تحقيقات وتقارير

رغم الإبادة وخطط الترانسفير: “هجرة” الغزيين وإفراغ القطاع أمر مستحيل

رغم الإبادة وخطط الترانسفير: “هجرة” الغزيين وإفراغ القطاع أمر مستحيل

حتى لو توقفت الحرب على غزة، بعد سنة أو سنتين، فإنها قد تُستأنف في يوم ما، بعد سنوات، ليس لأن الفلسطينيين سيسعون إليها، وإنما لأن إسرائيل لا ترى واقعا يتمتع فيه الفلسطينيون بالحرية والاستقلال. ولماذا تقدم الإمارات رشوة مقابل الترانسفير؟

ينبغي القول بداية أن التظاهر هو حق للمظلوم ضد الظالم. وفي إسرائيل، المظاهرات ضد الحكومة متواصلة منذ أكثر من أسبوع، وحتى أنها تجري على مدار الساعة، ليلا نهارا، استمرارا للمظاهرات الأسبوعية، الحاشدة أحيانا، في تل أبيب وبمشاركة عشرات الآلاف، منذ أكثر من سنتين.

في الأسبوع الأخير، اندلعت المظاهرات ضد قرار حكومة بنيامين نتنياهو إقالة رئيس الشاباك، رونين بار، والمستشارة القضائية للحكومة، غالي بهاراف ميارا. وتطالب هذه المظاهرات بوقف تقدم خطة “الإصلاح القضائي” الحكومية التي تهدف إلى إضعاف جهاز القضاء، التي وصلت ذروتها الآن بسن قانون يغيّر تركيبة لجنة تعيين القضاة، بهدف سيطرة الحكومة على جهاز القضاء. كما تطالب هذه المظاهرات بوقف الحرب على غزة من أجل مواصلة تبادل الأسرى، وإعادة 59 أسيرا إسرائيليا، أحياء وأموات، المتبقين في غزة.

ربما بالإمكان اعتبار المظاهرات المناهضة للحكومة في إسرائيل بأنها تطالب بالرفاه لسكان إسرائيل والعيش حياة طبيعية في الدولة، لا يشوبها تسييس لجهاز القضاء ولمناصب “حراس العتبة”، ورغم أن الاحتجاجات في إسرائيل تعكس أزمة داخليا، وتوصف بأنها تعكس انقساما وشرخا في المجتمع الإسرائيلي، لكن إسرائيل لا تواجه خطرا وجوديا بأي شكل. وفي مرحلة ما، خلال أقل من سنتين في الحد الأقصى، ستجري انتخابات يرجح أن تطيح بتحالف نتنياهو، وفقا للاستطلاعات.

هذا الامتيازات التي يتمتع بها الإسرائيليون ليست موجودة في قطاع غزة، الذي يتعرض سكانه، المدنيين بالأساس، للإبادة والتجويع والنزوح ومخططات الترانسفير التي تمارسهما إسرائيل، منذ قرابة 18 شهرا، دون أن يرجف جفن في إسرائيل، لا في الحكومة ولا في المعارضة أيضا. فالإسرائيليون لا يرون وجودا في هذا العالم سوى لأنفسهم فقط، وهم يتظاهرون من أجل أنفسهم ضد ما يرونه خطرا عليهم وعلى رفاهية حياتهم.

بعد 18 شهرا، كان طبيعيا وحسب أن يخرج سكان في غزة للتظاهر، ضد إسرائيل ومطالبتها بوقف الحرب، وضد حركة حماس أيضا. فالمظاهرات هي ضد الحاكم غالبا، وحماس هي الحاكم في غزة. والتظاهر هو أضعف الإيمان. ورغم ذلك، كان عدد المتظاهرين فيها ضئيل، مئات معدودة، وخرجت في المناطق التي يتواجد فيها الجيش الإسرائيلي، في بيت لاهيا وجباليا ومدينة غزة، وهي أيضا المناطق التي يخطط الجيش الإسرائيلي بعد استئناف الحرب إلى دفع سكانها، الذين عادوا إليها مؤخرا، إلى النزوح مجددا نحو جنوب القطاع.

لا شك في أن غضب سكان غزة لا حدود له. فلا توجد عائلة في القطاع لم تفقد أفرادا فيها بالنيران الإسرائيلية، التي كانت عشوائيتها مخططة سلفا، واستهدفت الأطفال والنساء والرجال والمسنين. وطبيعي أيضا أن يعتقد قسم من الغزيين أن حماس أخطأت عندما شنّت هجوم 7 أكتوبر، أو أنها لم تحسب نتائج هذا الهجوم، وهذا لا يعفيها من المسؤولية كونها السلطة الحاكمة في القطاع.

إلا أن هذا كله لا يجعل إسرائيل بريئة من جرائمها، مثلما تحاول تصوير المظاهرات الضعيفة جدا في شمال القطاع. وهذه المظاهرات لن تؤثر على سير الحرب. والحكومة الإسرائيلية التي لم ولن تتأثر بمظاهرات معارضيها الداخليين، لن تتأثر بمظاهرات غزيين. أي أن المظاهرات ضد حماس في القطاع لن تغير وجه الحرب. بل على الأرجح أنها قد تصعّد شدة الحرب.

غضب سكان غزة على حماس، وإن لم يكن معلنا في الغالب، مفهوم. غير أن الأمر البديهي هو أن غضب سكان غزة ضد إسرائيل، التي تبيدهم، أكبر وسيكبر أكثر وسيستمر لأجيال فلسطينية كثيرة قادمة. ولذلك، لن تخبو المقاومة الفلسطينية، مثلما لم تخبُ منذ النكبة قبل 77 عاما. وهذا يعني أنه حتى لو توقفت الحرب على غزة، بعد سنة أو سنتين، فإنها قد تُستأنف في يوم ما، بعد سنوات، ليس لأن الفلسطينيين سيسعون إليها، فقد تعلموا الدرس من الحرب الحالية، وإنما لأن إسرائيل لا ترى واقعا يتمتع فيه الفلسطينيون بالحرية والاستقلال.

رشوة الترانسفير

تصف إسرائيل خطة تهجير سكان قطاع غزة بأنها “هجرة طوعية”. لكن المنطق السليم يقول إن لا أحد يتطوع “للهجرة” من وطنه. ورغم أن التاريخ شهد هجرة جماعات من أوطانها خلال حروب، لكن هذه الجماعات المهاجرة غادرت تاركة قسما كبيرا من شعوبها في أوطانها، ولم يحدث أن أفرغت شعوب أوطانها كليا.

إسرائيل تريد إفراغ قطاع غزة من جميع سكانه، وتهجيرهم إلى دول أخرى، غالبيتها دول نائية وفقيرة، مثل مصر والأردن ودول في أفريقيا، وأخيرا جرى الحديث عن إندونيسيا، في ما وراء البحار. “هجرة طوعية” جماعية كهذه يستحيل أن تحدث. قد يوافق قسم على مغادرة القطاع معتقدا أنه يتجه إلى حياة أفضل وعمل دائم ورفاهية العيش، بموجب وعود إسرائيلية، وهي في الواقع أشبه بوعد إبليس بالجنة.

لقد جرّب سكان غزة وعودا إسرائيلية كهذه. في أعقاب حرب حزيران/يونيو 1967، وضعت إسرائيل خطة لتهجير 60 ألفا من سكان غزة إلى باراغواي. ووعدت إسرائيل الراغبين في “الهجرة” بمبلغ 100 دولار وبتوفير عمل، لكن لم يهاجر سوى 30 مواطنا غزيا، وتبين أنهم لم يحصلوا على الـ100 دولار ولم يتم توفير عمل لهم هناك أيضا، وفشلت هذه الخطة.

وتبين هذا الأسبوع أن هناك خطة إسرائيلية جديدة “لهجرة طوعية” إلى إندونيسيا، وفي إطار تجربة أولية لها يتم نقل 100 مواطن من غزة للعمل في إندونيسيا، وإذا نجحت هذه التجربة سيتم تهجير آلاف الغزيين، حسب القناة 12 الإسرائيلية. وإندونيسيا هي رابع أكبر دولة في العالم وأكبر دولة إسلامية، وعدد سكانها قرابة 300 مليون نسمة. وهذا يعني بكل تأكيد أنها ليست بحاجة لآلاف العمل من غزة على حساب ملايين العمال المحليين، ولذلك هذه خطة إسرائيلية فاشلة أخرى.

السيسي وبن زايد، السبت الماضي (الرئاسة المصرية)

إن تكرار الخطط الفاشلة يدل على غباء نابع من نشوة القوة. هذا في حالة إسرائيل. لكن هناك غباء نابع من نشوة الثراء، وهذا في حالة الإمارات. في الأسبوع الماضي، أبلغت الإمارات إدارة ترامب أنها ستستثمر مبلغ 1.4 تريليون دولار في بنى تحتية في الولايات المتحدة، على مدار عشر سنوات. ويوم السبت الماضي، التقى رئيس الإمارات، محمد بن زايد، نظيره المصري عبد الفتاح السيسي، في القاهرة، وسلمه رسالة أميركية، تنص على أن تستقبل مصر 500 – 700 ألف مواطن من شمال قطاع غزة، مقابل ضخ مليارات الدولارات إلى الاقتصاد المصري.

بكلمات بسيطة، هذه رشوة ولكنها ليست مجرد مخالفة جنائية، وإنما هي جريمة حرب، تندرج في إطار تحالف “اتفاقيات أبراهام”. وفي إطار هذا المخطط، في مرحلة لاحقة، سيتم تهجير عدد كبير من الفلسطينيين من الضفة الغربية إلى الأردن. ماذا ستستفيد الإمارات؟ المخفي أعظم. ربما الهدف هو تحقيق “الوطن البديل”: الأردن هي فلسطين.

إذا كانت التقارير التي تحدثت عن خطة كهذه صحيحة، فإن السنوات المقبلة ستشهد صراعات شديدة للغاية. فالأردن لا يمكنها تحمل عدد آخر من الفلسطينيين، خاصة أنهم سيكونون مهجرين وليس “مهاجرين”. وتحويل الأردن إلى فلسطين، واستيلاء إسرائيل على فلسطين التاريخية كلها، وبوجود أطول حدود بينهما لا يبشر أبدا بسنوات مقبلة هادئة. هل الرسالة الأميركية لمصر هي مجرد ضغط يمارسه ترامب ومحوره في المنطقة من أجل تمرير مخطط آخر؟ هذا ليس واضحا حاليا، لكن الأمر الواضح مثل سطوع الشمس هو أن على الفلسطينيين، بكافة توجهاتهم وأفكارهم أن يبدأوا بإعادة النظر في ماضيهم والتخطيط لمستقبلهم، ويُفضل أن تفعل ذلك قيادات ونخب فلسطينية جديدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب