أصغر فرهادي .. المعلّم يكشفُ أسرارَه
بروين حبيب
لما حصل نجيب محفوظ على جائزة نوبل قيل إنّ محليّته هي من أوصلته إلى العالمية، ولهذه الفكرة تمظهرات نراها مرارا ليس آخرها عند الروائية الكورية الجنوبية هان كانغ، التي حصلت على نوبل للآداب هذه السنة. وردت على الذهن هذه الخاطرة وأنا أقرأ كتاب «من الصورة إلى الصورة .. كيف يُكتب السيناريو؟» للمخرج وكاتب السيناريو الإيراني أصغر فرهادي، الصادر قبل أسابيع عن منشورات تكوين ودار الرافدين، بترجمة أصغر علي كرمي. فمثله مثل نجيب محفوظ وحاراته القاهرية، أو هان كانغ ومأساة مدينتها غوانغجو، كتب فرهادي فيلما وأخرجه بعنوان «انفصال نادر وسيمين» عن معاناة زوجين في إيران ومشاكلهما الاجتماعية، وهذا الفيلم الموغل في المحلية الذي وصفه فرهادي نفسه بقوله «كان في نظري فيلماً محلياً ذا ميزانيّة متواضعة. لم أحسب أنّ أحداً خارج البلد سيشاهده، إلى درجة أنني لم أُعدّ له ترجمة من الفارسيّة إلى الإنكليزية». أحدث مفاجأة كبيرة إذ نال في سنة واحدة خمسا من أهم الجوائز السينمائية العالمية، ابتداءً بجائزة «الدب الذهبي» عن أفضل فيلم في برلين، مرورا بجائزة «سيزار» الفرنسية لأحسن فيلم أجنبي وصولا إلى حلم كل عامل في مجال السينما جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي سنة 2012.
ولم يكن نيل أصغر فرهادي جائزة الأوسكار صدفة لم تتكرر، بل نالها مرة ثانية بعد خمس سنوات عن فيلمه «البائع» وكان للضجة السياسية التي صاحبت الفيلم دور في انتشار اسم فرهادي، حيث غاب عن الحفل احتجاجا على منع الإيرانيين من دخول أمريكا. فالأوسكاران اللذان نالهما ليسا سوى حبتي لؤلؤ في مسبحة فيها عشرون جائزة سينمائية دولية كبيرة، منذ أخرج قبل 21 سنة أول فيلم طويل له «الرقص في الغبار»، فقد استهوت السينما أصغر فرهادي باكرا من زمن مراهقته، حين صور أول أفلامه القصيرة وهو في الثالثة عشر من عمره في أصفهان ومن حينها أصبحت حياته منذورة للفن السابع، حيث أنجز خمسة أفلام قصيرة، حتى قبل بداية تخصصه الجامعي، وكان قد دَرس للمفارقة المسرح لا السينما، ولكنه لم يأسف على ذلك، بل رآه قيمة مضافة حين صرّح مرة حزنتُ كثيراً لأنهم لم يُدخلوني معهد السينما، لكن مع الوقت أيقنتُ أن المسرح هو المكان الصحيح.. ولولا تلك الفترة، لما صرتُ ربّما مخرجاً سينمائياً». فحصل على شهادة البكالوريوس في الفنون الدرامية ودرجة الماجستير في الإخراج المسرحي من جامعة طهران، وكتب رسالته عن تفصيل دقيق في الكتابة المسرحية، إذ كانت عن «وظيفة التوقف المؤقت بين الجمل في أعمال المسرحي البريطاني هارولد بنتر». وفي جمعية شباب أصفهان للأفلام صور بكاميرا 8 مم و16 مم أفلاما قصيرة، وكتب مسرحيات وسيناريوهات للتلفزيون الإيراني، ولكن أول ظهور حقيقي له كان مع كتابة سيناريو فيلم «ارتفاع منخفض» سنة 2002، ومن يومها لم يتوقف عن الإبداع السينمائي كتابة وإخراجا وافتك الاعتراف العالمي بهذا القادم من تقاليد سينمائية بعيدة عن الإبهار الهوليوودي، مزودا بقصصه البسيطة الإنسانية كالإجبار على الطلاق في «الرقص في الغبار» أو التفكك الأسري في «أربعاء الألعاب النارية» واضعا أبطاله العاديين في أوضاع صعبة ومآزق، وتسجيل ردود أفعالهم ليصنع لنا الفرجة والتشويق فهاجسه الأول والأخير أن لا يكون الفيلم مملا.
كتابه «من الصورة إلى الصورة.. كيف يُكتب السيناريو؟» ليس في حقيقته كتابا ألّفه، بل هو «جمع لملخصات دروسه في كتابة السيناريو، التي سجلت كملفات صوتية مأخوذة من محاضرات ومداخلات ألقاها فرهادي على طلبة صناعة الأفلام وكتابة السيناريو في السنوات الأخيرة»، وقد رأى الكاتب والسينمائي العماني عبد الله حبيب في مقدمته للكتاب أنه «يمثل مساقا تثقيفيا شاملا ومتكاملا عن السينما، كما رآها فرهادي وخبرها، وكما يطمح إليها». فهو أشبه بالدليل التطبيقي، أو ورشة كتابة السيناريو من كاتب يفتح صندوق أسراره الذي أوصله إلى العالمية، ويضعه أمام كل مهتم بالكتابة السينمائية، ويعطي أمثلة من أعماله ومن أعمال أعجبته. فيبدأ أصغر فرهادي من أبسط ما يتبادر على ذهن من ينوي كتابة سيناريو أي «الفكرة» ليقرر ببساطة متناهية «لكتابة السيناريو نحتاج إلى فكرة» ومثل سلفه الجاحظ الذي كان يرى أن «المعاني مطروحةٌ في الطريق» يرى فرهادي أن القصص موجودة دائما، وعلينا فقط العثور عليها، بطرح الأسئلة، فإذا بقيت الفكرة في رأس الكاتب لفترة ولم تغادره فعليه أن يبدأ بتوسيعها باستمرار.
وهذا ما يشرحه في فصل بعنوان الشروع في الكتابة، أي توسيع فكرة الثلاثة أسطر إلى صفحة واحدة وهو ما يسميه بالخطة، مشترطا أن تكون للقصة بداية ونهاية، عكس ما هو معروف عنه من أن نهاياته مفتوحة، ويشبّه القصة بحبل غسيل مربوط بين جدارين، في حين أن المَشاهد تشبه الملابس التي نضعها على الحبل، ثم يطور كاتب السيناريو الصفحة إلى عشر صفحات حيث تتبين معالم قصته.
تعوّد أصغر فرهادي أن يستمزج رأي غير المتخصصين في نصوصه، فيعرضها على عائلته، على زوجته أو أمّه أو أخيه أو حتى جاره، يروي في إحدى مقابلاته عن فيلمه «الماضي» قائلا: «عندما انتهيت من كتابة السيناريو، أعطيته لابنتي وطلبت منها أن تذهب إلى المدرسة وتسلّمه لمعلمتها التي لا تعرف الكثير عن السينما. قرأته هذه الأخيرة وكتبت لي العديد من الملاحظات المفيدة». كما يدعو كاتب السيناريو المبتدئ أن لا يعتبر قواعد الكتابة مقدسات، بل يدعوه إلى تجاوزها ليضع قواعد الفيلم الخاص به، في ما يشبه نوعا من التفكير خارج الصندوق، فالمعتاد في كتابة السيناريو مثلا، أن يُعطى للقطار معنى الانفصال والفراق، ولكن ممكن أن يستخدمه السيناريست بمعنى مغاير فيعطيه رمزية اللقاء.
يفرد أصغر فرهادي في هذا الكتاب مساحة واسعة للشخصيات، فبعد التقسيم الكلاسيكي إلى شخصيات رئيسية تملك حرية التصرف سواء كانت في دور البطل أو ضد – البطل، وشخصيات ثانوية حدد دورها في أن تترك الشخصية الرئيسية تتحدث معها لتقول ما يدور في رأسها فيتعرّف الجمهور على أفكارها، ركّز على ما سماه الشخصيات الفنية، ورغم أن دورها عادة ما يكون قصيرا جدا مثل بائع جرائد في الشارع، أو حتى شرطي مرور، لكن وظيفتها أن تصنع العالم الحقيقي للفيلم وتجعله قابلا للتصديق، يشرح ذلك قائلا، «ما أكتبه بالفعل، أو أصوّره، أو أصنعه، إن لم أصدقه أنا أولا كأول مشاهد حتى إن قال العالم كله إنه رائع فلن أستخدمه». هذا التركيز على ما يراه الآخرون ثانويا وليس ذا أهمية هو ما يصنع تميز فرهادي، فمثل الشخصيات الفنية هناك الحوار الفني وهو الأحاديث البسيطة وغير المهمة، مثل تحية شخصين لبعضهما قبل الشروع في مكالمة مهمة، يراه فرهادي أصعب من الحوار الدرامي، بل هو يجعل الحوار أصلا في مرتبة ثانية بعد الصورة، ففي رأيه أن الفيلم الذي يحتوي صورا أكثر وحوارا أقل هو الأفضل.
في الكتاب تحليلات تطبيقية، مثل تحليله لمشاهد من فيلم «أزرق» لكيسلوفسكي، أو فيلم «عربة اسمها الرغبة» بطولة مارلون براندو، يجد فيها القارئ نماذج عملية لما يطرحه نظريا مع تأكيده الدائم على الفصل بين وظيفتي المخرج وكاتب السيناريو ضاربا المثال بنفسه في قوله «عندما أكتب السيناريو لا أرى نفسي مخرجا لذلك السيناريو، ولا أتدخل في اختيار الممثلين»، بل يرى أن السيناريو ليس عملا مثاليا وينبغي أن لا يكون مثاليا لأن سلسلة من الأشخاص سوف يكملونه فلا يجوز للكاتب كتابة التفاصيل، كما يرفض أصغر فرهادي أن تكون للفيلم وظيفة رسالية، ففي نظره أن آفة السينما هي الحوارات الخطابية وتمرير الرسائل، مستعينا بكلمة المخرج الكبير إنغمار برغمان: «إذا كنت تريد إرسال رسالة إذهب إلى مكتب التلغراف، لا يوجد مكان لإرسال الرسائل هنا».
من يقرأ كتاب أصغر فرهادي «من الصورة إلى الصورة .. كيف يُكتب السيناريو؟» يكتشف السبب الكامن وراء تميز هذا المخرج وكاتب السيناريو الذي لا يشبه أحدا، والمعروف بحرصه على كل تفصيل متخذا من السؤال غاية في حد ذاته فهو يرى «أنّ عالمنا بحاجة إلى من يطرح الأسئلة أكثر من حاجته إلى من يتطوّع بالإجابة، إنّه بحاجة إلى من يضع علامة الاستفهام أمام أيّ شيء مهما بدا قاطعا». فإلى أين سيقوده السؤال؟ ذلك ما ننتظر إجابته في فيلمه المقبلصمت المنظمات الدولية، التي سوف تفقد هيبتها وأهميتها، وصمت العواصم العربية.
شاعرة وإعلامية من البحرين