
في الحد الأدنى من المكان

إبراهيم الزيدي
ما الذي تفعله الطيور حين تسمع صوت الرصاص ليلا؟ أحاول أن أتصور خوفها، وأقارنه بالخوف الذي ينتابني كل ليلة. كلانا يلبث في الحدّ الأدنى من مكانه، ويستنهض الطاقة القصوى لحاسة السمع. وحين تتباعد الأصوات أو تخفت، تستيقظ الندوب التي خلفتها الخيبات في نفوسنا، وصور الذكريات التي تجاوزنا آلامها، وتستيقظ معها كل الجراح التي توهمنا أنها التأمت.
لقد حدث في اللاذقية ما كنّا نتوقعه أن يحدث يوم 8/12/2024!! فوجدتني «أقليّة» بين أقليات كثيرة «إنسانية وطائفية وسياسية وعرقية»، «أقليّة» خائفة من الجميع! «أقليّة» تلوذ بالفضاء الافتراضي، وتبحث عمن يواسيها، ويطبطب على خوفها لعله يهدأ. والمثير للاهتمام أن هذه الأقليّة التي أنتمي إليها تتواجد في كل المحافظات، وبأعداد كبيرة. تراهم يمشون بين تداعيات الأسئلة، والاحباطات المكدسة، وينتظرون أن يخرج عليهم من داخل الكابوس أحد ما، ويخبرهم أنه كان مناما.
حين كانت الرقة في الذاكرة استطعنا أن نحتمل كل الأخبار الواردة منها؛ وعنها. كان القصف كلمة؛ والدمار كلمة؛ والفوسفور الأبيض كلمة؛ والموت كلمة أيضاً! ما الذي حدث الآن؟ لقد امتلأت ذاكرتي بالكلمات، وها أنا أمام معانيها. لم تعد المشكلة في الجراح التي لا تلتئم. المشكلة في الانتماء الذي ليس له جذر مكاني، حيث إن اقتلاعك لا يكلف الآخر سوى مكالمة هاتفية (من فضلك، بدنا البيت) بهذا الإيجاز المهذب اللطيف يطلب منك المؤجر إخلاء البيت. منذ عام 2013 والخوف من تلك المكالمات الهاتفية يؤرقني. لدرجة صرت أجزع ما أن يرن هاتفي، ولا يهدأ روعي إلا بعد أن أقرأ اسم المتصل على شاشة الموبايل، فإن كان المؤجر هو المتصل، ألبث برهة قبل أن أرد.. تلك البرهة تفضح هشاشتي أمام زوجتي وأطفالي، فتنخطف وجوههم، في تلك اللحظة بالذات، وأنا أنظر إليهم، أغلق فمي على آلاف الشتائم.
(كلنا وطن واحد، كنت آخذ هذا المسكن في الليل حتى تهرّأ جسمي، وصار المسكن في حاجة للمسكنين).
من الذي قال إن العالم أصبح قرية صغيرة؟ لا، ولن يكون. فالعالم ليس (هُنَا) وإن اتصلت بها كل «هاءات» التنبيه، ولا هو (هناك) وإن اتصلت بها كل «كافات» الخطاب، و»لامات» البعد. العالم (هنا وهناك)، ولكل منهما بنائية هوياتية خاصة حتى في الوطن الواحد: «اختلاف العادات والتقاليد واللهجات وغير ذلك». لذلك فإن الهوية (لا تعطى مرة وإلى الأبد، فهي تتشكل وتتحول على طول الوجود)، وفي كل تشكل يموت جزء من عناصر الهوية، وينبت جزء جديد، وقد حدث هذا غير مرة عبر التاريخ، وتغيرت لغات وعادات وانتماءات وعقائد وأديان. ما الذي يريده أولئك الذين ينظرون إلى الناس من خلال عنصر واحد من عناصر الهوية؟ كيف يفكرون؟ لست خائفا على هويتي، كل الخوف أن تسقط أحلامنا القديمة، ويصبح الخلاص الفردي هاجس الجميع. ولست متشائما، لأنني أعرف أن سوء الظن مجازفة، ولكن، وفي الوقت نفسه، أخشى أن يكون الأمل أيضا مجازفة.
يقول نجيب محفوظ: (وطن المرء ليس مكان ولادته، ولكنّه المكان الذي تنتهي فيه كل محاولاته للهروب)، فالناس لن تتوقف عن البحث عن ملاذ آمن يحفظ حقوقها وكرامتها. سوريا الآن عجوز تلوّح بيدها خلف جدار النسيان، وامرأة ترسم ساعة على معصم ابنها، لعله يسرق بعض دقائق الحياة، قبل أن تسقط من راحتيه أصابع الأسئلة. سوريا الآن رجل متعب، يتوسد حجر امرأة في حديقة عامة، بعد أن سقطت طائرة أحلامه التي لا يوجد في صندوقها الأسود سوى صورة تلك المرأة، واسمها. (إنه العيد؛ وأريد يا الله أن أشتري لهذا الحزن ثوباً جيداً).
كاتب سوري