
الإلتباس السوري: دعوة للتأمل
بقلم الدكتور وليد عبد الحي
ليس التحليل السياسي الموضوعي أمرا يسيرا ، بل يزداد عسرا في مجتمع يُكرِهُكَ على عدم الموضوعية لما يزرعه فينا من خلفيات ومرجعيات ، فنموذج “ما تظنون أني فاعل بكم، قالوا أخ كريم وابن اخ كريم ،قال فاذهبوا فأنت الطلقاء” هو نموذج استثنائي في تاريخنا العربي، وكثرة احاديثنا عن فضائل العرب من كرم وشهامة وفروسية ليست أكثر من “تحايل معرفي” لإخفاء ضغائننا.
في المشهد السوري ، أود التوقف عند ملاحظات تشكل التباسا ، ولا أزعم ان بيدي مفاتيح مغاليق الكون ، ولكن:
1- لو قبلنا نظرية المفكر العراقي علي الوردي عن العلاقة بين الخصائص الجغرافية وخصائص الطابع القومي للمجتمع السوري ،فان سوريا متنوعة جغرافيا، فهي صحراوية( حوالي 40% من مساحتها صحراء) وبحرية( تمتد شواطئها على البحر المتوسط 65 كيلومتر) وجبلية وسهلية ( حوالي 50% من مساحتها ) ثم هي دولة نهرية فيها اكثر من ثمانية أنهر (بعضها اقرب للوديان) لكن نهر الفرات- ودجلة الى حد ما- يمثلان الابرز من حيث اهميتهما الجيوسياسية على غرار نهر اليرموك . ويترافق مع هذا التنوع “البيئي” تنوعا سكانيا من حيث الثقافات الفرعية من عرب وأكراد ودروز ومن مسيحيين ومسلمين ومن علوي وسني ومن بدوي وحضري وريفي…الخ، وكل هذا كفيل بافراز بنية متنوعة يحتاج تنظيمها “لتحرر عقلي” من ناحية ، وايجاد بنية تكاملية تجعل الروابط العضوية أقوى من الروابط الآلية طبقا لنظرية دوركهايم من ناحية ثانية ، وهو ما أزعم ان النظم السياسية التي تتابعت على سوريا فشلت في انجازه رغم كل الادعاءات من هذه الانظمة، فإذا ترافق كل هذا التنوع الاجتماعي والجغرافي مع طغيان سياسي ودولة مخابراتية وفساد اداري وسياسي ، فان ما يجري في سوريا لا يشكل أية مفاجأة ، رغم ان ثقافة المساومة تشكل احد ملامح الثقافة السورية بحكم عمق الخبرة التجارية السورية، لكنها تضيف في ذاتها تنوعا جديدا في الثقافة السورية فتزيد الامر تعقيدا.
والملفت للنظر ان سوريا المعاصرة خضعت لحكم 22 رئيسا منذ 1946(آخرهم الرئيس الحالي احمد الشرع)، أي ان سوريا عرفت خلال 79 سنة 22 حاكما، فإذا حذفنا من هذه المدة 54 سنة حكم فيها الأسد” وولي عهده” سوريا ، يبقى 25 سنة فقط ، فلو قسمنا ال25 سنة على العشرين حاكما منذ الاستقلال (دون حساب آل الاسد) يكون معدل حكم الرئيس الواحد هو 15 شهرا فقط، وهو من اعلى درجات عدم الاستقرار الحكومي في العالم، وهو ما يعني ان عدم الاستقرار ظاهرة يجب التوقف والتأمل العميق عندها في سوريا.
2- النظام السابق: في عام 2013 نشرت دراسة أكاديمية عن مستقبل النظام السياسي السوري حتى عام 2020، ووصلت الى نتيجة محددة وهي ان النظام سيبقى حتى عام 2020(وكان موضع استهجان من الكثير) رغم ان اردوغان كان يتحدث عن الصلاة في الجامع الاموي خلال اسبوعين، وبقي النظام حتى – تقريبا – مطلع العام 2025. لكن التركة التي تركها النظام السابق هي تركة تنوء بها الجبال، من انهيار عسكري تام الى انهيار اقتصادي يضع سوريا في المرتبة الاخيرة عالميا الى تمزق اجتماعي عنيف الى سلسلة من الاحتلالات العسكرية الاسرائيلية والتركية والامريكية والروسية وسلسلة من المليشيات العسكرية تُمثل هيئة تحرير الشام طليعتها ومعها تنظيم قسد الكردي . كل ذلك يجعل مهمة اعادة البناء أمرا دونه خرط القتاد.
3- توجهات النظام الجديد: لست من الذين يعولون على ” التصريحات التي يطلقها المسؤولون العرب” عند تولي السلطة، فالوعد سهل، ولست ممن تأخذهم حشد مئات الآلاف للتعبير عن الانتصار، فمن السهل على اي حاكم عربي ان يحشد مئات الآلاف في الساحات، رايناهم مع عبد الناصر والقذافي وصدام حسين وعلي عبدالله صالح وزين العابدين وفي كل دولة عربية دون استثناء ملكية او جمهورية، فلو افترضنا عاد الاسد الى دمشق فان مئات الآلاف سيحتشدون ، وهو ما يعني ان الحشود في الشوارع هي مظاهر خادعة جدا بخاصة في مجتمعات استبدادية مجتمعا وحكاما، ولا تصلح مؤشرا على شعبية غير مفتعلة.
لقد تتبعت حركة الاحداث في سوريا بعد هروب الرئيس السابق، وازعم ان عملية اختيار الحاكم الجديد وآليات تشكيل اللجان للنظر في الخطوات القادمة “احتكرها” تيار واحد هو التيار الذي تسانده تركيا ، وتم الاختيار للحاكم بتوظيف الخلل في ميزان القوى –الميداني المحلي والميداني الإقليمي- ولم نر أي اثر “فاعل” للقوى الاخرى ،وهو ما عبر عنه بعضهم من ان بنية السلطة الأولية في سوريا تمت ” بليل ومن وراء ستار “.
ولو حللنا خطاب الحاكم الحالي والانتقالي المفترض ، فاننا نسجل ما يلي:
أ- استمعت لتسعة تصريحات او خطابات صوتية لاحمد الشرع (بعضها طويل مثل كلمته مع الوفد اللبناني بقيادة وليد جنبلاط او في مؤتمر القمة او التعليق على بعض الاحداث مع الصحافة ..) وبعضها عابر لكنه ذو دلالة، ولم اعتمد على اي تصريحات مكتوبة خوفا من عدم النقل الامين للنص، ومن خلال تحليل مضمون هذه البيانات والتصريحات ، تبين لي ان موضوعاته الاكثر تأكيدا عليها هي :التذكير بمفاسد النظام السابق(36%،) التاكيد على الخطر الايراني وامتداداته في لبنان( 30%) وعود الاصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي واحتكار السلاح بيد الدولة وموضوع الصراعات الطائفية…الخ) (24%) ثم الدعوات لرفع الحصار عن سوريا وتنظيم علاقات سوريا الدولية( 8%) والاشارة للتدخلات الاسرائيلية او أطماعها في سوريا واتفاق 1974 معها والقضية الفلسطينية (2%)، اما الوجود العسكري التركي والامريكي فلم يشر لهما البتة في البيانات التي حللت مضمونها.
ب- انفجار العنف في الساحل السوري: كان المرصد السوري لحقوق الانسان –وهو من ضمن المعارضة للنظام السابق – مرجعا رئيسيا للاخبار عن سوريا زمن النظام السابق ، ولكن تقاريره عن اهوال العنف في الساحل السوري توارت عن الموقف الرسمي السوري بل وجرى التلميح بان تقاريره مبالغ فيها، وعندما اقارن بين اعتماد هذا المرصد في قناة الجزيرة زمن الرئيس الهارب وبين اعتمادها الحالي يصبح من حققك التساؤل عن مفهوم الموضوعية . وهنا نسأل هل سيتم اعلان نتائج التحقيق في هذه الاحداث ؟، ومن يدير التحقيق ؟ ام سيتم طي ما جرى ببيان عابر لاحقا او بالاعتماد على ان زحمة الاحداث ستطوي ما جرى في غياهب النسيان ؟ .
ت- الموقف من القضية الفلسطينية : ثمة خمسة ابعاد في هذه المسألة :
1- موضوع هضبة الجولان : لم يرد ذكر الجولان في خطابات الرئيس الجديد الذي كان يسمى :ابو محمد الجولاني) رغم ان مساحة الجولان الخاضعة للاحتلال هي خمسة اضعاف مساحة قطاع غزة ، كما ان اشاراته للتوغلات الاسرائيلية في الجنوب السوري والتدمير المستمر لبقايا الجيش السوري لا يتوقف عندها بالقدر الكافي رغم أنها تؤسس لشيء قادم لان اسرائيل لا تتحرك عشوائيا. فالرئيس السوري الانتقالي مجروح بعمق من التدخل الايراني ومن السهل فهم موقفه، ولكن لماذا لا يتضح موقفه وهو ابن حركة دينية متزمتة جدا بنفس العمق تجاه اسرائيل وتجاه ما يجري في غزة – لا نطالبه بالتدخل العسكري بل بتحديد موقفه بشكل صريح ؟
2- موضوع التنظيمات الفلسطينية في سوريا: هناك شبه اسدال للستار عليها، فالحديث عن “احتكار السلاح بيد الدولة” يعني تصفية هذه التنظيمات، وهل ستتم محاكمة قادتها ، بل اين هم ؟ وما الموقف من حماس التي كانت في صف المعارضة للنظام السابق قبل بداية ضعفه، اسئلة حاولت العثور على اجابات لها دون جدوى.
3- موضوع القدس: لماذا تغيب هذه القضية عن أدبيات هيئة تحرير الشام رغم انها حركة دينية صرفة تماما، وهو ما يستدل عليه من ديباجة ونصوص مشروعها الدستوري .
4- لماذا تسارع امريكا واوروبا للتخفيف التدريجي من العقوبات على سوريا والتشاور لرفع اسم الجولاني من قائمة الارهاب، هل هو دليل على أن القوى الغربية جمعيات بر واحسان ام ان الامر يخفي خلفه ثمنا ستكون القضية الفلسطينية من ضمنه؟ لا املك واجب الاجابة لكني املك حق التساؤل.
5- هل تصريحات مبعوث ترامب الى المنطقة ستيف ويتكوف عن افتراض تطبيع العلاقة بين كل من سوريا ولبنان مع اسرائيل لها ما يبررها ؟ وما خلفياتها، ولماذا يتم طرحها الآن، وما رد النظام الانتقالي منها ؟ فرغم ان ويتكوف قال حرفيا ” imagine if Lebanon normalized its relations with Israel ,then Syria did the same…”
فهو يقول ” تخيل لو أن لبنان طيع علاقاته مع اسرائيل وفعلت سوريا نفس الشيء” وعبارة “تخيل” هي عبارة مربكة لكنها موحية بأن الموضوع قيد النقاش بخاصة في ظل الظروف المستجدة في البلدين –لبنان وسوريا-، فهل تعبير “تخيل” هي مجرد تعبير عن شكل من اشكال التمني والتوسم، ام أن الامر ليس إلا ” كي للوعي قادم”؟ أو هي تدريب على التعاطي التدريجي مع الموضوع ؟ نسأل لا اكثر .
اخيرا: من المؤكد ان سوريا في وضع استثنائي جدا، لكن ذلك لا يمنع من الاتكاء على الخلفيات التاريخية والبنية الاجتماعية والسياسية والجغارفية لفهم ما يجري دون عصبيات تنظيمية وفرح او كره طفولي وعدم الاستجابة لتساؤلاتنا هي اجابة موحية بالكثير..ربما.