بوصفها سردية صامتة والمدينة كفضاء معاد للإنسانية، ليصوغ من خلالها خطابا نقديا عن أزمات العصر، بداية من زمن الحرب، وصولا إلى زمن الرأسمالية المتوحشة. وينكشف هذا التحول عبر السرد البصري للفيلم الروائي الطويل من خلال سردية حياة مهاجر يحمل جراحه إلى أمريكا، ليتحول ثقل الذاكرة إلى ألم لا يفارقه في وقت يفرض عليه العالم الجديد التخلي عن هويته كشرط للاندماج. وتبعا لذلك تصبح العمارة البروتالية التي يبتكرها المهاجر «لازلو» لغة مزدوجة لترميم الذات عبر خلق هياكل صلبة تبدو قادرة على تحمل الزمن من جهة، ومن جهة أخرى اعترافا ضمنيا بهشاشة الإنسان الذي يختبئ خلف جدران الخرسانة، هذه الثنائية تتساوق مع مرجعية مارتن هيدغر الفلسفية عن السكن إذ يعده عملية وجودية تحول الفضاء إلى مرآة للكينونة. إلا أن «لازلو» يفشل في تحقيق انكشاف الكينونة، لأن تصاميمه المعمارية تتحول إلى نصب تذكاري لجراحه، بدلا من أن تكون ملاذا لهويته الممزقة.
لا يقتصر الفيلم على استعارة العمارة كمجاز بصري، بل يغوص في تشريح جسدية الاغتراب عبر أداء أدريان برودي، الذي يحول صمته إلى خطاب فلسفي حيث تتحرك شخصيته مثل كائن معلق بين عالمين، جسديا في أمريكا ما بعد الحرب، وروحيا في حقول الموت الأوروبية. لذلك تشي حركاته المتشنجة وإيماءاته بتناقضات الإنسان الحديث الذي يجبر على التكيف مع قواعد لعبة لم يخترها فيصبح جسده كما يصف ميرلوبونتي وسيطا معذبا بين الذات والعالم. هذا التوتر يتجسد في مشاهد الحوار مع رجل الأعمال هاريسون غاي بيرس، حيث تتحول المفاوضات حول التصاميم المعمارية إلى مبارزة صامتة بين قوة المال وهشاشة الفن.
فيلم «البروتالي» يتجاوز البعد الفردي ليقدم نقدا جريئا لبنية المجتمع الرأسمالي الذي يحول كل شيء بما في ذلك الفن إلى سلعة. مشهد تمثال الحرية المقلوب ليس مجرد تعبير سريالي، بل هو بيان بصري عن انهيار القيم الإنسانية تحت وطأة الآلة الرأسمالية. ووفق هذا المعنى تصبح ناطحات السحاب التي صممها «لازلو» استعارة بصرية للمؤسسات الصلبة، حيث تتحول الأجساد بطاقتها الحيوية إلى أدوات إنتاج في نظام يقدس الكفاءة، ويحطم الروح.
يقدم فيلم «البروتالي» تساؤلا ملحا عن مصير الفن في عصر التكنولوجيا عبر استخدام الذكاء الاصطناعي لتعديل لهجات الممثلين في إشارة إلى أزمة الهوية في عالم تعيد الآلة تشكيله هل يصبح الإبداع مجرد محاكاة هجينة، أم أن التكنولوجيا تفتح آفاقا جديدة لاختراق الحدود الثقافية؟ يبدو العمل منقسما بين هذين المسارين فمن جهة يعكس قلقا وجوديا من سطوة الآلة، ومن جهة أخرى يلمح إلى إمكانية استخدام الأدوات التقنية لنقد الهويات القومية المتصلبة. هذه الإشكالية تلتقي مع معضلة «لازلو» الشخصية هل تصاميمه المعمارية محاولة للحفاظ على جذوره الأوروبية أم أنها استسلام لشروط الاندماج في المجتمع الجديد.
يتحول «البروتالي» إلى مرثية عن هشاشة الوجود البشري، فكما تنكسر الخرسانة تحت ضغط الزمن ينهار الإنسان تحت ثقل ذاكرته. لكن الفيلم يعمل على تقويض الهشاشة لأنها تتحول إلى مصدر للجمال. وهو ما يمكن رصده في المشاهد الأخيرة التي تظهر «لازلو» يتفحص أنقاض مبناه المنهار. لا يصور المشهد فشلا، بل تحولا وجوديا، واعترافا بأن الإبداع لا ينبع من محاولة الهروب من الماضي، بل من القدرة على تحويل الجرح إلى فن. بهذا المعنى تصبح السينما محاولة مستمرة لبناء معنى.
ويُعدّ فيلم «البروتالي» خطابا وجوديا يتناول موضوع الهيمنة المادية والرمزية؛ إذ يصبح المبنى الخرساني رمزا للأنظمة التي تسحق الفرد، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو ذهنية. وبينما تتداخل قصص الشخصيات التي تسكن هذا الفضاء الضخم، يظهر التناقض بين العزلة والانتماء، ويُطرح السؤال عن إمكانية التحرر الحقيقي من قيود المكان والزمان. النهاية المفتوحة للفيلم تُترك للجمهور ممكنات تأويلها، مما يحوّل المشاهد إلى شريك فاعل في تشكيل المعنى. بذلك، ينجح «البروتالي» في تحويل كل عنصر تقني من الإضاءة والتصوير والمونتاج إلى تصميم الإنتاج واختيار الأثاث والألوان إلى لغة بصرية تحمل دلالات رمزية عميقة، وتوفر محمولات تكشف أهمية تطوير «صوت المؤلف» والاعتماد على إلهام مستمد من الفن والعمارة والعالم المحيط.
كاتب مغربي