كتب

«وَمَضَاتُ… كِ» مجموعة الشاعر العراقي عدنان الصائغ: نصوص المنفى والتيه في دروب المدن

«وَمَضَاتُ… كِ» مجموعة الشاعر العراقي عدنان الصائغ: نصوص المنفى والتيه في دروب المدن

صابر رشدي

يخيل إليَّ أن الشاعر العراقي عدنان الصائغ يحتفظ بمفكرة جيب صغيرة، تصاحبه أينما ذهب، ولا تفارقه، يخط فيها ما يخطر له في أي لحظة من لحظات اليوم. يكتب ومضاته الشعرية، نائماً، أو مستيقظاً، مسافراً، أو جالساً إلى طاولة بإحدى الحانات أو المقاهي، أو وهو يعبر جسراً في مدينة بعيدة، نائية. المهم أن لا تفر منه الكلمات، ولا يغادره الشعر، وأن لا يفقد جهوزيته الإبداعية أبداً. ربما كان يروض القصيدة على الاستجابة، ويشركها في تجسيد انفعالاته الطارئة، وإنقاذ أفكاره من سحائب النسيان، مدركاً لطبيعته، بأنه شاعر، ولا شيء آخر، محتفظاً بتلك الصفة، في أي مكان، وفي أي زمان، وأن لا شيء يعوقه عن ممارسة هذا الدور، الذي اتخذه لنفسه، بديلًا من كل إغراءات العالم.
هذا ما شعرت به، للوهلة الأولى، وأنا أطالع ديوانه الأخير «وَمَضَاتُ… كِ»، الذي يفسح المجال للشعر في كل أحواله، معتمداً على إمكانياته المتعددة في القول، وشحنته التأثيرية عند اللجوء إلى التكثيف، أو الاختباء وراء مكر اللغة، ومدلولاتها الباطنية. لم يترك الصايغ شكلاً فنياً يثري به هذه النصوص إلا ولجأ إليه، بادئاً من التشكيل البصري لبعضها، متلاعباً بالشكل التقليدي للصفحة، وترتيب السطور، مخالفاً نمط تصميم الكتب المتعارف عليه، مقلقاً استرخاء القارئ رأساً على عقب، من خلال تضخيم حروف معينة، أو إنشاء قصيدة بأكملها من أسفل إلى أعلى، نحتاج معها إلى الإمساك بالديوان مقلوباً، كي نستطيع قراءته. أو الكتابة بشكل دائري شبيه بلوحات الخط العربي، وطرق رسمه المختلفة.
إنها نصوص تحمل رائحة الأماكن التي كتبت فوق دروبها، تارة تأتي مرتبكة، متوترة. تارة تطوي بين جوانحها ألماً ممضاً، وأحزان امرئ يبحث عن هوية مفتقدة، ساعياً وراءها في أركان المعمورة.
لا تركن هذه الشذرات إلى دعة المسافر، ولا تلقي نظرة سائح منبهر على العالم، تفتنه الطبيعة، ويدهشه جمال العواصم الكبرى. إنها تذكره بالمنبع، بالبدايات، تجعلنا نشعر به وهو يتساءل بمرارة، ودون تصريح مباشر: لماذا أنا هنا؟
لنشعر بإجابة خفية:
أنا هنا لأنني منفي، هارب، أنا وملايين غيري، كنا جميعاً ضحية لعبة الحكم العنيفة، التي يعشقها رجال السلطة المطلقة، ثم يذهبون ضحيتها، في متتالية تاريخية، يحفظها الجميع سواهم. يقول في قصيدة: «كتاب التشكلات»:
«… ثمة سطر شارد من قصيدة. أتتبعه فأصل إلى حانة. أدخل فتصفعني موسيقى الـ Rock الصاخبة. لا أجد كأساً لوحدها. أجلس إلى النافذة محدقاً بالبحر وتكسرات أمواج حياتي».
القصيدة تعتمد تقنية السرد وسيلة لها، لتصل إلى مبتغاها، تبدأ من الخاص، لتدخل إلى العام، تتفاعل مع السحر والفن التشكيلي، تخاطب الجمال المتجسد في عيني فتاة سارحتين في هيولي المعني، تتدرج في الوصف، متغلغلة داخل لوحة تضم في إطارها ملامح فاتنة، شاردة في السديم.
يتعمد الشاعر، كما في كل النصوص، أن يضع تاريخ الكتابة، واسم المكان، يحددهما، كما أشار هنا: 2018/7/2 سنغافورة Singapore.
على غرار قصائد الهايكو، ومن فوق أرض الوطن، من العاصمة بغداد، تحديداً من شارع أبي نواس في 2013/9/3، يكتب تحت عنوان: «كتاب الأرض»:
«لم تكن مُرَّةً هذه الأرض
لكن من
مرّوا بها
مرّروها».
ربما كانت أقصر نصوص الديوان، وأكثرها تكثيفاً، تشعر بزفير الحسرة يتصاعد من بين كلماتها القليلة، كأن الشاعر ينعي وطناً، يرثيه بإشارته النهائية إلى المكان والزمان، لذا كان توظيف هذين العنصرين، دالاً، وغير مجاني، يكملان، إلى حد كبير، بعض المعاني الناقصة، ويغلقان القصيدة على أسبابها، التي يود من القارئ اكتشافها بنفسه، بعد ما يسر له الطريق. ففي مسقط رأسه، دائماً، هناك حروب، واستبداد على مر العصور، ومشكلات، أحياناً ما تكون بالغة التعقيد، يعرفها الجميع، لكنهم يتغافلون عن الإشارة الصريحة إليها. يصف الصائغ المسألة بإيجاز بليغ: «كل من مروا بها مرروها».
ليذكرنا بصيحة بدر شاكر السياب المؤلمة في قصيدته الشهيرة: «أنشودة المطر»، وهو يصف معاناة العراق بالغ الثراء، بالغ الرقي والتحضر، المثقل بالتاريخ حد الـ…
«وكل عام – حين يعشب الثرى – نجوع
ما مَرَّ عامٌ والعراق ليس فيه جوع
مطر
مطر
مطر».
الصائغ يريد امتلاك العالم، يستهلك نفسه في المنفي، مكرساً ذاته للشعر بديلاً من وطنه المفتقد، ساعياً وراء القصيدة. إنها ضالته المنشودة، التي تسكن وعيه طوال الوقت، وتسيطر عليه، تحوّل اغترابه إلى حالة خاصة، وتجعل من التيه والتمزق مادة ثرية للإبداع. الكلمة هي سلاحه في مقاومة الاستلاب، والنسيان. يحاول اصطياد المعنى من حياته الجديدة، استيعاب النقائض الإنسانية، في رحلة بحثه عن ذاته، وعن معنى وجوده، وهو يجول في البلدان.
في قصيدة: «كتاب التشكلات»، يكتب من جوار سور برلين المهدم بتاريخ 2014/11/9 وفي أثناء الاحتفال بسقوط الجدار:
«أسير مترنحاً في شوارع الليل بموّال وحسوة عرق مغشوش، راكلاً ذكرياتي ككرة من الخرق. ولا حكمة تكفي لاسترجاع ما مضى أو رجوعي إلى البيت. في المرايا العابرة أسرّح شعر قصائدي وأنسى قميصي مدعوكاً بعرقي وتحت نثيث الأمل. وثمة رسائل لا أقرأها تصلني يومياً من موتى ومفقودين في حروب غابرة. وكفلسٍ سقطت حياتي ولا عابر أو عابرة يهم أو تهتم بالتقاطها».
نحن أمام لحظة تاريخية، عودة ألمانيا الموحدة مجدداً، اِلتئام الجرح الجرماني العميق، اِلتحام شطري الدولة ودمجهما في الجغرافيا مجدداً، بعد عقود من التقسيم المذل الذي جرى فور انتهاء الحرب العالمية الثانية، وفقاً لرغبة المنتصرين. بينما وطن الشاعر الموحد يتمزق، بين أنياب وحوش الداخل والخارج. لا أحد يريد أحداً آخر غيره على الساحة، الكل يريد الاستئثار بكل شيء، وليذهب الوطن إلى المجهول.
في برلين، يرى الشاعر بأمّ عينيه خارطة يُعاد تصحيحها، لتعود الأرض إلى الأرض، وتستعيد ألمانيا روحها، بينما هو قادم من أراضٍ بدأت تفقد اكتمالها.
للإيروتيك مجال واسع في الديوان، نلمحه في كثير من النصوص. ألم يضع الشاعر عنواناً تضامنياً، يسعى إلى المساواة، والاحتماء إنسانياً بالأنثى كشريك، في جلّ خطواته؟ إنها هناك دائماً، يحاول العثور عليها، متقصياً أثرها في المدن، باحثاً عن السلوى، عن شراكة تداوي جراح المنفى. يطاردها في الحقيقة، وتطارده في الخيال، كما في قصيدة: «مقام الجسد»:
«كان الليل الثمل بمعطفه الأسود يتمشى تحت نافذتي. كلما تعثر، سقطت نجمة منه في الطريق.
وفي الطريق لا أحد…».
مونولوغ صغير يفتتح به القصيدة، لشخص مسكون بالقلق، يستعد لمساء حافل في إحدى حانات بودابست. لكن حياته ينقصها شيء ما، ربما يتبدى ذلك في إسرافه العاطفي، حتى يغطي على رعبه التاريخي، الذي يصاحبه في كل مكان، متعلقاً به كظله. على نحو لا نستطيع معه صرف الاهتمام عن هذه الدوافع الوجودية. يذهب بعيداً، مستعيناً بالمجاز، واصفاً لحظاته مع ملذات الجسد، في علاقة غاب عنها الحب الحقيقي، بينما استعر فيها الاستئناس بالتفاصيل الأنثوية الفاتنة:
«ينفلت قمر من سرير سحابة مدلهمة
ويقف على الشباك ليضيء بقعاً زرقاً تسرد ما عشته بعمق مع جسدها: خلجانه وهضابه وسهوبه، يا لسحر وخمر الجسد،
ثم عادت الخيول تصهل من حولنا. وتضحكين سكرى، وترهزين نشوى. ولا فراديس أشهى منك. ولا تعيدينني إلى صالة الرقص، ولا تعيدينني إلى النص، ولا لأحد».
كثير من العصف العاطفي، كثير من انغماس الجسد في حمى طقوس لاهبة. حتى يتم الاندماج الكامل، بين الـ«ومضات» في تجريدها الشعري، وبين الـ«وَمَضَاتُ… كِ»، التي تضيف جسد الأنثى هدفاً للديوان. لا حديث هنا عن الشريكة/ الحبيبة/ المعشوقة. عن تلك العينين التي نجد في عمقهما السكينة والأمان. فالجسد هنا مأوى وملاذ. لا صديق لروح متعب يبحث عن الرفقة الدائمة. لا علاقة إنسانية متكافئة، تمضي معه إلى الأبد.
«إنه ينظر إلى جسر حياته متسائلاً:
«كيف عبر المارون والسنون والكتب
وتركوني معلقاً بين ضفتين، أو معنيين
لن أصل لأي منهما أبداً».
ماضياً بين توترات العصر، بإدراكه العميق للحقيقة ومعايشتها، مغالباً كربه، وأساه إلى أبعد حد، لا يكبح انطلاقاته، وهو يتابع وقائع حياته، متمهلاً عند بعض المحطات، عبر وقفات قصيرة، استراحة لالتقاط الأنفاس، وإلقاء نظرة نافذة على الأحداث، وهي تنزلق به في مجرى الزمن، مستجيباً لصدق الشعر وهو يعالج عالمه الواقعي. فهناك كثير من القصائد تأتي كتعليقات على مفاسد السياسة، وتداعياتها القاتلة، دون لجوء إلى الاختباء وراء حكايات رمزية دقيقة، أو أحداث تاريخية مشوهة، يفسدها الهوى، والتحيزات المسبقة، وتفقدها، بالضرورة، تأثيرها المرجو. فهو يعتقد، أن التاريخ، عندما لا نقرأه بجدّ، يعيدنا إلى سبورته، بصفعات أشد. ويرى أن الجماهير العمياء قوة هادرة، يحركها نص، لكن قد يُسحق هذا النص حين تمر به الجماهير.
يبطل الشعر، وتتوقف الحياة، وتضرب القصيدة عن العمل لدى الشاعر، عندما لا تكون هناك حانة في الطريق، ولا امرأة أو كتاب، وعندما يفتقد الصديق في كتاب النهايات المتصلة، وفي قصيدة: «فصل الحرب 1»، يكتب على شكل قصة قصيرة جداً، نصاً تصاعدياً، معبراً:
«… في حارتنا امرأة تقلي البيض لأطفالها. أطفالها الذين كبروا وغادروها إلى الحرب. الحرب التي سرقت أولادها وبيضها وحياتها. حياتَها التي ظلّت لوحدها تنتظر في المقلاة. المقلاة التي تنتظر في حارتنا امرأة تقلي البيض لأطفالها. أطفالها الذين كبروا وغادروها إلى الحرب. الحرب التي سرقت أولادها وبيضها وحياتها. حياتَها التي ظلّت لوحدها تنتظر في المقلاة التي تنتظر في…». 2022/12/6 الموصل.
إنها الحرب، سمة من السمات الحزينة، وعلامة وجود وطن أنهكته المعارك في العصر الحديث، الحرب التي لم تسرق الأولاد والحياة فقط. بل سرقت الاستقرار والسلم والأمل، وتركت الملايين، مهجرين في المنافي، يواريهم تراب غير تراب الوطن. كأنهم جاؤوا إلى هذا العالم من أجل التضحية بالروح، وبكل الشروط الإنسانية الممكنة كي يعيش الحاكم، وآله، فوق تلال من الجماجم، وخزائن الذهب.
عدنان الصائغ: «وَمَضَاتُ… كِ»
لندن وسطور للنشر والتوزيع، لندن 2024
156 صفحة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب