
إنسان الكهوف

سهيل كيوان
تُذكّر المجازر التي ترتكبها عصابة تل أبيب التي تسمى «حكومة منتخبة»، بقصص العصور المتوحشة، وبالحقب التي لم يكن الإنسان قد تحرّر فيها بعد من وحشيتّه الخالصة، مرحلة ما قبل الإدراك بأنّه لا ضرورة للقتل لأجل القتل، وقبل إدراك الكائن البشري بأنّه أصبح مختلفاً عن الضّباع والدِّببة والذّئاب والغوريلات. قبل أن يدرك بأنّ القتل هو فقط لضرورة طعام أو دفاعٍ عن النّفس.
قتل مئات الأطفال والنساء والشّيوخ في قطاع غزة خلال ساعات، ليس فيه أيُّ دفاع عن النفس، ولا علاقة له بأمنٍ وطمأنينةٍ لسكان المستوطنات، لا علاقة له بحاجةٍ إلى طعام أو ماء، إنّه يؤكد حقيقة واحدة، هو عطش أصحاب القرار بهذه الهجمات إلى الدماء، ويؤكّد أنّهم إنما يريدون أن يقتلوا أكبر عدد ممكن، كي يتباهوا بالرّقم، وقد تباهوا بالفعل ونشروا على مختلف المواقع والمنصات: عدد قتلى المخربين حتى الآن 430 وهذه هي البداية فقط.
وبحسب مصادر الشعب المنكوب، وبحسب التاريخ والسوابق والوقائع، فإن معظم الضحايا هم من الأطفال والنساء والشّيوخ.
حتى لو كان بين هذه المئات عشرة أو عشرون مقاتلاً، فالهدف الأوّل لم يكن اغتيال هذا القيادي أو ذاك المقاتل، بل رفع أعداد القتلى قدر الممكن، وذلك من خلال إلقاء أطنان المتفجرات على الخيام المكتظة بالمدنيين الذين فقدوا بيوتهم ونزحوا من مكان إلى مكان إلى مكان، أو عادوا إلى أنقاض بيوتهم.
هذه الوحشية تذكّر بإنسان الكهوف (نياندرتال)، الذي يمتاز بالغباء، وبأنّه يقتل بلا أيِّ هدف، وقبل أن يُدرك بأنّه يستطيع العيش من غير قتل كل ما يصادفه من مخلوقات أخرى.
القتل طريقة الحياة الوحيدة التي يمارسها، فهو لم يكن قد اكتشف بعد أو لم تتطوّر لديه أية مشاعر تجاه المخلوقات الأخرى سوى الرغبة في إراقة دمائها، الشّعور الوحيد الذي يحمله هو العداء لكلّ ما هو خارج جسده وكهفه، وإعداد الأدوات اللازمة لقتل ما يصادفه من كائنات.
لم يكن هذا الكائن قد عرف الحياة الاجتماعية بعد، كان ما زال يتناول معظم طعامه من اللحوم والنباتات النيّئة، ولم يكن قد نأى بنفسه بعد عن افتراس غيره من البشر.
كان ما زال بعيداً مئات آلاف السنين عن اجتراح الأبجدية الأولى، كان فمه وشفتاه ولسانه لا تنطق سوى ببعض الأصوات المتشابهة، كان ما زال أمامه مئات آلاف السّنين لينطق بعض الكلمات التي أطلقها على الماء والنار والليل والنهار والشّمس والكواكب والمطر والريح والأشجار والكهوف والأب والأم والابن.
لم يكن يميّز بين أمّه وبناته وأخواته، ولم يعرف الزّواج لا الأحادي ولا الرّباعي.
القيمة العليا كانت أن يأكل ويبقى، وأن يرى كل ما دونه جثّة هامدة.
تذكّر هذه العصابة التي تسمى حكومة منتخبة بالقصص التي كان يطلب فيها ملك ما أو قائد ما، عشرة آلاف جمجمة مهراً لابنته، أو شرطاً لقبول شخص ما في حاشيته، أو لمجرّد التفاخر بقوّته وبطشه.
يخرج هذا الوحش إلى المهمة، فيقتل كلَّ ما يصادفه، يقتل ويقتل حتى يصل إلى الرقم المطلوب من الجماجم ويزيد، ويعود كما لو كان في رحلة صيد، فخوراً بإنجازه، كي يحصل على الجائزة، أو المكانة التي وُعِد بها.
هذا المهر الدمويُّ يقدّمه زعيم عصابة تسمّى «حكومة منتخبة»، لشريكه السّفاح، كي يرضيه ويقنعه ويثبت له بأنّه لا يقلُّ عنه دمويّة، وكي يفرش له طريق العودة إلى جانبه في قيادة العصابة على سجّادة من جلود وأعين الأطفال وجدائل النساء المحترقة.
يتوعّدون بالمزيد من الخوض في الدّماء دون أي اعتبار لمئات ملايين من هذه الأمة الصائمة من حولهم.
أقصى ما يتوقّعونه من قادة هذه الأمة المنكوبة بقادتها، هو بيان شجب أو استنكار، يختتمونه بجملة ركيكة «إنّ هذه الأعمال قد تهدّد الاستقرار والسّلام في المنطقة».
هؤلاء القادة أجبن من أن يقوموا بخطوة عملية واحدة، تدفع هذه العصابة أو الذين ينتخبونها إلى إعادة النّظر في جرائمها الهمجية.
يظهر إمّعة ذو صفة رسمية كبيرة ويدعو ضحايا المجازر ومعظمهم من الأطفال، إلى ضبط النفس!
يدعو الجائعات والجائعين قسراً والذين تقطّعت أوصالهم إلى ضبط النّفس! ويظهر إمّعة آخر ليعلن بأنّ المسؤولين عن سلامة الأطفال والنّساء والرجال العزل لم يكونوا على قدر كاف من المسؤولية لمنع وقوع هذه المذابح. بينما معظم بلدان العالم تؤكد أنّها حرب إبادة مع سبق إصرار وتخطيط وترصّد ضدّ شعب فلسطين كله، وليست محصورة ضد تنظيمات مسلّحة.
زعيم العصابة التي تسمى حكومة، يعلن أنّه ما زال ظمِئاً، ويعد بإراقة المزيد من دماء الأطفال والنساء، ويبدو أنّه على ثقة تامّة بأنّ قتل عشرات آلاف أخرى لنْ يُزَحزح شيئاً من مواقف قادة المنطقة العربية وما وراءها.
قادة الأمة العربية متهوّرون جداً عند وقوع مشكلة بينهم وبين جيرانهم من العرب والمسلمين، فيهدِّدون ويحشدون الجيوش، ويشمّرون عن عضلاتهم، ويتجند إعلامهم للتحريض لإذكاء الخلافات و«يعمل من الحبّة قبّة»، ولكنّهم أمام عصابة تل أبيب يتحلّون بالحكمة الإغريقية والهندوسية والكونفوشية التي تدعو إلى الصّبر والتروّي، وترى أحدهم كالأحنف بن قيس في حلمه، وزهير بعد بلوغه الثمانين، ترى فيهم الرّصانة والمسؤولية والصوت الخفيض واحترام الاتفاقيات، وهم الذين يغدرون بأقرب الناس إليهم ويودعونهم في سجون القهر.
إنهم يخشون أن تخرج ثُلّةٌ من المقاومين مرفوعة الرأس، بعد أطول وأشرس حرب إبادة، إنّهم حاقدون على أولئك الذين صمدوا ولا يملكون سوى ما صنعته أيدي رجالهم من وسائل دفاعية بدائية.
إنّهم يذكّرون بقصّة نساء القرية التي دخلها جنود العدو، ففتحن بيوتهن ومنحن أجسادهن لجنود الاحتلال طواعية، سوى واحدة رفضت أن تنصاع للجندي الذي دخل بيتها عنوة وقتلته. وعندما انسحب الجنود وعرفت النساء الحقيقة، قرّرن قتل المرأة الشّريفة كي لا تعيّرهن بشرفهن، وكي لا تكون برهاناً على أنّه كان بإمكانهن مقاومة المغتصبين لو أردن ذلك.
ما يسعى له قادة المنطقة العربية عموماً هو تكريس فكرة الاستسلام والضعف ليس لدى القادة فقط، بل نقلها إلى الشّعوب كحقائق راسخة، من خلال إقناع الشّعوب بعجز أوطانها عن توفير لقمتها لولا حكمة ودهاء القادة الذين يوفرون المِنح والقروض والمساعدات.
زعيم عصابة تل أبيب يوغل أكثر وأكثر في دماء الأبرياء بحجّة أن هذه هي اللغة الوحيدة التي يفهمها «العدو».
إنّه يعرف أنّ ذئاباً وثعالب كثيرة من أمّة العرب ستحمّل المقاومة مسؤولية ما يقترفه هو من جرائم.
في شهر الصّيام المقدس وفي الأيام والليالي المباركة، تنزل أطنان الحمم على الأطفال والنساء والشّيوخ الصائمين الرّكع السّجود العزل إلا من الدعاء.
بهذا يقدّم رجل الكهوف المهر المطلوب لعصابته، ويسحب من تحت أقدامهم أية شكوك أو ادّعاءات بأنّه أقل منهم رغبة في القتل والخوض في الدماء.