موسوعة “غزة عبر التاريخ”: حبر لا يجفّ مثل دم مدينتها

موسوعة “غزة عبر التاريخ”: حبر لا يجفّ مثل دم مدينتها
تتّسع موسوعة إبراهيم سكيك لكلّ ما ضاقت به غزة، ديارها ودوائر الدهر فيها، ودوران الزمان عليها. ولا نظنّ أنّ عملًا يمكنه أن يقصّ علينا حكاية ذلك الرمل المبلل على ساحل المتوسط الجنوبي لفلسطين، مثلما تفعل موسوعة غزة عبر التاريخ
“لطالما شعرت بحاجة القرّاء والباحثين إلى كتاب لمدينة غزة، يبرّر مجدها التليد وتاريخها الطويل، والأحداث التي مرّت بها في عمرها المديد الذي يُقدَّر بعشرات القرون، كنت أشعر بحاجة المكتبة العربية إلى سفر كهذا”.
كانت هذه أولى كلمات ابن مدينة غزة، الكاتب الراحل إبراهيم سكيك، في مقدّمة موسوعته الشهيرة غزة عبر التاريخ.
كان من جملة ما جاءت عليه حرب إبادة غزة خلال العامين الماضيين: ذاكرة غزة الورقية، غزة الثقافية والمعرفية المكتوبة بحبر كاتبيها؛ علماؤها ومثقفوها، شعراؤها ومؤرخوها. حبر خَطّ، مصبوغ بالدم، تاريخَ غزة، قبل أن يعاود دمُ الغزيين المسفوح في حرب إبادتهم شربَ حبر مدينتهم المخطوط على ورقها المتيبّس.
ومن منّا كان سيكترث لإبادة حبر غزة الجافّ، ودمُ الغزيين والغزيّات لم يجفّ بعد؟!
عشرات المكتبات البيتية الناجية من نار الحرب قدّمها أصحابها وقودًا لنار تقي أطفالهم من شرّ برد الحرب، وبعضهم اضطرته الأخيرة إلى بيعها لأفران خبز المدينة، يوم عزّ في غزة الحطب والخشب، أو لأنّ السُّبل تقطّعت بأهلها وضاقت، كما ضاقت دنيا الإبادة بالكاتب الغزيّ محمود عطية، فاضطر إلى الإعلان علنًا عن بيع مكتبته الخاصة بكتبها ومخطوطاتها النادرة خلال الحرب. ومنهم من بادر إليهم أصحاب الأفران أنفسهم.
“ومنذ تلك اللحظة، وكأني أقيم كلّ المآتم في قلبي، لكن يبدو أني سأضطر للموافقة لضيق الحال… ليتني متُّ قبل هذا”.
كان هذا ما كتبه ونشره الدكتور محمود عبد المجيد عساف من غزة على صفحته في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، وذلك بعد اتصال أحد الفرانين يعرض عليه شراء مكتبته منه لأغراض الخبز، مقابل مبلغ يدفعه عبر تطبيق بنكي.
وعلى سيرة ورق كُتب غزة في أفران خبزها خلال الحرب، تذكّرتُ مراثي العامليّين في جبل عامل – جنوب لبنان – على كتب شعرائهم ومخطوطات علمائهم التي جاءت عليها حملة والي عكّا أحمد باشا الجزار في حربه عليهم مطلع ثمانينيات القرن الثامن عشر. لم يُتلف جند الجزار كتب العامليين، ولم يحرقوها أو يغرقوها في أحد أنهار الجنوب، بل حملوها إلى عكّا وقدّموها، بأمر من الجزار، لأصحاب أفران المدينة. وعلى ذمّة الشيخ محمد تقي الفقيه، صاحب كتاب جبل عامل في التاريخ، فإنّ أفران عكا ظلّت سبعة أيام بلياليها ونارها مشتعلة تأكل كتب العامليين.
وفي غزة نفسها، كتب الشيخ عثمان الطبّاع في كتابه المرجعي الشهير إتحاف الأعزّة في تاريخ غزة عن كيف جاءت الحرب العظمى – الحرب العالمية الأولى – على كتب المدينة، بعد تهجير كامل أهلها منها عام 1917، وظلّ الطبّاع يذكر، متذكّرًا، ورق رفوف غزة المتطاير يغطي شوارعها وأزقتها، قبل أن يلتقطه جند الأتراك وقودًا لمدافئهم الطينية في شتاء تلك الحرب.
إبراهيم سكيك (1920–2004)
في العودة إلى موسوعة غزة عبر التاريخ للكاتب والمربّي الغزيّ إبراهيم خليل سكيك، من مواليد غزة عام 1920، الذي تعلّم فكّ الخط وقرأ على يد شيخ الكُتّاب حسن أبو شهلا، أحد أشهر كتاتيب حارة الدرج في غزة الانتدابية، قبل أن ينتقل إلى المرحلة الابتدائية في المدرسة الأميرية (الراشدية)، والثانوية في المدينة نفسها. ثم التحق بالكلية العربية في القدس، وتخرّج منها عام 1938.
عاد بعدها ليعمل مدرّسًا في مدرسة المجدل – عسقلان قبل نكبتها في أربعينيات القرن الماضي. وبعد نكبة 1948، درّس في مدارس غزة، منها مدرسة “الإمام الشافعي” الثانوية، ومدرسة فلسطين في مطلع الخمسينيات، والزهراء ما بين 1954–1959.
لم يُؤلف سكيك من الكتب سوى النزر اليسير، إذا ما استثنينا مشاركته في تأليف الكتب المدرسية في القطاع. إلا أنّ ما بين أول وآخر مؤلّف وضعه سكيك، كانت مسافة امتدّت على مدار عقود، منذ كتابه الأول شريط الذكريات، وصولًا إلى موسوعته غزة عبر التاريخ، وقد شهدت غزة خلال تلك العقود تحوّلات وتقلبات، كان أبرزها تحوّلها من مدينة مزنّرة بريفها قبل النكبة، إلى قطاع تخنق مخيمات اللجوء فيه مدينتها التاريخية.
غزة عبر التاريخ
تكاد موسوعة غزة عبر التاريخ أن تكون المؤلَّف الموسوعي الوحيد عن غزة المدينة، بمحيطها وريفها التاريخي، وكلّ تلك الرقعة الجغرافية ما بين برّي مصر والشام، إذ تمتدّ صفحات الموسوعة على 17 جزءًا أتمّها سكيك، بحسب توقيعه المذيل في مقدّمتها، في مطلع ثمانينيات القرن الماضي. موسوعة كتبها صاحبها بحبر الأيام عن غزة، المبلل رملها بالدم والدموع منذ غابر عصورها، حيث خصّ سكيك جزءها الأول بتاريخ غزة ما قبل التاريخ.
تتّسع موسوعة إبراهيم سكيك لكلّ ما ضاقت به غزة، ديارها ودوائر الدهر فيها، ودوران الزمان عليها. ولا نظنّ أنّ عملًا يمكنه أن يقصّ علينا حكاية ذلك الرمل المبلل على ساحل المتوسط الجنوبي لفلسطين، مثلما تفعل موسوعة غزة عبر التاريخ.
وكان ذلك قبل حرب الإبادة، منذ اليوم الذي تلا طوفان تشرين الأول/أكتوبر 2023. فما بالك بعد إبادة طاولت نارها البشر والحجر وكلَّ أثر في غزة القطاع على مدار عامين! لم يبقَ من معالم غزة وعوالمها غير ما ظلّت وفيّةً له وتحفظه موسوعة غزة عبر التاريخ، ما سيجعلها في قادم الأيام “مرجوعًا” أكثر مما كانت مرجعًا؛ ليس للبحث في تاريخ غزة فحسب، إنما للنبش في ذاكرتها التي جاءت عليها الحرب.
ولا يعني ذلك أننا نقلّل من قيمة أعمال أخرى كتبها غزيّون وغير غزيّين، مثل الشيخ عثمان الطبّاع وكتابه إتحاف الأعزّة في تاريخ غزة، والباحث الراحل سليم المبيض، الذي أفرد عدّة مؤلفات وكتب في سير غزة بمختلف مناحي الحياة، كان أبرزها كتابه غزة وقطاعها…، وكذلك المقدسي عارف العارف وكتابه الشهير تاريخ غزة. والقائمة تطول بمن أرّخوا لغزة وذاكرتها الحضارية عبر التاريخ.
غير أنّ ما يميّز موسوعة سكيك عن مدينته هو سلاسة لغة صاحبها وبساطتها، ممّا يسهّل اقتراحها على كلّ قارئ أيًّا كان، بمعنى أنها موسوعة صُنّفت للناس، لا لصنف من الناس. هذا فضلًا عن شموليتها وإحاطتها؛ إذ لم تترك أجزاء الموسوعة جانبًا من دبيب الحياة وسكونها في غزة وريفها إلا وجاءت على ذكره.
لقد نجت موسوعة سكيك بغزة، كي نظلّ نعرفها بعدما حاولت حرب إبادتها الأخيرة أن تقول لنا: “لن تعرفوها”. ففي عودتنا مؤخرًا إلى فهارس أجزاء الموسوعة، شعرنا كما لو أن الأسماء فيها اسوّدّ حبرها بسواد الحداد، أو بذلك الأسود الذي “يعكسه النقاء لا البقاء”، بتعبير آلان باديو.
لا محلّ هنا للحديث عمّا تناوله سكيك في موسوعته أو مساءلته في دقّة بعض معلوماته فيها؛ غير أنها من نوع ذلك العمل الموسوعي الذي كُتب في الماضي وظلّ يؤلّفه المستقبل.
غزة عبر التاريخ، سيرة لمدينة لن ينشف حبرها ما لم يجفّ دمها.