نحو مبادرة عربية للأمن الإقليمي

نحو مبادرة عربية للأمن الإقليمي
عمرو حمزاوي
يجد الشرق الأوسط نفسه عند مفترق طرق، ويواجه سؤالاً جوهرياً: كيف يمكن للمنطقة أن تضع حداً لحرب الاستنزاف المطولة هذه، وتؤسس إطاراً أمنياً شاملاً يخفف التوترات، ويمنع الصراعات المستقبلية، ويرسي أسس السلام الدائم؟
وبينما يضع البعض ثقته في قوى عالمية، مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا والاتحاد الأوروبي، للتدخل وتحقيق الاستقرار في المنطقة، يظل الواقع أبعد ما يكون عن ذلك. ففي حين أن الموقع الجيو ـ استراتيجي للشرق الأوسط، وموارده من الطاقة، وثرواته تجعله لا غنى عنه في السياسة العالمية، يبدو أن الولايات المتحدة والصين مهتمتان في المقام الأول بحماية مصالحهما المباشرة بينما يبدو أن روسيا والاتحاد الأوروبي يركزان على إنقاذ ما تبقى من مصالحهما.
بشكل جماعي، تفتقر هذه القوى إلى رؤية متماسكة أو إطار سياسي قادر على التخفيف من التحديات الهيكلية التي تُديم دورات الصراع في الشرق الأوسط. يشير هذا إلى حقيقة لا يمكن إنكارها، ألا وهي أن مسؤولية إنهاء الحروب الراهنة وشق طريق نحو الاستقرار تقع الآن بالكامل على عاتق القوى الإقليمية الفاعلة في المنطقة. وإذا كانت هذه القوى عازمة على رفض الوضع الراهن الفوضوي، فعليها اتخاذ خطوات استباقية لإعادة تشكيل مستقبل الشرق الأوسط. وقد يدفع التفاعل المعقد في أعقاب حرب غزة بين المكاسب والخسائر والفرص والمخاطر، قد يدفع القوى الإقليمية إلى استكشاف إمكانات ترتيبات الأمن الجماعي ويمكن أن تكون مثل هذه الترتيبات بمثابة أساس لتخفيف التوترات وتخفيف النزاعات وفتح آفاق السلام المستدام.
إن استعداد هذه القوى الإقليمية لتبني التعاون سيحدد ما إذا كان الشرق الأوسط قادرا على تجاوز دورات العنف والخروج ككيان أكثر استقرارا وتعاونا في مشهد عالمي متزايد الديناميكية والتقلب.
على الرغم من بروز إسرائيل كفائز استراتيجي في الصراع الراهن في الشرق الأوسط الحالي، إلا أن محاولتها ممارسة الهيمنة الإقليمية مآلها إلى الفشل وبكلفة باهظة. ولكي تتحرر إسرائيل من وهم الهيمنة، يجب عليها التخلي عن سياساتها المُتجذرة في الإكراه والهيمنة الأحادية الجانب وحرمان الفلسطينيين من حق تقرير المصير. وبدلامن ذلك، يجب عليها السعي إلى توافق إقليمي يهدف إلى تسويات سلمية، وترتيبات أمنية جماعية، وترسيم نهائي للحدود على نحو يحظى بالاحترام المتبادل. وبدون مثل هذه المراجعة الاستراتيجية الضرورية، تخاطر إسرائيل بالبقاء متورطة في صراع لا ينتهي يقوض السلام الإقليمي ومصالحها طويلة الأجل. أما إيران، فقد انتهت محاولتها للهيمنة الإقليمية في أعقاب حرب غزة بخسائر فادحة وتراجعات في النفوذ طالت فلسطين ولبنان وسوريا والعراق. لقد انهار خطاب «محور المقاومة» الذي قادته إيران طوال العقود الماضية، وذلك تحت وطأة ضغوط الصراع والدمار المتواصلة والتفوق العسكري الإسرائيلي الساحق مما جعل الجمهورية الإسلامية أكثر عرضة للخطر وللعزلة في الشرق الأوسط. ولكي تتجاوز إيران تلك الأخطار، فإن عليها إعادة النظر في سياساتها وإدخال تغيير جذري في نهجها والبحث عن بناء توافقات إقليمية.
تشترك القوى العربية الفاعلة في الشرق الأوسط، إذا، في مصلحة جوهرية هي إرساء إطار أمني جماعي يستعيد الأمن والاستقرار. دون مثل هذا الإطار، ستستمر دورة الحرب
في المقابل، بذلت مصر جهودًا كبيرة للتخفيف من حدة عدم الاستقرار الإقليمي، وعززت التعاون مع شركاء رئيسيين مثل السعودية والإمارات وتركيا وقطر مع الحفاظ على نهج دبلوماسي حذر تجاه إيران وإظهار ضبط النفس الاستراتيجي الكبير إزاء إسرائيل. وعلى الرغم من الدور المحوري لمصر كوسيط في الجهود المبذولة لتثبيت وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس وإعادة إعمار غزة والتخطيط لسيناريوهات ما بعد الحرب فيما خص إدارة شؤون القطاع وتركيز الاهتمام الإقليمي والعالمي على القضية الفلسطينية، إلا أن تعنت إسرائيل المستمر يستدعي تكاتفا إقليميا مع الجهود المصرية.
وتتوافق رؤى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر بشكل وثيق مع تركيز مصر على الاستقرار والأمن الجماعي، وتعكس أيضا أولويات وطنية متميزة لهذه الدول الخليجية تشكلها أهدافها الجيوسياسية والاستراتيجية الفريدة. ويظل تركيز المملكة العربية السعودية منصبا على المضي قدما في أجندة التحديث الخاصة برؤية 2030، مع حماية مواردها من التوترات الإقليمية العالقة في الخليج وفي المشرق ومع إدارة حوار استراتيجي مع الولايات المتحدة بشأن ضمانات أمنية وبرنامج نووي سلمي وجهود التطبيع الإقليمية التي تربطها الرياض بإقامة الدولة الفلسطينية. لذلك تفضل السعودية، شأنها شأن مصر، التوافق حول ترتيبات أمنية جماعية وصياغة إطار أوسع للتعاون الإقليمي لمواجهة كافة هذه التحديات المترابطة وتحقيق سلام دائم. أما الإمارات، فالمؤكد أنها تشعر بقلق متزايد إزاء مخاطر انهيار النظام السوري والتنافس بين تركيا وإيران وإسرائيل على الهيمنة الإقليمية. وللتخفيف من هذه المخاطر، تستكشف الإمارات العربية المتحدة سبل التعاون مع المملكة العربية السعودية للحفاظ على الاستقرار في الخليج ومعها ومع مصر لاستعادة الأمن في المشرق من فلسطين إلى سوريا. ولا تبتعد قطر عن مسارات التعاون من أجل إنهاء الحروب وبناء الأمن في الشرق الأوسط، وهو ما يظهر واضحا في اشتراكها مع مصر في جهود الوساطة بين إسرائيل وحماس لتثبيت وقف إطلاق النار وفي أدوار إيجابية في ساحات صراع أخرى كاليمن ولبنان وسوريا والسودان.
تشترك القوى العربية الفاعلة في الشرق الأوسط، إذا، في مصلحة جوهرية هي إرساء إطار أمني جماعي يستعيد الأمن والاستقرار. دون مثل هذا الإطار، ستستمر دورة الحرب والصراع مستمرة وستواصل تعريض مصالح الكل للخطر.
على الرغم من المصالح المشتركة، تُعيق عقباتٌ كبيرة جهود إرساء الأمن الجماعي في الشرق الأوسط أبرزها هو اعتماد بعض الجهات الإقليمية الأخرى، خاصة إسرائيل وإيران، على الأدوات العسكرية وتدخلها المتكرر في الشؤون الداخلية للدول الأخرى. وتُقوّض مثل هذه الممارسات الثقة وتُفاقم الانقسامات ويُصعّب من ثم بناء رؤية مشتركة للسلام. في هذا السياق، تُبرز الدول العربية بجهودها الدبلوماسية الراهنة وبابتعادها الشامل عن استخدام الأداة العسكرية ورغبتها في استبدال الحرب والصراع بإطار عمل للأمن الجماعي قائم على الحوار والتهدئة والتسويات السلمية.
وبناءً على ذلك، يتعين أن تأخذ الدول العربية زمام المبادرة في إطلاق نقاش دبلوماسي وسياسي حول إقامة تجمع للأمن الإقليمي على غرار منظمة الأمن والتعاون في أوروبا (OSCE) وذلك وفقا للالتزام بالمبادئ التالية: 1) عدم التدخل بمعنى احترام سيادة الدول والالتزام بعدم التدخل في شؤونها الداخلية، 2) حل النزاعات سلميا باعتماد الحوار والتفاوض وبناء التوافق لحل التوترات والصراعات، 3) إنهاء العسكرة بمعنى الالتزام بوقف التدخلات العسكرية المباشرة وبالوكالة ووقف دعم الميليشيات المسلحة والامتناع عن استخدام القوة العسكرية كأداة للوصول إلى أهداف سياسية، 4) دعم حق تقرير المصير أي بذل الجهود لإنهاء الاحتلال وتفكيك المستوطنات ورفع الحصار لتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير المصير ضمن أطر فعلية تفضي إلى الدولة المستقلة، 5) تجديد تماسك الدول الوطنية بإطلاق مبادرات لإعادة الاستقرار للدول المجزأة والمنهارة في جميع أنحاء الشرق الأوسط وإنهاء وجود الميليشيات المسلحة ومن خلال إعطاء الأولوية للأمن الجماعي. أتمنى أن تعمل الدول العربية على إطلاق مثل هذه المبادرة ودعوة القوى الإقليمية الأخرى إلى الالتزام بمبادئها.
كاتب من مصر